"فوانيس عتيقة" ومضات شعرية خاطفة

قصائد ديوان جاسم العلي تنوعت موضوعاتها الإنسانية بين الرومانسي والاجتماعي والوطني، وتمظهرت بشكل نصوص شعرية مختزلة.
صنّاع الجمالي الأدبي تنبهوا إلى أهمية تبني معادلة جديدة من التوازن بين عناصر الخطاب
ومضات خاطفة تحمل في طياتها الكثير من الدلالات
البصريات الحسية والمراهنة على سيماء الصورة ودلالتها في أنساق الخطاب

صدر حديثا ًللشاعر العراقي جاسم العلي مجموعته الشعرية الجديدة التي تحمل العنوان "فوانيس عتيقة"، وذلك عن دار ثائر العصامي للطباعة والنشر والتوزيع ببغداد، ويحتوي الديوان الذي يقع في 74 صفحة من القطع المتوسط على إحدى وخمسين قصيدة، تنوعت موضوعاتها الإنسانية بين الرومانسي والاجتماعي والوطني، وتمظهرت بشكل نصوص شعرية مختزلة أشبه بومضة خاطفة تحمل في طياتها الكثير من الدلالات. ولعل عنوان الديوان يعكس شكلا ً من أشكال تلك النصوص. 
ويمكن القول إن الشاعر جاسم العلي قد عمِد َإلى تبني أسلوب الإيجاز للشعري في محاولة لمواكبة مظاهر العصر التي بات الاختزال فيها صفة تسود مختلف منابر التعبير حيث البصريات الحسية والمراهنة على سيماء الصورة ودلالتها في أنساق الخطاب، لذلك فقد أدرك الكثير من صنّاع الجمالي الأدبي أو الفني إلى أهمية تبني معادلة جديدة من التوازن بين عناصر الخطاب. 
وفي إطار الحديث عن فكرة الإيجاز فقد باتت تستهوي الكثير من الشعراء، والمعروف أن مفهوم الإيجاز في اللغة هو تقليص مساحة الكلام وتكثيفه وتطويعه لصالح إيجاد المعنى أو المغزى الأكبر الذي يريد الشاعر إيصاله وبحسب سوسير، ثمة توظيف للإيجاز يعتمد على إخراج الصورة من معناها المستخدم لسانيا ًإلى المعنى اللامتوقع وكثيرا ًما يتجسد ذلك في الجملة الشعرية أكثر من غيرها من فنون الأدب حيث تنتقل الألفاظ من معناها اللغوي إلى معناها الكلامي.  
وقد حاول الشاعر العلي تجريب هذه الآلية في نصوص هذا الديوان، ونجح في الكثير من نصوصه : 

هذا اللون الشعري قد انتشر في السنوات المنصرمة الماضية إستجابة لضرورات العصر الذي نعيش حيث سرعة إيقاع حياتنا اليومية 

أو َ كلما حمِلت ُ إليك ِ 
النرجسة َ بيدي 
نثرتَها مسافاتُ، 
.... التعلثم 
وإضطراب ُمخاوفنا الضئيلة. (ص 47 من قصيدة تلعثم).
وفي إطار الحديث عن قصائد ديوان "فوانيس عتيقة" لا بد من الحديث عن شكل القصيدة التي وردت في هذا الديوان التي عكست هموم الشاعر حيال العديد من الموضوعات الإنسانية. 
الأجنة ُ 
لم تكتمل 
بيد أنَّ الأعاصيرَ، 
تُطلق ُفيها ثواني الخروج 
تُرى من يُفوّج 
في تداخل ِهذه البحار 
كي يفسرَ للحزن ِ 
... معنى التضاؤل؟ 
فقد تنوعت قصائد الديوان بين الرومانسي كما في قصيدة "شغف":
عيناها تحترقان بالتساؤل، 
وأصابعها تحركت 
مثل َ كنيسة ٍأطفأت أنوارَها 
قلبُها الرقيق 
دسّ له في دمي 
أرى رعشَته الهائمة 
ينثرها الفضاء. 

Poetry
التثاقف الإنساني 

ولم يفت الشاعر إنتفاضة أكتوبر/ تشرين في العام 2020 حيث اقتنصت مخيلته الشعرية عددا ً من الصور التي ضجت بها ساحة التحرير وهي تحتضن الصراع بين شباب ينشدون مسقبلا ً مشرقا ً وبين جهات حاولت إسكات صوت الشباب المنتفض ضد الفساد والمفسدين والتبعية التي يعاني منها العراق، فجاءت قصيدة حكايات تشرينية لتعبر عن الحدث بجمل شعرية مقتضبة ومعبرة ومتدفقة. 
1
في تشرين 
بساط الموت أحمر، 
وأصابع الحبيبات 
مثل رمح ِ الرب،
في قلب ِ الخريف 

حين تُغلَق ُالأفق 
بوجه الريح 
لا تخشى الرصاص، 
أو المطر 
فكلاهما ربيع. 

زهرة ُالحرية أنثى 
تشاكس الليل الطويل، 
على صدر الجريح 
... ليستريح. 
وفي رحلة الغوص في ثنايا ديوان "فوانيس عتيقة" يمكن ملاحظة أن عناوين القصائد أيضا ً أخذت طابع الاختزال والاقتصاد والتكثيف، فجاء معظمها بكلمة واحدة مثل (سكون، مسافة، شغف، أنت ِإخترتِ، تفاصيل، صمت) إلى آخره من العناوين التي جسدت متونها فكرة قصائد الومضة التي تعد نمطا ًشعريا ًقد بدأت بواكيره في سبعينيات القرن المنصرم في تجارب عدد من الشعراء حتى تأصل هذا النمط الشعري عبر الزمن ليتبلور بوصفه شكلا من أشكال التجديد الشعري ويتميز بخصوصيته في التركيب، والوحدة العضوية لعناصر القصيدة (الإيحاء، وعدم المباشرة). 
ونلاحظ أن هذا اللون الشعري قد انتشر في السنوات المنصرمة الماضية إستجابة لضرورات العصر الذي نعيش حيث سرعة إيقاع حياتنا اليومية ووفرة ما نتلقاه من مواد صورية وبصرية تحمل الكثير من معاني الصور الشعرية، وثمة آراء تُرجع هذه الأنماط إلى مرجعيات يابانية وأوروبية، بيد أننا نشعر أنه محاولة أدبية تتفاعل فيها عناصر الإيقاع والصورة والفكرة، وتمتزج فيها خصائص تراثنا الشعري العربي مع مفرادت الحداثة العالمية، لأننا ببساطة نعيش هذا التثاقف الإنساني الكوني عبر نوافذ معرفية وإعلامية ذات آفاق رحبة.