لبنى شرارة تبحث مشكلة تجنيس الأدب

الشاعرة اللبنانية المغتربة: الأدب والشعر جزء من مرآة المجتمع الإنساني.
مهمة الناقد اليوم التفتيش عن كتابة نوعية تتخطى قواعد الاجناس الأدبية 
الشعرية العربية تُعدّ موضوع جدل وذلك لتعدّد تعاريفها وتشابك معانيها

لبنى شرارة صوت نسائي شعري مغترب يتسم بهدوء النبرة وينساب بخطى ثابتة في فضاء الشعر، تمتاز تجربتها الشعرية برصانة الموضوعات وبجمال المبنى اللغوي وبطاقته على إنتاج الدلالة من خلال دينامية التأويل التي تستبطن جملتها الشعرية التي نقلت من خلالها همومها وهموم الناس وقضاياهم من خلال صور شعرية معبرة عميقة ومكثفة، وتمكنت من تحقيق حضور متميز في المشهد الشعري الاغترابي العربي في الولايات المتحدة، من خلال إصدارها ديوانين ومشاركتها في فعاليات شعرية أقامتها مؤسسات ثقافية في المهجر، إلتقيتُها مؤخرا ً فكانت معها هذه الدردشة السريعة، وقالت:
أنا لبنانية من بلدة بنت جبيل الجنوبية. درست في مدارس بنت جبيل حتى تخرّجت من ثانويتها الرسمية. التحقت بجامعة بيروت العربية ودرست إدارة الاعمال، كما درّست في عدد من المدارس الخاصّة في بنت جبيل. هاجرت إلى الولايات المتحدة والتحقت بإحدى الجامعات فدرست فيها المحاسبة. وُلد حبّ القراءة والكتابة معي وكنت مدمنة على قراءة كل أنواع الكتب، من شعر ورواية وقصّة وحتى المجلات والجرائد. تأثّرت في مرحلة الصبا بأسلوب الأديب الكبير جبران خليل جبران وبدا ذلك جليّاً في صياغة الموضوعات الإنشائية التي كانت مدرّستي آنذاك سكنة شرارة تطرحها علينا في مادة الإنشاء العربي، لدرجة أنها لقّبتني بـ"جبران"، وكان موضوعي الذي يحظى بإعجابها دائما يُقرَأ امام طلاب الصف في كلّ مرة. ورغم انّي اخترت الاتجاه العلمي الذي كنت متفوّقة في شتى موادّه، في المرحلة الثانوية، فإن أسلوبي الأدبيّ كان يحظى دائما بإعجاب أساتذة مادة اللغة العربية في كل سنوات دراستي الثانوية، ومنهم السيد محي الدين فضل الله، الذي كان يشجّعني بإستمرار على الالتحاق  بفرع من الفروع الأدبية في الجامعة، ولكنّي لم أستمع إلى نصيحته، فاتّجاه بيتنا كان علميا محضا، إذ كان الفكر السائد عند الأهل أن الأدب والشعر لا يُطعمان خبزا، كما يقال. 

دور الجامعات مقصّر في إيصال الصورة الحقيقية للشعر وماهيته وأسراره. إذ تقتصر دراسة الشعر على تقديم النصوص ودراسة جماليتها وخصائصها اللغوية

تابعت نشاطي الأدبي في الغربة، فكتبتُ الكثير من الخواطر والومضات والنصوص النثرية والسردية، وتجارب في القصيدة، قبل أن أبدأ بالنشر في مواقع إلكترونية رصينة مثل موقع "مشارف" الأدبي العالمي، وهو موقع يديره أديب وناقد تونسي كبير له عشرات المؤلفات اسمه د. محمد صلاح بن عمر، وقد قام بترجمة بعض قصائدي إلى اللغة الفرنسية، وهذا الموقع له فرع آخر باللغة الفرنسية وينشر فيه كبار الشعراء الناطقين باللغة الفرنسية من جميع أنحاء العالم؛ لي أيضا صفحة مخصّصة لمنشوراتي في موقع "الحوار المتمدّن"، ونشرت أيضا في موقع "الفكر الحرّ" وموقع "كتابات في الميزان"، وكلها مواقع إلكترونية كما ذكرت. 
نشرت أيضا في الصحف الورقية المحليّة ومنها صدى الوطن واليمني الأميركي والرأي الحر. أشارك أيضا في مجموعات أدبية على صفحات الفيسبوك يقوم بالإشراف عليها أدباء وشعراء كبار وقد حصدت الكثير من شهادات التكريم والتميّز. أكتب الشعر الحر، وشعر الهايكو والتانكا والهايبون والسنريو، وهذه الأخيرة كلها أجناس أدبية يابانية، كما أكتب أيضاً القصة القصيرة جدّا.
أصدرتُ ديوانين، الأول "ابتسامة من رحم الألم" شعر حرّ، والثاني "حديث الفصول الأربعة" شعر هايكو. ولي مشاركة في مجموعة شعرية ستصدر قريبا يقوم بإعدادها وترجمتها إلى الفرنسية الناقد الدكتور محمد صلاح بن عمر، وقد أسماها "الشعر أقوى من الكوفيد"، يشترك فيها سبعة وستون شاعرا من جميع أنحاء العالم، وستكون كلّ قصيدة فيها باللغتين العربية والفرنسية. 
وعن نظرتها إلى مفهوم الشعرية العربية وامتداداتها في فضاء التراث العربي تقول لبنى شرارة: تُعدّ الشعرية العربية موضوع جدل وذلك لتعدّد تعاريفها وتشابك معانيها. ويمكن القول بإختصار إنّ الشعرية هي "قوانين اللإبداع الفنّي". وقد أسّس الشعرية العربية مجموعة من الأدباء والشعراء، كان منهم الأصمعي، ابن سلام الجحمي، ابن المعتز، والمرزوقي الذي أطلق مصطلح "عمود الشعر"، الذي اتّصف بامتلاكه لمعايير الشكل الجميل، والصحّة والاعتدال من حيث شرف المعنى وصحّته واللفظ الجزيل والاستقامة وصدق الوصف والتقريب في التشبيه وترابط الأجزاء والتحامها في النظم والوزن ووجود القافية الشعرية. 
وقد نظر العرب القدماء إلى الشعرية بوظيفتها التي تعبّر عن انتمائهم واحتياجاتهم على عكس الشعريات الحديثة التي تهتمّ بشكل الشعر وليس مضمونه. فالشعر القديم لعب دورا مهما جدا في حياة العرب، حيث إنهم عكسوا من خلاله صورة حقيقية دون تزويق أو تشويه. إذ وثّق الشعر حياة العرب وما تحتويه من جماد وحيوان إضافة إلى ذكر أسماء فرسانهم ومعاركهم وغيرها من الأحداث والمعلومات التاريخية، فاعتُبر سجلا مهمّا لحياة العرب قبل الإسلام ومصدرا موثوقا للمعلومات، حيث اعتمد علماء اللغة على هذا الشعر في وضع قواعد النحو والتأكّد من صحتها.  
تغيّر مفهوم الشعرية مع ظهور الشعر الحديث واتسع ولم يعد مقتصرا على بناء القصيدة الشكلي وضبط الإيقاع الذي كان يقيد حرية الشاعر، في اختيار المفردات والعبارات التي تتلاءم وموضوع القصيدة، فزاد الخيال والتصوّرات، وتنوّع استخدام الأساليب البلاغية في القصيدة الواحدة وصار الشاعر يلجأ إلى الترميز والتأمّلات في الحياة والكون وخلق الإنسان والغاية من وجوده، وظهرت اتجاهات جديدة في القصيدة كالاتجاه السياسي، والقومي، والاتجاه الإنساني والوطني والاجتماعي واختفت اتجاهات المديح والهجاء والفخر. 
إنّ مفهوم الشعرية في الشعر العربي الحديث تعتمد على أسس جديدة تختلف عن أسس القصيدة الكلاسيكية، فالقصيدة الحديثة تُقاس جودتها بالوحدة المتماسكة أي صياغة القصيدة صياغة وحدة عضوية واحدة متسلسلة بحيث لو أسقط بيت واحد لاختلّت القصيدة؛ كذلك يعتمد مفهوم الشعرية في عصرنا الحالي على قدرة الشاعر الإبداعية في استخدام الرمزية وخلق الصور الشعرية الجديدة والمميزة والأخذ بعين الاعتبار ما تحتوي عليه من أساليب  البديع والبيان، كالاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز المرسل وغيرها من الأساليب اللغوية والتعبيرية البليغة. 
إذا فالشعرية الحديثة تختلف في قواعدها عن الشعرية القديمة، وحتى إذا ألقينا نظرة على تقييم الشعرية والبحث عن قواعدها وأسسها في الشعر العمودي الحديث، إذا صحّت التسمية، فإننا نجد أن الرمزية والصور القوية تهيمن على تقييم مقدار شعرية القصيدة؛ أما أنا فأرى أن هذه التطورات التي طرأت على القصيدة العربية في مسارها الطويل من العصر الجاهلي إلى يومنا هي أمور جيدة ولمصلحة الأدب العربي وتاريخه، إذ أغنته بالتجارب والتنوّع ولم تتركه محصورا في قوقعة القصيدة العمودية وحسب، وهذا الأمر فتح باب الترجمات على مصراعيه، وبالنتيجة فتح باب التبادل الثقافي والأدبي والمعرفي، حيث إنّ القصيدة الحديثة هي الوحيدة القابلة للترجمة إلى اللغات الأخرى. وبفتح باب الترجمات وتحرر القصيدة من القيود العروضية، دخلت إلى الشعر العربي أجناس أدبية جديدة كقصيدة الهايكو اليابانية على سبيل المثال. 

وتضيف لبنى شرارة عن مفهومها للجنس الأدبي أنه يتلخّص في كونه مجموعة من الخصائص التي تحكم الممارسة الإبداعية. وترى أن الجنس الأدبي نشأ على مرحلتين:
-    المرحلة القديمة: التي بلغت ذروتها الكلاسيكية، حيث دعت إلى فصل الأنواع الأدبية عن بعضها البعض لينكفئ كلّ نوع ضمن أسوار مغلقة، لا يتراسل فيه مع غيره وهذا هو المذهب الشهير بـ"نقاء الأنواع".
-    المرحلة الوصفية: التي ظهرت حديثا والتي تفترض إمكانية المزج بين الأنواع لتوليد أنواع جديدة. وهي المرحلة التي تميّزت بها الكتابات الحديثة، التي تعطي انفتاحا للنوع الأدبي كي لا يبقى منغلقا على نفسه.
لذلك يمكننا القول إن الجنس الأدبي الذي يزاوج بين أجناس متغايرة هو من أبرز منجزات الحداثة.
من هنا يمكننا القول إنّ مشكلة التجنيس بوصفها ظاهرة في التاريخ الأدبي المعاصر، تبقى قائمة مع انتشار ظاهرة ما بعد الحداثة التي شكّلت خرقا واضحاً لكلّ معطيات الحداثة ولا سيّما التداخل بين الأدبي واللغوي والثقافي، "لانّ ما بعد الحداثة صوّرت اختلاط الأجناس واختلاط النصوص واختلاط القرّاء والنصوص". إنّ تشكّل الأجناس النظرية في مخيلة الناقد هي جزء مما يمكن تسميته بالمنطق البراغماتي للتجنيس. هذا المنطق يشكّل ظاهرة إبداع وتلقي نصية تختلف من ناقد إلى آخر. فمهمّة الناقد اليوم هي التفتيش عن كتابة نوعية تتخطّى قواعد الأجناس الأدبية بما فيها من صفة أدبية، إلى مرحلة العفوية التي يشكّل فيها الجنس الأدبي نفسه بنفسه، حيث يتطلب الأمر تكريس أعراف جديدة في قراءة النصوص.
وهي ترى أن حال المشهد الادبي وبالتحديد الشعري العربي مرتبط ارتباطا وثيقا بتطور الإنسان والمجتمع الإنساني، والانفتاح على الثقافات الأخرى غير العربية. وهذا ليس حال الأدب أو الشعر فقط، فهذا يشمل كل مجالات الحياة، العلمية، العقائدية، الفلسفية، الاجتماعية، النفسية...الخ.
وما دام الأدب، والشعر جزء منه، هو مرآة المجتمع الإنساني، فلا بدّ وأن يتأثر بهذا الانفتاح والتوسع، حتى بتنا نشعر أن الفوضى قد دبّت في الساحة الأدبية وكدنا نفقد السيطرة عليها. لكن يظل لكلّ جنس أدبي سمته التي تميّزه، وأرى أن القارئ، حتى متوسط الثقافة، يستطيع تمييز النص الشعري عن غيره أو أي جنس أدبي عن الآخر، ولا أعتقد أن هناك أزمة تجنيس حقيقية، صحيح أننا في عصر اجتهادات وهذا راجع إلى العولمة والانفتاح وازدياد أعداد البشر واختلاف أساليب التفكير، لكن ما زلنا في حالة سيطرة على المشهد الأدبي، وفي نهاية المطاف وإن كثر الخلط فلا تصل إلى يد القارئ إلا المادة الجيدة شعرا أو قصة أو رواية، وبعد هذا المخاض لا بد من حدوث "غربلة" وولادة مرحلة أدبية واضحة المعالم. 
وتضيف الشاعرة اللبنانية قائلة: على الرغم من الفوضى الحاصلة في المشهد الشعري العربي، والتراجع في وظيفة القصيدة وتراجع الرغبة في القراءة، فإن الإقبال على الشعر وقراءته في داخل المجتمعات العربية لا يزال بحالة جيدة، فرغم المسافة التي تفصلني عن المجتمع العربي فإني أراه بحال أفضل بكثير من المشهد في الخارج. ومن خلال متابعتي على وسائل التواصل الاجتماعي أرى الكثير من المنتديات واللقاءات والأمسيات والنشاطات الأدبية والثقافية، وما لفت نظري هو الاهتمام الذي يحظى به الشعر والثقافة في دول المغرب العربي أكثر من غيره.
هذا من ناحية الإقبال على الشعر وحركة المشهد الثقافي والأدبي. أما من ناحية الكتابة فأرى إقبالا كثيفا على الكتابة ومحاولات الكتابة أكثر من قبل، وأعتقد أن سبب ذلك عائد إلى حاجة الإنسان في عصرنا إلى التعبير عما يختلج في صدره من الحزن والفرح، واستخراج مكنونات النفس التي تعاني من ضغوطات الحياة العصرية، وما تتميز به من كثرة المتطلبات والمشاكل التي تنتشر في أصقاع الارض من أمراض وأوبئة وحروب ومشاكل سياسية واجتماعية وغيرها.
لكن مع هذا الإقبال على الكتابة تُطرح إشكالية التقييم والتجنيس، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتق النقّاد وذوي الاختصاص. فنحن بأمسّ الحاجة إلى النقد أكثر من أي وقت مضى، وهو للأسف شبه متغيّب عن الساحة الأدبية داخل الوطن العربي عامة، وشبه معدوم في خارجه.
كما أن دور الجامعات مقصّر في إيصال الصورة الحقيقية للشعر وماهيته وأسراره. إذ تقتصر دراسة الشعر على تقديم النصوص ودراسة جماليتها وخصائصها اللغوية. واقترح أن تُشكل ندوات أو تقام معاهد للاهتمام بالشعراء الموهوبين والأخذ بأيديهم إلى شاطئ الأمان بدل تركهم يكتبون على سجيتهم دون تقييم أو تقويم أو إصلاح.