قائمقامية إسرائيل

إذا كانت أميركا ضجرت من الشرق الأوسط ومن حروبه اللامتناهية، فدول الخليج أعيتها أيضا سياسات أميركا المتقلبة والقصيرة النظر.
قمة الوقاحة اعتراف أوباما أن مبارك وبن علي كانا حليفين صادقين
لبنان المعرض للزوال مضطر إلى التفكير في جميع الخيارات
ايران وتركيا اختارتا تهديد استقرار العرب واستعادة تاريخ لا مكان له في القرن الـ21
السعودية والإمارات أرسلتا قوات إلى البحرين مع خشيتهما من وجود تواطئ أميركي

معطى هذا المقال إقليمي وعبره لبنانية. في البدء كانت دول الخليج العربي تربط السلام مع إسرائيل بحقوق الفلسطينيين. لكن منذ 2011، تاريخ إطلاق الثورات في العالم العربي برعاية أميركية، قررت هذه الدول ربط السلام مع إسرائيل بأمن أنظمتها أولا، لاسيما أن الفلسطينيين سبقوا دول الخليج إلى مصالحة إسرائيل والتطبيع معها (1993). وقبل التمدد الإيراني في المشرق وشبه الجزيرة العربية، كانت دول الخليج تتردد في الصلح مع إسرائيل لتحاشي مزايدات إيران. لكن بعد التوسع الإيراني ـــ وقد استفادت منه إسرائيل مرحليا ـــ تخطت هذه الدول الخوف من المزايدات، خصوصا وقد لاحظت أن الولايات المتحدة لم تضع أمن أنظمة الخليج، بل أمن إسرائيل أولا، شرطا لعقد تفاهم جديد مع إيران.

هكذا، لم يعد الاعتراف بوجود إسرائيل فقط هدف السلام الخليجي معها، بل التطبيع والتحالف بحيث تصبح إسرائيل شريكا سياسيا واقتصاديا وعسكريا يعوض تقصير أميركا وانكفاءها. ما كان خيار إسرائيل مقبولا لو تصرفت تركيا وإيران كقوتين صديقتين وأنشأتا مع المنظومة العربية، وبخاصة مع دول الخليج والمشرق، تحالفا وديا يعزز التقدم والازدهار والأمن الإقليمي والسلام العالمي. فإيران وتركيا، خليفتا أكبر إمبراطوريتين تاريخيتين في المنطقة، ليستا بحاجة إلى اعتماد سياسة توسعية لتكونا عظيمتين وغنيـتين وآمنتين ومكتفيتين اقتصاديا. لكنهما اختارتا استعادة مشروع لا مكان له في القرن الحادي والعشرين، والمزايدة على العرب وتهديد استقرارهم.

تصاعد توجه دول الخليج نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل بعدما لمست اختلال الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. فبينما وسعت إسرائيل مصالحها مع العرب، قلصت أميركا مصالحها الحيوية في الخليج، وفقدت قابلية شن حروب في الشرق الأوسط. وحين تخفض أميركا اهتمامها بالـمنطقة، تعطي الأولوية للتسويات على الحلول الجذرية التي تستدعي الاحتكام إلى القوة أحيانا. وما زاد قلق دول الخليج أن موقف الإدارة الأميركية يلتقي مع رغبة الشعب الأميركي.

ما كان تحليلا، أكده باراك أوباما في مذكراته، "الأرض الموعودة"، فكشف أن إدارته كلفت سامانثا باور سنة 2010 (مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة بين 2013 و2017) بالإشراف على الثورات العربية. وذكر أنه وافق على التخلص من زين العابدين بن علي في تونس (14 كانون الثاني/يناير 2011) وحسني مبارك في مصر (11 شباط/فبراير 2011). وقمة الوقاحة اعتراف أوباما أن مبارك وبن علي كانا حليفين صادقين، وقادرين على تسليف الولايات المتحدة المواقف الشجاعة.

أيقنت دول الخليج حينئذ خطورة الاتكال الكلي على الولايات المتحدة في مواجهة الثورات العربية والتمدد الإيراني والنفوذ التركي والموجة التكفيرية، فكان خيار التحالف التدريجي مع إسرائيل. وجدت إسرائيل في "الثقة" العربية فرصة لتسوق في المجتمعين العربي والدولي أن تصديها لإيران ليس دفاعا عن أمنها فقط، بل عن أمن العرب أيضا.

لم يتردد زعماء دول الخليج في إبلاغ واشنطن الانزعاج والخيبة من سياستها. فبعد سقوط بن علي ومبارك، يذكر أوباما أنه تلقى اتصالين: الأول من العاهل السعودي آنذاك الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والآخر من الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي. استهجن الملك عبدالله ما جرى وقال لأوباما: "إن مشكلة الشرق الأوسط ليست بالأنظمة التي انقلبتم عليها، بل بالإخوان المسلمين وحزب الله، والقاعدة وحماس". اعتبر أوباما "منطق الملك عبدالله غير مستقيم". أما الشيخ محمد بن زايد، الذي يتميز أيضا بشجاعة الموقف، فقال لأوباما: "بصراحة ليست الولايات المتحدة شريكا ذا صدقية على المدى الطويل". وبادرت السعودية والإمارات وأرسلتا قوات إلى البحرين من دون التشاور مع واشنطن لأنهما خشيتا تواطؤا أميركيا تجاه الجزيرة الصغيرة.

اجتهدت واشنطن لإسقاط حلفائها في الشرق الأوسط، وتمهلت في إسقاط أعدائها مثل نظام بشار الأسد وحزب الله وإيران. لقد تصرف أوباما في تلك المرحلة كأنه رئيس منظمة غير حكومية: ترك الأسد يستخدم السلاح الكيماوي، وإيران تنشئ الهلال الشيعي، وحزب الله يسيطر على لبنان، والتكفيريين يرتكبون المجازر ويبيدون المسيحيين خصوصا.

إذا كانت أميركا ضجرت من الشرق الأوسط ومن حروبه اللامتناهية، فدول الخليج أعـيـتها أيضا سياسات أميركا المتقلبة والقصيرة النظر. فمنذ إسقاط شاه إيران ـــ وكانت واشنطن ضالعة بالأمر ـــ وتحرير الكويت سنة 1991، وطرد الجيش العراقي منه، تعيش دول الخليج أمنها يوما بيوم. وحتى حين خلعت واشنطن نظام صدام حسين سنة 2003 ـــ وكانت غلطة أوائل القرن الحادي والعشرين ـــ شعرت دول الخليج بقلق حين تبين لها لاحقا أن صدام كان السد المانع تدفق الهيمنة الإيرانية إلى العالم السني. وتضاعف هذا القلق مع سحب واشنطن قواتها تدريجا من دون أن تنشط ديبلوماسيا في الاتجاه الصحيح. راحت تمارس الحرب البديلة بعقوبة هنا وحصار هناك واغتيال هنالك. وكل ذلك لا يروي عطش الصحراء.

بقدر ما دول الخليج على حق في قلقها من الولايات المتحدة، ونحن اللبنانيين لدغنا قبلها منها، جدير بها ألا تحكم على مصير العلاقات مع إسرائيل استنادا إلى تصرفات الأخيرة في "شهر العسل" الذي رافق اتفاقات التطبيع وأعقبها. فدولة إسرائيل، المبتهجة بأفراح التطبيع الآن، صعبة الـمراس وباهظة الثمن. تأخذ البحر ولا تعطي الساقية إلا وقد نضب ماؤها. إسرائيل لا تتفرد في سياستها العربية بمنأى عن واشنطن، كما أن لديها علاقات علنية ومستترة مع أخصام دول الخليج في المنطقة والعالم.

حين تصبح إسرائيل خيارا استراتيجيا عربيا، تتحمل إيران وأميركا مسؤولية هذا التطور كما كانت أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية وحلفاؤها اللبنانيون مسؤولين عن اضطرار الجبهة اللبنانية سنة 1976 إلى قبول مساعدة إسرائيل حفاظا على كيان لبنان والوجود المسيحي الذي كان يتعرض لشبه إبادة. واليوم في ظل شعور اللبنانيين أن وطنهم معرض للزوال ودولتهم ونظامهم وصيغة الشراكة كذلك، مضطرون ـــ بانتظار إقرار الحياد ـــ إلى التفكير في جميع الخيارات كالاستعانة بالأمم المتحدة والدول الكبرى أولا لإنقاذ لبنان من الإبادة. إبادة الأوطان موجودة، وهي جريمة ضد الإنسانية، وضد التاريخ أيضا.