قد نرحل ونترك الأجيال القادمة بلا ذاكرة لأدبنا المعاصر

عبدالرحمن المحسني يؤكد أن التقنية المعاصرة تسهم بدورها في صناعة النص الأدبي.
بعض الروابط الإلكترونية التي أحال عليها الباحث هذا البحث لم تعد تعمل
التقنية الحاملة للنص ليست مجرد حامل جاهل، ولكنها تتلقّف النص، فتغيّر من ملامحه بشكل كبير
ثنائية الطبع والصنعة لم تعد ذات قيمة فيما يتعلق بالشعر المعاصر

يؤكد د. عبدالرحمن بن حسن المحسني أن التقنية المعاصرة تسهم بدورها في صناعة النص الأدبي، بدءاً من تكوينه الذهني عند المبدع ابتداء، وصولاً إلى آلياته التدوينية التي تؤثر في تنشئة النص بعد ولادته الأولى. 
ويتناول كتابه "بصريات نقدية فصول في تعالق الأدب والتقنية" الصادر عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، صنعة النص بعد مرحلته البكْر؛ وأن هذه التقنية الحاملة للنص ليست مجرد حامل جاهل، ولكنها تتلقّف النص، فتغيّر من ملامحه بشكل كبير، وتسهم في صناعته وتقديمه للمتلقي خلقاً آخر، يتباين بالطبع من صناعة تقنية إلى أخرى، ومن مبدع صانع لآخر. 
وقال المحسني: أحسب أنّ ثنائية الطبع والصنعة لم تعد ذات قيمة فيما يتعلق بالشعر المعاصر، فكل نصوصه تقريباً تعمل الصنعة الشعرية فيها عملها بعد ولادة النص مباشرة، ولقد يحسن أن أؤكد على امتداد مدرسة الصنعة التي أسسها أوس بن حجر، ومن بعده زهير بن أبي سلمى ومن تبعهم، وامتدادها إلى شعراء العصر الحديث، حيث يمكث الشاعر المعاصر ربما أكثر من الحول وهو ينقّح نصه ويجوّده، وساعدته في ذلك تقنية مطواعة.
واوضح الباحث أن تأثير التقنية على الحياة المعاصرة لا يبدو في الأدب فحسب، بل يظهر في كلّ حياة المبدع المعاشة؛ في مشربه ومأكله ومركبه، وما هي عن نصه ببعيد. ونركب عنتاً نقدياً حين نجترح القول بأن حياة الشاعر وما أحاط به من رفاهية معاصرة لا تؤثر على تكوين نصه ابتداء؛ فالنص ابن بيئته الذهنية والاجتماعية، وتأثيرها بات عليه كاللازم. وهو تلازم في التأثير لا يخصّ هذا العصر وتقنياته فحسب، فقد أحسّ به النقد من لدن الفروق الظاهرة بين نص شاعر المدر وشاعر الحضر، وصولاً إلى ملاحظة النقاد تأثير البيئة على حركة الأدب بما يمكن أن يكون بتضافر مؤثراته مسلّمة نقدية لا يمكن أن نستثني منها شاعرا أو عصرا. وهو مما تسعى الدراسة إلى إثباته في فصولها الخمسة، التي تقدم نماذج من تعالق التقنية المعاصرة والنص الأدبي. 
وأشار الباحث ان هذه الدراسة تقدم فصولاً نقدية تُعنى في مجملها بحركة النص الأدبي في ظل التقنيات الجديدة التي شهدها العصر الحديث. وهي بعض نتاج هجس بحثي يزيد على عشرة أعوام حول حركة النص الأدبي وتقاطعات التقنية المعاصرة، بدأه الباحث من تقاطع النص الأدبي وتقنية الـ sms ، إلى ما بعدها من تقنيات جدّت. وهذا الكتاب يمثل جزءاً من جهد بحثي كتبه لأغراض مختلفة، منها البحث الأكاديمي، ومنها محاضرات ومشاركات في مؤتمرات علمية، ومداخلات لطلابه في الدراسات العليا. وتلك خطوات على طريق يتصل، يتتبع فيه الباحث تطور حركة النص الأدبي في ظل التقنيات المتجددة، ولا يدعي الباحث من قبل ولا من بعد أنّه يقدم الكفاية، فجهده جهد المقل، لكنه يزداد بالتماس مع هذا الخط المعرفي قناعة بأن التقارب مع النص المعاصر يعد مسؤولية وتحدياً يجب على المتخصصين أن يواجهوه بإخلاص.

الإصدارات الورقية لم تعد سيد الموقف الإبداعي وحدها، بل انضافت إليها الإصدارات المدونة إلكترونياً، والإصدارات الصوتية، وإصدارات (اليوتيوب)، وغيرها، بما يشكل بعدًا في الوسائط الناقلة للتجربة المعاصرة

وأوضخ المحسني أن الحياة المعاصرة فرضت على المبدع والمتلقي استجابات جديدة؛ فلم تعدْ المشافهة أو التحرير الكتابي للنصّ هي مصادر تلقي الأعمال الأدبية بينهما، وتأسيساً على هذه الرؤية نرى تطور الصورة الشعرية في الفصل الأول لم يعد يرتبط بالكلمة وتراكيبها واستعاراتها فحسب، كما كان في البلاغة العربية، بل نرى الصورة الضوئية والتلفازيّة والرسومات الفنية التشكيلية تصاحب (الصورة/ الكلمة) في العمل الشعري، إذ يعمل عليها الشاعر ودور النشر لتصاحب العنوان الشعري على غلاف ديوانه، وتصاحب أيضاً النصوص الشعرية، كما سنرى في الدراسة، بما يعطي النص بعداً صورياً معاصراً ومهماً. ويتصل بذلك الفصل الثاني الذي يؤكد بالدليل النصي ارتباط الشاعر بشارعه التقني وحياته المعاصرة بتقنياتها اللانصية في المبحث الأول، كما سيتناول المبحث الثاني مواجهة النقد لنماذج من النصوص الشعرية وظفت تقنيات بعينها في بثها الشعري كتقنية الهاتف والتلفاز ويوتيوب والبطاقات الشعرية.
 وفي الفصل الثالث تتناول الدراسة الأناشيد الإسلامية، وما يصاحب الإنتاج فيها من مقاطع أدبية داعمة، ودور التقنية في تمثلها، وأثر معطاها في حركة الإرهاب العالمي. وفي الفصل الرابع تقف الدراسة على موضوع آخر حيث تتبع مسارات القبيلة من العصر الجاهلي إلى عصرنا الحديث، في محاولة لمقاربة تأثيرها، وطرح موازين المفاضلة التي تخمل وهجها. وإذا كانت الفصول الأربعة الماضية قد حرصت على طرح عدة نماذج تتصل بالقضايا، فإن الفصل الخامس يركّز على دراسة المكان وتطور رؤيته من خلال البعد التقني والصورة في نموذج دواوين شعر شاعر معاصر.  
ولاشك أن بعض الأدباء المعاصرين قد تعاطوا مع التقنية إلى أقصى مدى ممكن، تشهد على ذلك دواوينهم الشعرية وأعمالهم السردية، التي تزخر بمعطيات التقنية في موضوعاتها وفي بنائها اللغوي والصوري، بما يشكل ظاهرة جديرة بالتوقف والنظر لتقريها وتقديمها كشاهد على العصر وعلى مكوناته المعرفية والثقافية؛ حيث نجد حضور معطيات التقنية في التجربة، بدءاً من الأدوات الحياتية التي يمارسها المبدع بصورة مألوفة كأدوات النقل الحديثة ومعطيات الحياة المتجددة، وصولاً إلى حوامل المعرفة كـ(أشرطة الكاسيت والكمبيوتر بتقنياته المختلفة كوسائط الماسنجر واليوتيوب وغيرها، وكالجوال برسائله القصيرة sms، والفيس بوك والواتس آب) وغيرها من الوسائط التقنية التي تتشكّل فيها تجربة المبدعين المعاصرين. 
وأكد الباحث أن الإصدارات الورقية لم تعد سيد الموقف الإبداعي وحدها، بل انضافت إليها الإصدارات المدونة إلكترونياً، والإصدارات الصوتية، وإصدارات (اليوتيوب)، وغيرها، بما يشكل بعدًا في الوسائط الناقلة للتجربة المعاصرة. وكان قميناً أن تجبر تلك الوسائط الحاضرة  الناقد أن يبحث عن تلك المعطيات الجديدة في هذه الأعمال عبر نوافذ وقنوات من التلقي المختلفة، إلا أنه من أسف غاب أكثرهم عن ذلك المشهد المتجدد، وعن تلك الحركة النشطة في تعامل المبدع المعاصر مع التقنية، وتلك من وجهة نظري مثلبة في حق النقد المعاصر والمؤسسات الأكاديمية المعنية، إذْ من حق هؤلاء المبدعين أن تُقرأ تجربتهم في سياقاتها المعاصرة، وتقيّم وتقدم إلى مشرحة الحق النقدي. وحتى لا نبخس النقاد أشياءهم، فإنّ العمل هنا يذكر بالفضل الجهود النقدية لأمثال الناقدة فاطمة البريكي، وسعيد يقطين، وعبدالله الغذامي، وزهور كرام، ومحمد سناجلة، وإيمان يونس، وغيرهم ممن أفاد منهم المشروع النقدي للباحث في هذه الدراسة وغيرها. 
 وقال الدكتور عبدالرحمن المحسني يؤسفني أن أقول: إن بعض الروابط الإلكترونية التي أحال عليها هذا البحث لم تعد تعمل، ولولا أني صوّرت واجهة بعض المنتديات الأدبية كما سيجد القارئ لما اسطعت أن أكتب عنها، حيث ألغت جسارة التقنية وسرعتها بعض المواقع والمنتديات الإلكترونية التي كانت ملء السمع والبصر يوماً قريباً، وبين عشية وضحاها تراجعت حتى انتهت تقريباً. وهذا نذير خطر داهم يُنذر المؤسسات المهتمة بالأدب العربي وتاريخانيته، أن عليها أن تلحق ما تبقى من أدب معاصر على الشبكة العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي لرصدها وحفظها بعيداً عن متغيرات الشبكة العالمية، وإلا فإنا سنرحل، ونترك الأجيال القادمة بلا ذاكرة لأدبنا المعاصر.