قصص همنغواي مغموسةٌ كلها بدم حياة عاشها

رغم أن الكاتب الأميركي قد اشتهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تقدم هي الأخرى نماذج قصصية ذات معمارٍ.

خمس عشرة قصة قصيرة تضمها مجموعة القصص القصيرة التي اختارها وترجمها المترجم والكاتب ماهر البطوطي للروائي والقاص الأميركي إرنست همنغواي، تقدم لكتابته لفن القصة القصيرة صورةً كاملة. ورغم أن الكاتب قد اشتهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تقدم هي الأخرى نماذج قصصية ذات معمارٍ فنيمُحكَم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالًا خالدة ضمن إنتاج الكاتب.

المختارات التي صدرت عن مؤسسة هنداوي بعنوان "الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنغواي"، تم اختيارها من مجموعات: في زماننا (1925)، رجال بلا نساء (1927)، المنتصر لا يربح شيئًا (1933). وأيضا مما نشر الكاتب من قصص في الصحف والمجلات وتم جمعها في أعماله.

تقدم المختارات قصصا تُنشَر لأول مرةٍ بالعربية. وقد رأى البطوطي أنه من خلالها "نبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة همنغواي التي تَسبِر أغوار النفس، مستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رحِم الحياة؛ ففي قصة "الفراشة والدبَّابة" يَدفع شاب مرِح حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة "حاضرة الدنيا" التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أما "قصة أفريقية" فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيل ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل "ديفيد" والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه".

ويضيف البطوطي في مقدمته التي تناول حياته وأعماله الأدبية "لعل أحدًا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحْظَ من الشهرة وسَعة الانتشار في العصر الحديث قدْرَ ما حظِي الكاتب الأميركي إرنست همنغواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها وراءه عند مماته في 1961م، فإن حياته تُشكِّل جانبًا مستقِلًّا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقُرَّائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنُّقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدر اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوةً على ذلك فإن أدب همنغواي وكتاباته مغموسةٌ كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمدُّ أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعَت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنغواي وأعماله، وطبَّقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضًا: إن همنغواي كان يُريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه.

ويرى أن همنغواي ابتكر أسلوبًا فريدًا في الكتابة، يعتمد على التخلُّص من المحسِّنات البديعية والتزويقات اللفظية والإطناب، ويتَّجِه إلى طريقة الاقتصاد في التعبير والأسلوب البرقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز والمباشَرة. وبالإضافة إلى ظهور همنغواي بهذه الطريقة في بناء لغته وفي بناء رواياته، فإن له رؤيا خاصة في الحياة وفي الفن، اجتهَد أن يُوصلها إلى قُرَّائه من خلال قِصصه ورواياته.

ويشير البطوطي إلى أن همنغواي كان يُحب أن يكتب عن موضوعاتٍ وتجارب مرَّ بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة ـ التي بلغَت في مُجمَلها حوالي الثمانين ـ نجد سلسلة قصص "نك آدمز" التي تُصوِّره صبيًّا وشابًّا ورجلًا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود.ولقد كتب همنغواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبَّه وعشِق رياضته الشهيرة وهي مُصارَعة الثيران، وتعاطَف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبَت هناك لمدة أعوامٍ ثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكانٌ نظيفٌ حسن الإضاءة.أما عن القصص الأفريقية فنُقدِّم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية.

ويلفت إلى أن القصة القصيرة عند همنغواي تتصف بالتركيز الشديد، وتُشرك القارئ في مطالعة تجربةٍ إنسانيةٍ. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثُمن حجمه فقط، بينما بقيَّته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تُظهِر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تُقدِّم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرُّب البقية وفقًا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة".

ويؤكد البطوطي أن القصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحَت لهمنغواي ـ أكثر مما سمحَت له الرواية ـ أن يتجلَّى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلِّي عن المحسِّنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سمَّاه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضًا يستخدم الحوار على نحوٍ خاصٍّ به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة "قصة قطة تحت المطر". وهو ينجح في ذلك إلى درجةٍ جعلَته واحدًا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية.

من قصص المختارات

يوم انتظار

دلف إلى الحجرة كيما يغلق النوافذ، بينما كنا ما نزال في الفراش ورأيته تبدو عليه علائم المرض. كان يرتجف ممتقع الوجه ويمشي ببطءٍ كما لو أنه يتعب عندما يسير.

ـما الأمر يا شاتز؟

ـأشعر بصداعٍ.

ـيحسن بك أن تعود إلى الفراش.

ـكلَّا. إني على ما يُرام.

ـاذهب إلى الفراش. سأراك بعد أن أرتدي ملابسي.

ولكن حين هبطتُ إلى أسفل وجدتُه مرتديًا ملابسه وجالسًا إلى جوار نيران المدفأة، يبدو عليه وهو صبيٌّ في التاسعة علائم المرض الشديد والبؤس. وحين وضعت يدي على جبهته أدركتُ أنه يعاني من الحمَّى.

قلت: اذهب إلى فراشك. إنك مريضٌ.

قال: إني على ما يُرام.

وحين حضر الطبيب، قاس درجة حرارته.

سألتُه: كم؟

ـمائة واثنتان.

وفي الطابق السفلي، ترك الطبيب ثلاثة أنواعٍ من الأدوية في كبسولاتٍ مختلفة اللون مع تعليمات بكيفية تناولها. أحد الأدوية لخفض الحمى، وآخر مطهر للمعدة، والثالث لعلاج الحموضة. وشرح قائلًا: إن جراثيم الإنفلونزا لا يمكن لها أن تُوجَد إلا في وسط حالةٍ من حالات الحموضة. وبدا أنه يعرف كل شيءٍ عن الإنفلونزا وقال: إن الأمر لا يدعو للقلق إذا لم تتجاوز الحمى درجة مائة وأربع. كان وباءً خفيفًا للإنفلونزا فلا خطر منه إذا أنت تجنبتَ الإصابة بالالتهاب الرئوي.

وحين عدتُ إلى الحجرة كتبتُ درجة حرارة الصبي ووضعتُ مذكرةً بالوقت الذي يجب أن أُعطيه الأدوية المختلفة.

ـهل تريدني أن أقرأ لك؟

قال الصبي: حسنًا. إذا رغبتَ في ذلك.

كان وجهه شديد البياض وكانت تحت عينيه هالاتٌ سوداء. ومكث لا يتحرك في فِراشه، وبدا قصِيًّا عما يحدث من حوله.

وقرأتُ له بصوتٍ عالٍ من «كتاب القراصنة» تأليف «هوارد بابل»، ولكني كنت أرى أنه لا يتابع ما أقرأ.

وسألتُه: كيف حالك الآن يا شاتز.

قال: نفس الشيء، حتى الآن.

جلستُ عند قاعدة السرير أقرأ لنفسي وأنا أنتظر موعد إعطائه الدواء التالي. كان من الطبيعي أن يكون مُستغرقًا في النوم، ولكن حين نظرتُ إليه وجدتُه يتطلَّع إلى قاعدة السرير ويبدو غريبًا جدًّا.

ـلماذا لا تحاول أن تنام؟ سوف أوقظك حين يحين موعد الدواء.

ـأفضِّل أن أبقى مُستيقظًا.

وقال لي بعد برهة: لستَ مضطَرًّا أن تبقى معي هنا يا بابا، إذا كان ذلك يضايقك.

ـإن ذلك لا يضايقني.

ـكلا، أعنِي أنه ليس عليك أن تبقى إذا كان يضايقك.

وجال بخاطري أنه ربما كان يشعر بشيءٍ من الدوار، وبعد أن أعطيتُه الكبسولة المقرَّرة في الحادية عشرة خرجتُ برهة.

كان يومًا باردًا ساطعًا، والأرض مغطَّاة بثلجٍ ذائبٍ تجمَّد حتى بدا كما لو أن الأشجار العارية والشجيرات والأجمات والحشائش كلها والأرض العارية قد وُشِّحَت بالثلج. واصطحبتُ الكلب الآيلندي الصغير في نزهةٍ قصيرةٍ عبر الطريق على السطح الزجاجي، وتعثَّر الكلب الأحمر وتلوَّى بينما سقطتُ أنا مرتين، بشدة، ومرةً منهما سقطَت بندقيتي وانزلقَت بعيدًا فوق الجليد.

وإثرنا مجموعة من طيور السمَّاني كانت أسفل هضبةٍ صلصاليةٍ مرتفعة تُغطِّيها الشجيرات، واصطدتُ اثنين منها حين اختفيا عن الأنظار فوق قمة المنحدر. وهبطَت بعض الطيور فوق فروع الشجر، بيد أن معظمها انتشر بين أكوام الشجيرات، وكان من الضروري أن أقفز فوق آكام الشجيرات المغطَّاة بالثلج عدة مراتٍ قبل أن أجعلها تطير من مكامنها. وحين تخرج وأنا في مكاني فوق الأكمات الثلجية المهتزة يكون من الصعب أن أُطلق النار في هذا الوضع؛ واصطدتُ اثنين وأخطأتُ خمسة، وقفلتُ عائدًا سعيدًا بأن عثرتُ على مجموعة الطيور تلك بالقرب من المنزل، وسعيدًا بوجود الكثير منها ما تزال كي أصطادها يومًا آخر.

وفي المنزل، قالوا لي: إن الصبي رفض أن يدخل غرفته أي شخصٍ. كان يقول لهم: لا يمكنكم الدخول. يجب ألا أنقل إليكم مرضي.

وصعدتُ إليه ووجدتُه في نفس الوضع الذي تركته عليه تمامًا، ممتقع الوجه، ولكن كانت وجنتاه متوهجةً بفعل الحمى، وما يزال يُحدق كما يحدق سابقًا في اتجاه قاعدة السرير.

وقِستُ حرارته.

ـكم درجة؟

قلت: حوالي المائة.

كانت حرارته مائة درجة واثنتين وأربعة أعشار.

قال: كانت مائة واثنتين.

ـمن قال ذلك؟

ـالطبيب.

قلت: إن حرارتك على ما يُرام. ليس هناك ما يدعو للقلق.

قال: إني لا أشعر بالقلق. ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير.

قلت: لا تفكر. خُذ الأمور ببساطة.

قال وهو يتطلع أمامه: إنني آخذها ببساطة.

كان من الواضح أنه كان يُخفي شيئًا يعتمل بداخله.

ـخذْ هذا مع بعض الماء.

ـهل تعتقد أنه سيكون له أي فائدة؟

ـبالطبع.

وجلستُ وفتحتُ كتاب القرصان وبدأتُ في القراءة، ولكني لاحظتُ أنه لا يتابعني؛ لذلك توقفتُ.

سأل: متى تعتقد أنني سوف أموت؟

ـ ماذا؟

ـ كم من الوقت سيمرُّ قبل أن أموت؟

ـإنك لن تموت. ما الذي دهاك؟

ـ أوه، أجل. لقد سمعتُه يقول مائة درجة واثنتين.

ـ لا أحد يموت من حُمَّى درجتها مائة واثنتان. إن هذا قولٌ سخيف.

ـ إني أعرف أنهم يموتون. لقد أخبرني الأولاد في المدرسة في فرنسا أنه لا يمكن لأحدٍ أن يعيش بدرجة حرارة أربعة وأربعين. وأنا عندي مائة واثنتان.

قلت: يا لك من مسكين يا شاتز. أي شاتز العزيز المسكين.. إن الأمر يُماثل الأميال والكيلومترات. إنك لن تموت. إن مقياس الحرارة مختلفٌ، هناك في ذلك المقياس الفرنسي تكون درجة الحرارة العادية سبعة وثلاثين. وفي مقياسنا ثمانية وتسعون.

ـ هل أنت متأكِّد؟

قلت: طبعًا. إن الأمر يُماثل الأميال والكيلومترات. أتعرف.. مثل كم كيلومترًا يكون حين نقطع سبعين ميلًا بالسيارة.

قال: أوه.

ولكن نظرته إلى قاعدة السرير استرخَت نوعًا ما. واسترخى توتره الداخلي أيضًا في نهاية الأمر. وفي اليوم التالي كان هادئًا للغاية، ويبكي بسهولةٍ لأمورٍ صغيرةٍ ليست لها أي أهمية.