قصيدتا الوزن والنثر تلتقيان على مائدة ملتقى الشعر بالقاهرة

علي جعفر العلاق: ثمَّة قصيدةٌ حسمت جدل التسمية منذ زمنٍ طويلٍ، لكنها لم تحسم قضية انتمائها الجمالي والرؤيوي.
أحمد حسن يتحدث عن تجليات الجسد في شعر صلاح عبدالصبور وتمثيلاته المتنوعة
رشا الفوال تتناول شعرية الجسد من الذات الفاعلة إلى إدانة الآخر من منظور نفسي
عزالدين المناصرة يتحدث عن الشعر ومستويات التلقي

ترأس الجلسة الثالثة في ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي (الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة 13 – 16 يناير/كانون الثاني الجاري) الباحث الدكتور شاكر عبدالحميد (وزير الثقافة المصرية الأسبق) وفيها تحدث كل من الباحثين د. أحمد الصغير، أحمد حسن، رشا الفوال، عزالدين مناصرة، ود. علي جعفر العلاق.
حمل بحث أحمد الصغير عنوان "أشكال التأويل في قصيدة النثر، قراءة في ديوان (يُطِلُّ على الحواس) للشاعر مؤمن سمير، نموذجًا، وقال: عندما تدخل في عالم الشاعر مؤمن سمير، فلن تستطيع الخروج الآمن التقليدي المباشر، بل سيترك فقط، في كيمياء روحك جزيئات متناثرة، تتشكَّل منها نواة الأرضيات الشعرية التي يقتحمها الشاعر نفسه، غير مكترث بصورة الخلايا التي تتعلَّق بغمار خفيفة تسير تحتها الشعرية اللايقينية بالأساس، فقد تجلَّت كل هذه الحرائق في ديوانه المربك "يطلُّ على الحواس" .
ويرى الباحث أن عنوان الديوان مشغول بحواس الذات المطلة، وحواس الآخر التي يطل عليها العالم، كي تتحرَّك صوب جناحاته المهيضة، لتمزِّقَ أقنعةَ الغيابِ، حاضرة بقوة صورة الصوفي وزهده، متمردًا على أشكال مادية كافة لم تعد تحمل روحها البسيطة، كما يوجهنا عنوان الديوان إلى لغز الأسئلة الحائرة لماذا يطل على الحواس؟ ومن الذي يطل؟ هل الشاعر أم الذات الشاعرة؟ هل القارئ أم البطل الشعري داخل القصيدة؟ ثمة أمور مقلقة في شعر مؤمن سمير، لأن القصيدة التي كتبها مؤمن على قلق، تشبه ملامحه الهائمة في البرية. 
ويضيف الصغير: يبدو أن الحلم الذي يخترعه مؤمن سمير حلمًا قاسيًا مرتبكًا، لا يمتلك ممراتٍ واسعة كي يمر فيها، غازيًا رمال الشهيق والزفير، ملوِّحًا بالحقيقة البعيدة التي لا يراها، هكذا تبدو حقيقة الشعر التي فرضت نفسها على مشروع سمير الغزير من الناحية الشعرية، فقد أصبحت حياته كتلة ملتهبة في القصيدة، وأصبحت قصيدته واقعًا ملغزًا، وكاتمًا للأصوات. 
ويرى الباحث أن شعرية مؤمن سمير تشبه نصوص الشاعر الفرنسي الكبير رامبو ذلك المتمرد الصعلوك الذي كسر مفاتيح العقول الجمعية في فرنسا ورحل، ففعل بها ما فعل وتركها تنزف على أعتاب باريس الكلاسيكية.  وأن الشاعر مؤمن سمير ينسج تراكيبه الشعرية بروحه التي تخترع الخيال، بل تلقط بقاياه من ذاكرة محشوة بالحزن، ليس الحزن الذي جاور شعراء الخمسينيات (صلاح عبدالصبور ـ أمل دنقل، حجازي، ـ السياب)، بل الحزن الذي تطرحه قصيدة النثر مشتبكًا بأحلام ذاتية غائرة في النفس، متجنِّبة الحديث عن أحزان كبيرة وقومية، لأن القصائد النثرية التي كتبها الشعراء لم تكن قصائد ذات حناجر صاخبة، بل تحتاج إلى راقص ملهم كيف يحول الرقص الحزين إلى ابتسامات عابرة يأكلها الفقراء كل مساء. 
أما الباحث أحمد حسن فيتحدث عن "تجليات الجسد في شعر صلاح عبدالصبور" وتسعى ورقته البحثية إلى رصد أنماط تجليات الجسد وتمثيلاته المتنوعة في إبداع صلاح عبدالصبور الشعري، إذ يعد عبدالصبور أحد الشعراء الكبار القلائل الذين تنبَّهوا في وقت مبكِّر إلى أهمية توظيف تقنية الكتابة بالجسد باعتبارها إحدى التقنيات الحديثة التي تضيف ثراءً وتجديدًا إلى القصيدة العربية المعاصرة، بالإضافة إلى التقنيات الحديثة الأخرى التي استثمرها في إبداعه مثل توظيف الرمز والتعبير بالصورة المشهدية والأشكال المجازية المتنوعة، واستثمار أشكال التناص المختلفة وتوظيف الموروث واستلهام الأسطورة والفلكلور الشعبي واستخدام لغة الحياة اليومية وتقنية تعدد الأصوات والنزعة الدرامية وتشعير السرد.
ويوضح الباحث أن ملمح الكتابة بالجسد لدى عبدالصبور يظل بحاجة إلى التناول النقدي القادر على التقاط هذه الظاهرة بُغية إبراز تجلياتها، لا سيَّما أن عبدالصبور قد أشار في أحد حواراته المنشورة في كتاب "صلاح عبدالصبور الحياة والموت" بتحرير نبيل فرج، متحدثًا عن ملمح الكتابة بالجسد وأنه قد جرَّبه في ديوانيه "تأملات في زمن جريح"، و"شجر الليل"، إذ يحضر الجسد في إبداع عبدالصبور باعتباره مؤشرًا على حضور الشاعر وانفتاحه على العالم عبر فاعلية الحواس من ناحية، وعبر تجذُّره في بنية الفضاء الاجتماعي في لحظته الراهنة بكل مواجعها التاريخية من ناحية أخرى، ومن ثمَّ فقد وظَّف الجسد بحسبانه مادة للرمز وأداة لتشكيل الصورة المجازية والصورة المشهدية على حدٍّ سواء، مستثمرًا قدرات الجسد على إنتاج المعاني وصنع الإشارات والإيماءات محولاً إبداعه الشعري إلى فضاء بصري فاعل تتنوَّع دلالاته وتتعدَّد بتعدُّد مستقبِليها القادرين على التفاعل الخلاق مع أنساقه الرمزية ومرجعيَّاتها الاجتماعية والثقافية.
ومن تجليات الجسد في شعر صلاح عبدالصبور إلى "شعرية الجسد من الذات الفاعلة إلى إدانة الآخر"، وهو عنوان البحث الذي قدمته رشا الفوال، وقد تناول بحثها دواوين: "اسمي ليس ليلى" للشاعرة عبير الفقي، و"يفسر للريح أسفارها" للشاعر سامح محجوب، و"سيلفي مع ظل بعيد" للشاعرة المغربية زكية المرموق، و"النسوان" للشاعر عمرو الشيخ، و"ليتني عاهرة" للشاعرة التونسية يُسر بن جمعة، و"كامل الأوصاف" للشاعر سمير درويش. من أجل مساعدة المتلقي على استقراء مواطن الجمال والاحتفاء بالفعل الجسدي الظاهر باعتباره ترجمان للعالم النفسي الداخلي للإنسان أو نفيه سيكولوجيًّا كعلامة على الاستلاب الذي يكشف عنه المتن الشعري، كل ذلك من خلال محاولة فهم التناقضات بين (الذات) و(الآخر) التي تم تحديدها في عدة مباحث في البحث، فجاء المبحث الأول بعنوان "حتمية الاغتراب الجسدي في الشِّعر" والمبحث الثاني "ثنائية (الجسد/الهوية) وفتنة النَص" والمبحث الثالث "الجسد المُتخيل وخطاب الشِّعر"، والمبحث الرابع "ذاكرة الجسد البصرية من الصمت إلى الصخب". كما قدمت مدخلا حول علاقة علم النفس بالأدب. 

الشاعر الفلسطيني د. عزالدين المناصرة تحدث في مشاركته بالجلسة عن الشعر ومستويات التلقي وقال: كان (مبدع النص)، هو مركز التفسير، وما حوله، حتى تضخم وتغوَّل على حساب النص الشعري نفسه، فكانت العرب تهتم بشاعرها، بنفس القدر من الاهتمام بالنص، وربما أكثر. فالشاعر هو وزير إعلام القبيلة. وكان النقد (القراءة المتخصصة) قد ارتقى تدريجيًّا نحو كشف ما يشبه المعنى الحقيقي للقصيدة، لكن نقاد العصر الحديث اكتشفوا أنه لا توجد قراءة واحدة للنص، حتى قال الشاعر الفيلسوف "نيتشه": "ليست هناك حقائق... هناك فقط تأويلات". 
وأضاف المناصرة: من المؤسف أن عددًا من النقاد والشعراء قد تحدَّثوا عن مفهوم الحداثة الشعرية انطلاقًا من مفهوم حداثة واحدة، هي (الحداثة التقنية)، مع أن القراءات (المتعددة)، هي التي تسهم في التقرُّب من المعنى المخبوء في القصيدة، وحتى اليوم يحاول الناقد إذا كان شاعرًا، (تبرير نصوصه)، هو، لا نصوص شعراء زمانه. لقد طغت (الأحادية) على معظم النقاد حين عالجوا شعر روَّاد الشعر العربي الحديث. لقد تضخم (القُطر) الذي ينتمي إليه الشاعر، أو انخسف حسب القوة السياسية، صعودًا وهبوطًا. 
ويرى الباحث أن الزمن يلعب دورًا مهمًّا في تأويل النص الشعري، مع صعود مفاهيم متعدِّدة لمستويات القراءة النقدية المتخصصة، فيُعاد تقويم شعراء مطمورين في زمانهم، وتتغيَّر مكانة هؤلاء الشعراء المقهورين في زمن آخر، كما أن النقاد يتهرَّبون من دراسة (أسباب شهرة النص أو شهرة شاعره)، لأسباب عديدة. وفي كل الأحوال، فإن القراءة، تقتضي تحديد العناصر المهمة عند القراءة مهما كان مستوى القراءة.
أما الشاعر العراقي د. علي جعفر العلاق، فحملت مشاركته عنوان "القَـشُّ والإبـرة"، وقال: تحاول هذه المداخلة مقاربة النص الشعري الحديث، دون تحديدٍ صارمٍ لنوعه: أهو نصٌّ يتشكَّل من جماع ما نسميه قصيدة التفعيلة واشتراطاتها الفنية والجمالية الراسخة، أم نصٌّ نثريٌّ التقت فيه خصائص محددة جعلت منه وسيطًا شعريًّا لافتًا، بعد أن حقنته بما ينتقل به إلى مستويات تعبيرية مغايرة؟
غير أن هذه المحاولة لا تجد نفسها في مسارٍ سالكٍ حتى نهايته، فهناك جملةٌ من المعوقات التي تحول، على اختلافٍ في الطبيعة وتباينٍ في المكونات، دون الوصول إلى ما يخطِّط له المتحدث. ذلك لأن بعض تلك المعوقات، منهجيٌّ بامتياز يتعلق، فيما يتصل بقصيدة النثر تحديدًا: طبيعة النشأة ومسوغات الحال، وقد يدعو ذلك الى شقاقٍ مفاهيمي وجمالي حين يذهب بكلية النقاش إلى فضاءٍ تبشيري حينًا، ونقابي شديد الضيق حينًا آخر، لكنه لا يجد في الحالتين، ما يسعفه على تقديم البراهين الجمالية المفحمة.
وأضاف: هناك، حتى آخر الأفق، حضورٌ كميٌّ طاغٍ للنصوص النثرية، غبارٌ من الكلام الذي يملأ شقوق المكان دون أن يضيء، وفي أحيانٍ كثيرةٍ دون أن يحتكم الى معيارٍ ما. وكأنه انزلاقٌ في مدرجةٍ لا حدود لها، وكلامٌ لا يُسأل عن مرجعيته، باستثناء ما يجمع عليه المنجز النثري: هجرانٌ لكل ما يمكن التحقق من حضوره في النص: وأعني هنا الايقاع أو الوزن وما يترتَّب عليه من ترابطاتٍ في النسيج أو الرؤية. 
ويؤكد العلاق أنه في المقابل ثمَّة قصيدةٌ حسمت جدل التسمية منذ زمنٍ طويلٍ، لكنها لم تحسم قضية انتمائها الجمالي والرؤيوي. فالنماذج المحسوبة على قصيدة الوزن ليست قليلةً، ومع ذلك فإنها لا تقدم دائمًا ما يؤكد شعريتها، أي ذهابها إلى العمق تمامًا: اللغة الشعرية، الخيال المراوغ، الإيجاز النابه، الإيقاع حين يغدو مكونًا شعريًّا. وبذلك فهي لا تزال تغرق في باروكاتٍ لغويةٍ موزونةٍ لكنها قد تفيض عن حاجة النص، وربما تطول دون مراعاةٍ لفعلٍ شعري ينمو ويتصاعد ويتوتر.
وأمام هاتين الواجهتين – يقول العلاق - علينا أن نتساءل عن الإبرة في كومة القش، عن الضوء الذي يكاد يختنق تحت أكوامٍ من الكلام المقدور عليه.
ثم تساءل: هل ثمة من طريقٍ ثالثةٍ؟ طريق تسلكها القصيدة، عزلاء إلا من طاقتها الشعرية، إلا من موهبة الشاعر الفرد الذي يشقُّ مساره، وحيدًا، في قارةٍ من البياض والسهر والمعرفة. دون قبيلةٍ باطشةٍ. دون شلليَّاتٍ وراياتٍ ومصفِّقين. دون موظف العلاقات الذي يكمن في داخله ليبشر بفتوحاتٍ شعريةٍ قد يكون بعضها، أو الكثير منها، متوهمًا أحيانًا؟