كارثة التلفزيونات العربية


إذا كان الممثل السائد للتلفزيونات العربية اليوم فيصل القاسم وعمرو أديب وهما يظهران فقر تفكيريهما، فعلينا توقع أن مستقبل التلفزيون لا يحمل للجمهور العربي غير خيبة الصراخ العبثي.
برامج الصراخ تعبير عن الرداءة التلفزيونية
التلفزيونات العربية تتمادى في نقل فيروس الكراهية

الصحافة المطبوعة ليست أكثر وسائل الإعلام تضررا عندما يتعلق الأمر بمستقبل الإعلام برمته، صحيح أنها ترقد في السوق المريضة، لكن مرض الكراهية واللا اعتدال وعدم الشعور بالمسؤولية والجهل يتصاعد بشكل معد من التلفزيونات العربية ويكاد يتحول إلى وباء.

لا تريد هذه التلفزيونات أن تشعر بمرضها، وتتمادى في نقل الفيروس بين الجمهور، وعندما يتحول المرض إلى وباء ستكون هي أولى ضحاياه، فهناك قِدر ضغط كامن في عمق المجتمعات العربية، التلفزيون يحرض بشكل دائم على رفع درجة انفجاره.

هل يجب أن نقلق بشأن مستقبل التلفزيون العربي؟ نعم، فالأرقام تشير إلى أن العرب يشاهدون التلفزيون بمعدل خمس ساعات يوميا، مقابل ثلاثين دقيقة لموقع يوتيوب.

لقد تحول التلفزيون في الدول العربية من أداة للحكم بطريقة التحذير والتخويف آنذاك حينما كان محليا، أما حين أصبح فضائيا فقد صار أداة لإشاعة الفوضى والكراهية داخل المجتمعات وتقديم التخلف بوصفه نوعا من الحل عبر حشود من المتحدثين الحمقى، وفق تعبير أمبرتو إيكو.

الواقع، يقول إن التلفزيونات العربية لا تريد أن تعترف بأنها تهدف إلى تدمير الوعي لدى المشاهد بدوافع مالية وسياسية ودينية وقومية، عندما تشيع خطاب الكراهية والتخلف والرداءة.

تدفق خطاب الرداءة بكثافة هائلة جعله منتشرا بطريقة لا يمكن إغفال أثره على الجمهور، بعدما تلاشت فكرة المسؤولية العالية والوسيطة والارتقاء بالوعي من قائمة برامج طويلة في التلفزيونات العربية بشكل مثير للازدراء.

لم تقدم القصص الإخبارية والبرامج كما هي، هناك من يضفي عليها رغبته كيفما تكون وبطريقة فظة لاختراق عقول الجمهور، لم تعد الأخبار تكتفي بذاتها، ثمة قراءة منحازة في الخبر نفسه وبطريقة سافرة، دعك من القراءة اللاحقة وما يترتب عليها من تداعيات، فذلك أمر مختلف. الأخبار نفسها لم تعد أخبارا، عندما يدس الصحافيون رغبتهم الأنانية فيها من أجل توجيهها بما يشاءون.

يمكن ببساطة معرفة “سقوط الأخبار” بمجرد الاستماع لخبر واحد من محطتين تلفزيونيتين عربيتين مختلفتي التوجه، ستصلنا معلومتان على طرفي نقيض هدفهما معا قتل الحقيقة، ولسوء الحظ يبقى جمهور القناتين واحدا!

كل المهتمين بالإعلام العربي لديهم رسم بياني مختلف للكارثة التلفزيونية، لكنهم لا يهتمون بالفكرة التاريخية التي تقول إن “علاج المرضى يستلزم أولا علاج النظام الصحي” وتلفزيوناتنا العربية تعيش في بيئة سياسية ودينية موبوءة ترفض فكرة الإصلاح، وخطاب تلك التلفزيونات معبر بامتياز عن طبيعة تلك البيئة وما تضمره.

أصبح التلفزيون كأداة، مرآة مقربة للجمهور عن نفسه، بل إن التلفزيون صار أشبه بالمعبر الوحيد عن صورة ذلك الجمهور بعد تراجع وسائل الإعلام المقروءة، لكنه يكاد يكون تعبيرا عن خيبة ثقافية ومعرفية خطيرة. إنه الوجه غير المقبول للإنسان المعتد بنفسه وبمعرفته عندما يبث ما يعمل على تجهيله. إنه الحنجرة العالية، التي لا تفعل أكثر من الصراخ العبثي لمجرد إشاعة الفوضى والضجيج.

التلفزيون مسؤول عن التردي السياسي والاجتماعي والديني والمعرفي والثقافي الذي تعيشه المجتمعات العربية، إنه متهم بأكثر من التواطؤ في إشاعة خطاب متخلف وسطحي لا يمثل إلا مصالح السياسيين ورجال الدين والحكومات الأنانية.

وبطبيعة الحال، لا يمكن تمرير مثل هذا الخطاب إلا بوجود إعلاميين أذكياء يخططون لذلك، ومنفذين جهلة وانتهازيين! تلك الثنائية القائمة والمستمرة في التلفزيونات العربية تتمثل في الذكاء المخاتل الموجود في الكواليس، وحشد من الإعلاميين الجهلة الظاهرين على الشاشة! دعك من اللهجة الدارجة التي يمارسها هؤلاء وما تمثله من سطحية مريعة وعجز عن إيصال الأفكار، هناك ما هو أهم في التعامل مع الأكاذيب بوصفها حقائق، وإضفاء القداسة والهيبة على مسميات دون غيرها، شحة المعلومات وفقرها، التكرار، عدم الإتيان بفكرة جديدة ومفيدة، غياب الأسئلة الحقيقية التي يتوق إليها الناس والتركيز على أسئلة معروفة إجاباتها مسبقا.

مثل هؤلاء يستحوذون بشكل مثير للقلق على شاشات التلفزيونات العربية اليوم، مما يجعلها تعيش أسوأ مراحل انحطاط الخطاب، مع تفوق متصاعد للصورة وتقنية البث.

هؤلاء بحاجة حقيقية إلى نصيحة فيف غروسكوب التي تُدرّب رجال الأعمال على التحدث أمام جمهور، وصاحبة كتاب “كيف تستحوذين على انتباه من في الغرفة” عندما نغير الغرفة إلى شاشة تلفزيون، فهي تدفع المذيع والمحاور التلفزيوني إلى العثور على حافز، مثل أن تبرهن لنفسك أنك أفضل مما تعتقد. تقول غروسكوب “إذا كان هذا الأمر يقض مضجعك، ويجعلك تشعر بالضآلة كونك ترفض الحديث، فحدد لنفسك التحدي المتمثل في أن تقول نعم للأمر خلال فترة ستة أشهر. دوِّن ملاحظات مفصلة عن الطريقة التي تشعر بها”.

من يتبجح بالألمعية والنصر والشهرة وإضفاء الهالة على مواقف السياسيين ورجال الدين في التلفزيونات العربية، لا يستطيع وفق التقويم المفرط بالتفاؤل، أن يفكر بنصيحة غروسكوب، لسبب بسيط لأن من يحصل على أعلى أجر في التلفزيونات العربية اليوم عاجز عن صياغة جملة عربية صحيحة خالية من الكلمات الدارجة من دون أي معنى. فحديث المقهى بالنسبة إليه صار تلفزيونيا بامتياز!

إذا كان الممثل السائد للتلفزيونات العربية اليوم فيصل القاسم وعمرو أديب وهما يظهران فقر تفكيريهما، فعلينا توقع أن مستقبل التلفزيون لا يحمل للجمهور العربي غير خيبة الصراخ العبثي الممزوج بالتخلف والسطحية المريعة.