كارل ساندبرغ: صوت أميركا الفقراء والمهمشين والذين يعيشون حياة بؤس

السوري أسامة أسبر المترجم للعربية 'قصائد شيكاغو' لشاعر الجماهير والعمال والمزارعين وضحايا الرأسمالية يعتبر أنها أحدثت نقلة في مجالات اللغة الشعرية والأسلوب والصور الشعرية.
ساندبرغ ابتعد عن اللغة الاستعلائية والأكاديمية واستخدم لغة الإنسان العادي

تكشف المجموعة الشعرية "قصائد شيكاغو" للشاعر الأميركي كارل ساندبرغ والتي ترجمها للعربية الشاعر السوري أسامة أسبر انعكاسا واضحا لتجليات الحيوات التي عاشها ساندبرغ الذي ولد في غيلسبرغ بولاية إلينوي في السادس من يناير 1878.
 فقد بدأ العمل في سنّ الحادية عشرة وتولّى أنواعاً مختلفة من الوظائف: بواب صالون حلاقة، سائق شاحنة توزيع حليب، عامل في مصنع الطوب وحاصد للقمح، كما تطوّع في قوة المشاة السادسة في إلينيوي حين نشبت الحرب الأسبانية ـ الأميركية سنة 1898. وهو الأمر الذي بلورته رؤاه الشعرية وأعطاها زخما فنيا وجماليا وإنسانيا.
في سنة 1913 انتقل ساندبرغ الذي صدر مجموعته عن دار خطوط وظلال الأردنية إلى مدينة شيكاغو ليصبح واحداً من مجموعة الكتاب الذين لعبوا دوراً في "نهضة شيكاغو" في الفنون والآداب.
 وجاء نجاحه الأول كشاعر بعد نشر قصيدة "شيكاغو" في مجلة شعر (بويتري) سنة 1914، فيما بعد نُشرت هذه القصيدة مع قصائد أخرى في كتاب سنة 1916 بعنوان قصائد شيكاغو.
 في السنوات الست التالية نشر ثلاث مجموعات أخرى: "قاشرو الذرة" (1918)، "دخان وفولاذ" (1920) و"ألواح الغرب الذي أحرقته الشمس" (1922). 
تعكس هذه المجموعات وعي ساندبرغ لأميركا كأمة مدنية على نحو متزايد، وفي قصائد مثل "شيكاغو" يحتفي بالدافع والطاقة لدى السكان العاملين في الغرب الأوسط الصناعي.
 في 1951 حصل ساندبرغ على جائزة بوليتزر في الشعر على الأعمال الشعرية الكاملة (1950). توفي في 22 تموز\يوليو، 1967 في فلات روك، نورث كارولاينا.

 'قصائد شيكاغو' تعكس حياة ساندبرغ
'قصائد شيكاغو' تعكس حياة ساندبرغ

يقول الشاعر والمترجم السوري أسامة أسبر في تصريح خاص بـ"ميدل إيست أونلاين" إن "ثمة تحولات في الشعر تأتي مع كل ديوان ناجح، وهذا ما أحدثه ديوان كارل ساندبرغ حين صدر في الإنكليزية 1916، إذ أحدث نقلة على صعيد اللغة الشعرية وعلى صعيد الأسلوب. على صعيد اللغة ابتعد ساندبرغ عن اللغة الاستعلائية، الأكاديمية، والشكلانية واستخدم اللغة الدارجة لغة الإنسان العادي".
ويضيف "كما أحدث نقلة على صعيد الصور الشعرية، فالصور الشعرية ليست هي التي تبتكرها المخيلة والمعادلات اللغوية من خلال تأثيرات أفكارنا عن الواقع بل الصورة الشعرية تتولد من الاصطدام الفوري للغة بمادة الواقع اليومية دون انفصال أو اتخاذ موقف منفصل واستعلائي. أما على صعيد الأسلوب فقد كتب قصيدة حرة تتشكل في لحظة تدفقها فيما تعانق اليومي الهارب أو المتجسد وتكون صورتها لها معتمداً الشعر الحر ومستلهما الروح الويتمانية المتدفقة والمعانقة للعالم".
ويضيف أسبر "يشبّه بعض نقاد الشعر الأميركي ما فعله تشارلز بوكفسكي بما فعله كارل ساندبرغ، ويقولون إن إضافة بوكوفسكي الشعرية هي ناجمة عن فهمه لما فعله كارل ساندبرغ في شعره. بوكوفسكي حرر اللغة الشعرية من تأثيرات باوند وإليوت ومن الأسلوبية الرفيعة والمتعالية كما فعل كارل ساندبرغ وأنزل اللغة من الوسط الثقافي والأكاديمي الرفيع إلى مستوى الشارع. 
بدون تنظير أو خطط أومدارس أو بيانات شعرية أطلق بوكوفسكي لغة شعرية حرة من الادعاء الأدبي وغنية بما يكفي كي تتكيف مع أي موضوع تختار معالجته. وهو يدين بهذا إلى كارل ساندبرغ الذي كان سباقاً". 
ويوضح أن مجموعة "قصائد شيكاغو" تشهد على هذا، فبينما اعتمد كثير من معاصري ساندبرغ على الخلفيات القروية والبلدات الصغيرة في قصائدهم إلا أنه كتب عن المدن وناطحات السحاب. 
إن نجاح "قصائد شيكاغو" في الشعر الأميركي كما يقول الناقد لويس روبين الابن يمكن أن يعزى بشكل مباشر إلى هذا التوتر بين اللغة والموضوع. وغالباً ما شكا نقاد ساندبرغ من افتقاره للأدوات الشعرية، وقالوا إن شعره يعتمد على الصفات والأسماء أكثر مما يعتمد على الأفعال ويعتمد على الوصف أكثر مما يحتوي صوراً شعرية، إلا أن معالجته المباشرة للموضوع واستخدامه للغة الإنسان العادي منحه حرية شعرية".
ويرى أسبر أن "في قصائد شيكاغو يتقيد بمبادئ التصويرية مثل تصوير التفاصيل العارية لمشهد واستخدام مصطلح شعري أميركي جديد من خلال صوت الإنسان العادي. يتحدث عن العاهرات والجرائم والفقر والجوع وعن عمال السكك الحديدية وعمال أحواض السفن والمشلولين. 
قال أحد النقاد إن الحديث عن كارل ساندبرغ يشبه التقاط صورة للجراند كانيون بالأبيض والأسود. إنه الشاعر الأميركي الذي تميز في خمسة حقول: الشعر والتاريخ والسيرة الذاتية والرواية.
 ألف ساندبرغ ما يدعى بالشعر الحر، تأثر بوولت ويتمان وبالشعراء التصويريين. الشاعرة إيمي لويل اعتبرت ديوان قصائد شيكاغو أحد أكثر الكتب أصالة التي أنتجها العصر". 

'الصورة الشعرية تتولد من الاصطدام الفوري للغة بمادة الواقع اليومية'
'الصورة الشعرية تتولد من الاصطدام الفوري للغة بمادة الواقع اليومية'

ويضيف "يعتبر النقاد أن ساندبرغ هو الذي وضع أميركا على الورق، مستخدماً إنكليزية خاصة بأميركا ومتحدثاً للجماهير وكان أول شاعر في الأزمنة الحديثة استخدم لغة الناس كوسيلة للتعبير، لقد دخل في لغة الناس. إن في قصائد شيكاغو نرى تحولاً للغة وتحولاً للقصيدة ودخولاً لها في حقول جديدة، هذا التحول والتجديد هو الذي منح كارل ساندبرغ خصوصيته كشاعر الجماهير والعمال والمزارعين وضحايا الرأسمالية الذين شيدوا ناطحات السحاب وشقوا الشوارع وبنوا أميركا الحديثة لكنهم لم يعيشوا حياة كريمة. إن القصيدة هي صوت هؤلاء، صوت أمريكا الفقراء والمهمشين والذين يعيشون حياة بؤس وحاجة".
قصيدة: شيكاغو
يا قصّابة لحْم الخنزير للعالم
يا صانعةَ الأدوات، وجامعةَ القمح،
أيتها الخبيرة في السكك الحديدية، ومُعالِجَة الشحْن في الوطن
أيتها الجامحةُ الفظّةُ المشاكسةُ
يا مدينة الأكتاف الكبيرة:
قالوا إنك شرّيرة فصدّقتُهم، ذلك أنني رأيتُ نساءك المتبرّجات
يغْوين عمّال المزارع تحت المصابيح الغازيّة.
قالوا إنّك مخادعة فرددتُ: نعم، هذا صحيح لأنني رأيتُ المجرم يقتلُ وينطلقُ حراً كي يقتل من جديد.
قالوا إنك متوحّشة فأجبتهم: رأيتُ علامات جوع لا يرحم على وجوه النساء والأطفال.
وبما أنني أجبت هكذا التفتُّ مرة أخرى إلى الذين سخروا من مدينتي، ورددت لهم السخرية قائلاً:
هيّا أروني مدينةً مرفوعة الرأس تغنّي فخورة 
بأنّها حية وفظّة وقوية وماكرة. 
هنا ثمة شخص جبّار طويل وأصلع يقف قويّاً ومشرقاً إزاء مدن صغيرة ناعمة؛
يقذف لعنات ساحرة وهو يكدح مكوّماً عملاً فوق آخر
شرساً ككلب لسانه متدل يركض لاهثاً من أجل العمل، ماكراً كبدائيّ
تستفزّه البراري،
عاري الرأس
يجرف
يهدم
يخطط
يبني، يحطّم، يعاود البناء،
تحت الدخان، فيما الغبار يغطّي فمه، ويضحك بأسنان بيضاء،
يضحك تحت العبء المريع للقدر كما يضحك
الشابّ،
كما يضحك مقاتلٌ جاهلٌ لم يَخسرْ معركةً واحدةً،
يتباهى ضاحكاً أنّ تحت رسغه النبض، وتحت أضلاعه
قلب الناس،
يضحك!
يضحك الضحك العاصف، الأجشّ الهادر للشباب، نصف عار،
متعرّقاً، فخوراً بأن يكون قصّاب لحم خنزير، صانع أدوات، جامع قمح، متقناً لأعمال السكك الحديدية ومعالجَ الشحن للوطن.
قصيدة: جسر شارع كلارك
غبارُ أقدامٍ
وغبارُ عجلات
عرباتٌ وبشر منطلقون
أقدامٌ وعجلاتٌ طيلة اليوم.
الآن...
نجومٌ وضبابٌ فحسب، 
شرطيٌّ وحيد،
راقصتا ملهى ليليٍّ،
نجومٌ وضبابٌ مرة أخرى،
لا مزيدَ من الأقدام أو العجلات،
لا مزيدَ من الغبار والعربات.
أصواتُ دولاراتٍ
وقطراتُ دمٍ.
أصواتُ قلوبٍ محطّمة،
أصواتٌ تُغنّي، تغنّي،
أصواتٌ فضيّةٌ، تُغنّي.
أرقّ من النجوم،
وأعْذبُ من الضّباب.
قصيدة: المترو
في الأسفل، بين جدران الظل،
حيث تلح قوانين الحديد،
وتسخر الأصوات الجائعة.
الرجال السائرون على أقدامهم، المنهكون
بأكتافهم المحدبة والمتواضعة،
يضحكون بمشقة.
قصيدة: وداع الحوذي
)يبكي في الطريق إلى السجن(
وداعا الآن للشوارع واصطدام العجلات ومسننات الأقفال،
للشمس منعكسة على المشابك النحاسية وعقد طقم الفرس،
لعضلات الأحصنة وهي تنزلق تحت أوراكها الثقيلة،
وداعا لشرطي المرور وصفرته
لطقطقة الحوافر المعدنية على الأحجار،
لكل الزئير الصاخب والرائع للشارع ـ 
آه يا إلهي، ثمة ضجيج سأظل جائعا إليه.