كتابة أيّ نصّ أسهل من قراءته

مسيرة حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، استطاع مالك المطلبي أن يجتازها ليكون أحد الأسماء المهمة في تاريخ الثقافة العراقية.
ما كتبه الكاتب في "الهمهمة العراقية" هو نتاج الوعي وليس مثل بقية النصوص التي استردها من "اللاوعي المهمل"
مالك المطلبي لم يدون مشاهد من سيرته فقط، بل استعاد ذاكرة بلد، عبر المدن الثلاث التي مرت بها مراحل حياته المختلفة  

"كتابة أيّ نصّ أسهل من قراءته". هذا ما كتبه لي مالك المطلبي على الصفحة الاولى من كتابه المعنون "ذاكرة الكتابة حفريات في اللاوعي المهمل" وهو يهديني أياه. فأيّ مهمة صعبة وضعني أمامها وأنا أحاول الولوج إلى عالم المطلبي حيث يحفر ذكرياته بعيون الطفل الذي كان، والوعي الذي تكون، عبر مسيرة حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، استطاع أن يجتازها ليكون أحد الأسماء المهمة في تاريخ الثقافة العراقية.
لم يكن مالك المطلبي بأقل من غونتر غراس و كيزابرو- أوي وهو يستعرض رسالتيهما لبعض حين يكتبان عن الأحداث الجسيمة التي مرّت بها ألمانيا واليابان ويؤرخانها كشاهدين صغيرين عليهما أن يعيشا مع مخلفات الحرب طيلة سنوات عمرهم فأن "ما بعد الحرب قد لا ينتهي أبدا" كما أدرك غونتر غراس، وهو ذات الإحساس الذي عاشه كيزابرو- أوي حينما اكتشف "بألم شديد الفظاعات التي ارتكبها الجيش الياباني في آسيا..".
وهكذا وجد مالك المطلبي وهو يكتب وثيقته الخاصة تحت عنوان "الهمهمة العراقية.. العقوبات في مفاصل الدوافع" بأن الكاتبين الكبيرين قد "سرقا" أفكاره "ثم عمّيا ذلك بنفوذهما اللغوي"، فالأحداث التي مرّ بها العراق ويراجعها اليوم ليس إلا تكرارا بشكل كوميدي لما مرّت به ألمانيا واليابان وهما يتجرعان مرارة الهزيمة على يد الحلفاء، وهكذا فعل المطلبي إذ استبدل التاريخ الألماني بالتاريخ العراقي ليستبقي عبارة غونتر غراس كما هي "في العراق الآن نقاش مسكين وساذج: الاحتفال بالتاسع من أبريل/نيسان بصفته تاريخ انتهاء الحرب، أم بصفته يوم التحرير". فيما يعيد حديث كيزابرو- أوي عن الديمقراطية التي جاء بها ماك آرثر إلى اليابان بعد الهزيمة وهو يستذكر ذلك الرهان على على "الديمقراطية من الخارج".
قراءة النصوص الثلاثة التي وضعها مالك المطلبي في مقدمة كتابه - الصادر عن "ديوان المسار للترجمة والنشر" عام 2007 - ضرورية لفهم ما يلي من نصوص لاحقة رغم أنه فصلها عن غيرها باعتبار ما كتبه في "الهمهمة العراقية" هو نتاج الوعي وليس مثل بقية النصوص التي استردها من "اللاوعي المهمل".

العراق يمتلك أكبر رصيد في العالم من الحروب، وأكبر رصيد من المذابح، وأكبر رصيد من الأمل! كما يصرح مالك المطلبي، وهو يقارب المشهد بين ألمانيا واليابان والعراق

لم يكن صعبا أن تسترد ذاكرتي تلك الصور التي يتحدث عنها المطلبي لمدينة (نا) العمارة، رغم أنه غادرها وأنا لم أدخل المدرسة بعد.. ولكن ها أنا أستعيد تلك الأشياء التي يتحدث عنها مستدعيا إياها من مستودع اللاوعي، محاولا اقتفاء خطواته بالنظر إلى الأشياء بعيون الطفل التي عاشها، ولم يدرك أنه بعد سنين طويلة سيسترجها ولكن بشكل مغاير لما هي عليه، فرغم أنها واقعية "مستلة من الذاكرة: كلّ شيء حقيقيّ، الأسماء والأشياء والأحداث" فإن "الزائف الوحيد هنا هو اللغة" هكذا يقرر وهو يحفر في ذاكرته ليستعيد "آثار" ترسّبت في قاعها.
حين يسترجع المطلبي الصور التي اختزنتها ذاكرته عن الماضي سواء ما يخص مدينته المشرح حيث ولد وترعرع، أو عندما يتحدث عن العمارة المدينة التي انتقل إليها ليكمل دراسته في مدارسها، وحتى عندما يتحدث عن بغداد بمقاهيها وأدبائها وشوارعها القديمة، فأنه لا يسطر ذكريات مجردة مرّت به ذات يوم، بقدر ما يجعلنا نستدعي نحن بدورنا تلك الصور التي مررنا بها، ونقارنها بما تشكل اليوم، وكيف كان ذلك التحول بين الماضي والحاضر، ليس من باب المقارنة المجردة للشواهد المادية التي أصبح الكثير منها أنقاضا، بينما استحالت أخرى إلى أشياء مغايرة لا تعني لنا شيئا مقارنة بما كانت عليه، ولكن لإدراك ذلك التحول بالوعي وتحولات الفكر ومتغيرات النظر إلى الأشياء التي كنا نمرّ بها مرور العابرين لأنها جزء من روتين يومي نمارسه، وإذا بها تترسب في متاهات اللاوعي، حتى إذا ما استفزت الذاكرة عادت مرّة أخرى لتضعنا أمام مرآة زمنية تنقلنا إلى ذواتنا وهي في مراحل تشكلها الأولى، ربما تجعلنا نشعر بالحنين إلى ذلك الطفل الذي كنا، وكان ينظر إلى الأشياء التي يمرّ بها بدهشة وإعجاب حتى إذا ما كبر تلاشت، وسحقتها الحياة بتعقيداتها والحوادث الجسام التي شهدها ولاسيما أن العراق "يمتلك أكبر رصيد في العالم من الحروب، وأكبر رصيد من المذابح، وأكبر رصيد من الأمل"! كما يصرح مالك المطلبي، وهو يقارب المشهد بين ألمانيا واليابان والعراق.
لم يدون مالك المطلبي مشاهد من سيرته فقط، بل استعاد ذاكرة بلد، عبر المدن الثلاث التي مرت بها مراحل حياته المختلفة فأصبحت ملتصقة به كما التصق هو بها، ورغم أنه غادر المشرح والعمارة متوجها نحو بغداد قبل أكثر من سبعة وثلاثين عاما حتى تدوينه ذاكرته الكتابية التي بين يدينا، إلا أنها لم تغادره ، تفرض نفسها عليه حين يكون هو نفسه، حتى بات يشعر بزيف اللغة وهو يدون ما يسترجع مما يظنه مهملا في غياهب اللاوعي، ليضعنا نحن المتلقين أمام محنة القراءة فـ "كتابة أيّ نصّ، أسهل من قراءته".