كذبة السلام بعد الحرب

يقتل بعضنا البعض الآخر ونحن نفكر في كتابة رواية عن الحرب الأخيرة التي لم تحدث لأنها لم تجد لها محلا وسط الحروب.

ألا تبحث الدول عن السلام عن طريق الحروب؟ تلك معادلة غامضة صنعها السياسيون وصدقها المحاربون الذين لا أحد منهم يثق في أنه سيعود إلى بيته ولكن في الوقت نفسه لا أحد منهم يعتقد أن الموت سينصفه. لسنا في منجاة من الدموع. هل تشبه دموع الفرح دموع الخوف؟ هناك مَن يتلو بيانات الحرب كما لو أنه يزف خبرا سارا. مادة إنشاء مدرسي ستتبخر ما أن يدق جرس المدرسة. منذ أن نسي المعلمون نشيد الخميس ورفع العلم صار الأطفال يتعثرون بخطوط الطول والعرض في درس الجغرافيا. لم يخطئ الأطفال طريقهم إلى البيت لكن الحرب أخذت البيت ولم تبق إلا الصفير الذي سيأخذهم برؤوسهم الصغيرة إلى باحات المدارس كما لو أنهم محاربون.

 كل شيء سيُقال عن طريق المجاز والإستعارة. بلاغة المحاربين تضحك وتبكي فالهموم خفيفة والمسرات ثقيلة. فلو شئنا أن نطبخ على نار الحرب لشوينا كل طيور السلام. ألا يزال حيا ذلك المجنون الذي سمع أحلى القطع الموسيقية يوم قصف الأميركان بغداد؟ ليست مدينته. ليكن. ليسوا أهله. أمر محتمل. ولكن حياة تُزال وبشر تُمحى قصصهم يستحقان صمتا جنائزيا. ألا تحتاج الخضرة إلى شيء من الضوء أم أن ليل الطائرات يكتفي بأضواء القنابل وهي تشق طريقها إلى أرض لا تُرى من فوق؟ كأن الليل لا يُسر إلا إذا امتلأ بالحمقى. لا تمر دقيقة من غير حرب فأين السلام؟ لقد أنسلت الحمامة بخوف من بين أقدام المحاربين لتصل إلى ضالتها. إبتسامة ظلت مرسومة على وجه طفل ميت.

تقلُ الحقيقة كلما كثر الزيف. يهبط الجمال كلما ارتفع القبح. يحضر الخوف كلما غابت الطمأنينة. ما يشبه تلك الجمل الجوفاء سيكون رأس السلام أصلع كلما نبت لشعر على رأس الحرب. تعالوا نلعب "حية ودرج" في الخندق المجاور. مَن يربح ستبتلعه الحية ومَن يخسر سيرتقي الدرج. العالم مقلوب على أيدي محاربين صاروا أشبه بالمرتزقة لا عمل لهم سوى القتل. أما صناعة السلام فقد فسدت موادها بعد أن أخفيت لسنوات في المخازن السرية. ألهذا الحد تكره الشعوب، بعضها البعض الآخر؟ لا ينصحنا السياسيون في المضي كثيرا في طريق الآلام. فالآلام تكسر الظهر والدموع تسبب ضيقا في التنفس. عليك أن لا تمشي وراء الأمل.

لو أن فاسدا صدق فاسدا سواه لصدق السياسيون في صناعة السلام عن طريق الحرب. ولكن المعادلة غالبا ما تضل طريقها لتبتل بأمطار وهمية. كل الشعوب التي خرجت من الحروب لم تجد السلام معلقا مثل فانوس في نهاية الليل. لقد مشينا بلا خرائط على أرض لينة لا لشيء إلا لأننا كنا نثق بقلوبنا. ليس لهذه الجملة معنى. فالقلب كالبندقية سلاح يقتل. يثق لمحاربون ببنادقهم ولكن الصيادين الذين ينجون من القتل هم أقل من الأشجار في غابة أفقدها أرنب مذعور القدرة على النوم. لم تبق الحرب جارا يطل من النافذة عند الفجر وهو يقول لجارة "صباح الخير". لا تفكر الجيوش حين تحرق غابة بمَن يجلس متأملا البخار المتصاعد من قدر الضغط.
"نسيتنا الحرب" يقول الجندي لرفيقه في الخندق وهو يقصد "نسينا الموت" من غير أن يلتفت إلى أشلاء ذلك الرفيق. جنديان حلما بالسلام في لحظة، كانا قد فقدا فيها حواسهما الخمس وصارا يجربان حاسة الحرب التي هي مزيج من الأصوات والصور والأفكار والحشرات والظنون والعثرات والصلوات والجمل التي تصطك مع الأسنان. كل خطأ فيها يربت على كتف أخيه ويقول له "يا أخي". تقول حاسة الحرب أن كيلومترا واحدا من أرضه هو سنتمتر في الأحلام. ولكن الحلم، كل حلم غزال. والغزال طائرة ورقية هي أشبه بفكرة مائية. والمياه التي تحيط بالعرش لا تزال بيضاء لم تخالطها الزرقة. فما من سماء لنهار لا يستر عريه الليل إلا بعد أن يكون قد لفظ أنفاسه الأخيرة. كل نهار في الحرب هو عتبة قيامة جديدة.  

أن تكتب رواية عن الحرب أكثر يسرا من أن تكتبها عن السلام. فمَن رأى السلام، مَن قبض على ذراعه، مَن شم رائحته، من سمع هديل حمامته فليرفع بده. منذ آلاف السنين غادرتنا سفينة نوح فغرقنا في الطوفان. لا بومنا بوم ولا طاووسنا طاووس. يقتل بعضنا البعض الآخر ونحن نفكر في كتابة رواية عن الحرب الأخيرة التي لم تحدث لأنها لم تجد لها محلا وسط الحروب. القتل واسع والدروب ضيقة. لن نتخطى عقدة الحرب الأخيرة. فكل حرب هي باب ينفتح على حروب تليها. ينظر آدم بقلق إلى غراب نوح وهو يعرف أنه ما اهتدى إلى أرض أخيرة إلا من أجل أن ينقل إليها الفكرة. جربوا الحرب لتهنأوا بعدها بالسلام.