كورونا في ظل أزمة العالم وتحطم نظامه

الوباء كان فرصة لاختبار متانة النظام العالمي. النتائج مريعة تفتح المجال لإعادة النظر في كل المعطيات.
الصين تصعد الى مركز فعال في عالم ما بعد كورونا
لا بد من وضع برامج مستقبلية لإصلاح مؤسسات الدول والنظام الدولي على كل المستويات
العاصفة تهز التكتلات والعلاقات الدولية وتفرض تغييرات واسعة في مراكز التحكم بالنظام العالمي

جائحة كورونا بكل تداعياتها أزمة كغيرها من الأزمات المعقدة والمركبة التي لطالما مر بها العالم بدرجات متباينة الشدة والخطورة، كالأوبئة السابقة والكوارث الطبيعية والحروب والأزمات الاقتصادية العميقة والتي ستمر، لا محال، وتصبح جزءا من التاريخ كجميع الأزمات التي مرت على البشرية، ولكنها لا تمر إلا وقد أحدثت تغييرات جوهرية على كل مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ولهذا فإننا اليوم مقبلون على تغييرات مهمة في تركيبة النظام ومنظومة الحياة، بعد أن أرتبك الاستقرار العالمي وتحطم نظامه نتيجة تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية والاقتصادية وانهيار أسواق العمل والمال والتجارة والصناعة والبنوك والمصارف، بما أثر تأثيرا بالغا على التوازنات الدولية والإقليمية نتيجة الكساد والركود الاقتصاد العالمي، وأدى إلى تراجع قيمة العملات وتدهور أوضاع الأسواق المالية بانخفاض حاد لقيمة الأسهم في سوق السندات، بما لا يمكن الإيفاء بالتزاماتها المالية وفي دورها في ضمان الودائع، وهذا ما يؤدي إلى تدهور قيمة الائتمان محليا وعالميا والذي بدوره يقود سلبا إلى تجميد العمل في الاستثمارات وتأخير معدلات النمو والازدهار الاقتصادي.

نعم إن جائحة كورونا ألقت بظلالها القاتمة بشكل مباشر على طبيعة النظام الدولي والنظام الاقتصادي والنظام المالي، وهذه المستويات أحدثت رجة عاصفة في مجمل التكتلات والعلاقات الدولية بما مهد لإحداث تغييرات واسعة في مراكز السيطرة والتحكم على مستوى النظام العالمي.

فانتشار الفيروس وفقدان السيطرة الدولية عليه والحد من انتشاره ترك تداعيات على النظام الدولي، بعد أن أُجبرت كل دول العالم على وقف حركة النقل وإعلان الانغلاق العام والعزلة والتباعد الاجتماعي، وتم إيقاف الدوام الحضوري في المدارس والمعاهد والجامعات، كما تم إيقاف الأنشطة الثقافية والفنية والرياضة وكافة الاستثمارات والتبادلات التجارية العامة والخاصة وفي مختلف المجالات، وهذا ما أدى إلى تقنين الإنتاج الصناعي نتيجة الكساد وتذبذب الأسعار التي أصابت الأسواق المحلية والعالمية وعلى كافة أنواع ومستويات الإنتاج الصناعي، الأمر الذي أظهر للعالم أجمع مدى هشاشة النظام العالمي المعولم بالرأسمالية وبسياساته الليبرالية ومدى ضعف قوة أدواته في مواجهة الأزمات والكوارث، بحيث لم يعد للدول الرأسمالية والسائرة في ركابها حل؛ سوى وقف وإغلاق الحدود الدولية البرية والجوية؛ كإجراءات لمواجهة الضغوط الطارئة التي نجمت عن انتشار وباء كورونا.

الإغلاق كان أول شرارة لانطلاق القيم الشعوبية والقومية

وهذا الإغلاق كان أول شرارة للانطلاق ولتعزيز القيم الشعوبية والقومية لإعادة تشكيل الجيوسياسية بين دول العالم؛ بما ما أثر سلبا على نمط العلاقات والتكتلات الدولية بعد عدم استطاعتهم لعب أي دور بناء في مواجهة الفيروس الوبائي، لا على مستوى النظام الصحي ولا على المستوى الاقتصادي والمالي، ناهيك عن غيرها من القطاعات، ما أحدث تغييرا في أنماط العلاقات الدولية والتي أثرت هي الأخرى على العلاقات الاجتماعية داخل الدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى؛ الأمر الذي مهد وسيمهد لإحداث تغييرات في النظام الدولي بعد أن برز على السطح، بانتشار الجائحة، تنافر حاد بين الصين وأميركا وتوترت العلاقات بينهما على كل المستويات الاقتصادية والتجارية والمالية وكذلك على المستوى السياسي.

الخلافات الدولية وبداية التكتلات للنظام الدولي الجديد

وكان من أبرز سمات بروز هذا المستوى من الخلافات بين الصين وأميركا، هو تصاعد قوى كلا الدولتين على المستوى العالمي، فالصين برزت زعامتها على مستوى دول أسيا وأفريقيا بينما برز دور أميركا بين الدول الأوروبية، وخاصة حينما نجحت الصين في تدبير كل ما يتعلق بانتشار وباء كورونا عبر نظامها المركزي، بينما عجزت أميركا عن السيطرة على الجائحة وهذا الأمر هو الذي عزز مكانة الصين ومركزها في النظام الدولي، بما قدمته من نموذج ايجابي في التعامل مع الوباء مجتمعيا وبشكل ناجح وملفت، وبما رافق في الجانب الآخر والمتمثل بأميركا والدول الأوروبية من ضعف الإدارة والاستجابة في التدابير الوقائية من فيروس كورونا.

ولهذا فلا محالة سواء طال أمد الجائحة أو ما بعدها، في تحول مركز القوى من الغرب إلى الشرق وتحديدا إلى الصين كقوة أسيوية ستكتسب مركزا ومكانا فعالا في توازن القوى والنظام الدولي الذي سيتغير ما بعد كورونا، وبما قدمته الصين من دبلوماسية بناءة لرسم إستراتيجية دولية يحسب إيجابا لها مبادرتها بتقديم مساعدات طبية للبلدان التي اجتاحها الوباء وفقدت السيطرة عليه، فأرسلت بحسن نية دعما لوجستيا وفرقا طبية للسيطرة على انتشار الوباء إلى كثير من البلدان الأوروبية التي أخفقت في معالجة الأزمة الوبائية وتحديدا ايطاليا واسبانيا إضافة إلى الدول الإفريقية.

تغيير الخارطة السياسية ومراكز القوى في العالم

نستشف من خلال هذه الحقائق والتي أفرزتها جائحة كورونا أن هذه الأزمة الوبائية ستسهم في تغيير الخارطة السياسية ومراكز القوى في العالم، بعد أن غلبت عليها الصراعات والنزاعات الدولية وغاب عنها التعاون الدولي السليم، وخاصة بعد هذه الأزمة الوبائية التي أربكت الاقتصاد العالمي وبرزت حاجة الدول إلى المنتجات والصناعات والمستلزمات الطبية التي انهار توريدها في ظل تزايد الطلب عليها اثر انتشار كورونا وصعوبة إيجاد بدائل لها، الأمر الذي خلق نوعا من الإرباك وعدم التوازن والاستقرار لسد احتياجات الدول، مما عرضها لصدمة غير متوقعة وفجائية نتيجة هشاشة النظام الرأسمالي بعولمته وليبراليته التي أخذت تتفرج على مشهد انتشار الوباء المعدي بدم بارد عاجزة عن وضع حلول فورية لمعالجة الأوضاع المتدهورة؛ بل أظهرت مؤسساتهم الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة وهيئاتها المتخصصة ومنها منظمة الصحة العالمية قصورا في الأداء وعجزا في مواجهة الجائحة والتهديد الذي عرض السلم والأمن الدولي إلى مخاطر حقيقية، وذلك لعدم استجابتها السريعة للوقاية والحد من انتشار الوباء وعدم تقديم بيانات صحيحة، بل إن اغلب ما كانت تقدمه اثر انتشار الجائحة اقتصر على نصائح وإرشادات لا تقدم ولا تؤخر في شيء، إن لم نقل إن أغلبها كان خاطئا وغير صحيح لكونها لم تستطع تحديد مصدر الوباء ومسبباته وكيفية انتشاره السريع في كل أنحاء العالم؛ بالإضافة إلى ارتباكها في إعطاء معلومات دقيقة حول اللقاحات؛ ولهذا وُجهت إليها انتقادات وخاصة من أميركا التي تساهم بحدود عشرين بالمائة من ميزانية منظمة الصحة العالمية، وكذلك وجهت إليها انتقادات من الهند والبرازيل واليابان وغيرها من دول العالم التي تمول هذه المنظمة، ولم ينحصر الأمر في توجيه النقد فقط بل انسحبت أميركا من دعمها.

تفكيك دول الاتحاد الأوروبي والولايات التابعة لأميركا

امتد الإرباك في المشهد الدولي بين تفكيك التضامن الدولي وخاصة بين دول الاتحاد الأوروبي أو بين كل ولاية من الولايات المتحدة؛ فقامت كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي وكل ولاية من الولايات المتحدة انفرادا بإغلاق حدودها، واتخاذ إجراءات العزل والوقاية وانكفاء كل دولة وولاية ضمن حدودها بعيدا عن الاتحاد؛ سواء بين دول الاتحاد الأوروبي أو بين الولايات التابعة للولايات المتحدة، وقد انطلقت أول شرارة تفكيك بين دول الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا، وإذا تعمقت الأزمة الوبائية والاقتصادية وتوسعت النزعات الشعوبية والقومية بين دول الاتحاد فإننا سنشهد لا محالة خروج دول أخرى من الاتحاد الأوروبي.

أما إمكانية تفكيك الولايات المتحدة الأميركية التي تضم خمسين ولاية فقد توسعت النزعة الشعوبية والتمييز العنصري والطبقي وانقسام الشعوب الأميركية في الانتخابات الأخيرة 2020؛ التي أدت إلى توسيع رقعة هذه الانقسامات بين الحزب الجمهوري والديمقراطي، وعكست سلبا وتعمقت هذه الخلافات بين الولايات بما سيؤدي إلى تفكيكها كما تفكك الاتحاد السوفيتي السابق.

فكل المؤشرات والأوضاع القائمة إثر الانتخابات الأميركية الأخيرة، إضافة إلى ما أفرزته جائحة كورونا من تداعيات خطيرة أثرت تأثيرا بالغا على المستوى الاقتصادي بين الولايات الأميركية؛ مما وسع هوة تفكيكها بعد أن تجددت دعوات المواطنين لبعض الولايات كولاية كاليفورنيا وواشنطن واريجون وكارولاينا الجنوبية وتكساس وألاسكا وفيرمونت وكنتاكي وبنسلفانيا وجورجيا وويسكونسن وماساتشوتسن وبرتوريكو وغيرها من الولايات التي ظلت تطالب بالانفصال على مر السنوات السابقة، وتم تجديد هذه المطالبات في هذه المرحلة التي تعم فيها الولايات المتحدة الفوضى والاضطرابات نتيجة تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو أمر لا محالة سيحدث خلال الحقبة القادمة، فالتفكيك سينشأ إما بين اثنتين أو ثلاث أو حتى خمس ولايات ليشكلوا فيما بينهم دولة تستقل عن الولايات المتحدة الأميركية، وكل مؤشرات التفكيك اليوم تتسع في الولايات المتحدة، وهذا ما أدى إلى ارتجاج دعائم الوحدوية سواء في دول الاتحاد الأوروبي أو بين الولايات الأميركية نتيجة تداعيات الأزمة الوبائية؛ ليعاد الاعتبار إلى الدولة القومية وبروز النزعة الشعوبية والعنصرية والطبقية.

وهنا يجب أن نؤكد بأن الصين لعبت دورا في تعميق هذه الإبعاد بين دول الاتحاد الأوروبي أو حتى بين الولايات الأميركية بعد أن أظهرت لهم أنها الجهة المساندة والمساعدة إنسانيا في وقت الأزمات رغبة منها في توسيع نطاق التحولات الجيوسياسية في دول الاتحاد الأوروبي، بل وحتى بين ولايات أميركا من أجل تحقيق مآرب ومصالح سياسية لتقوية نفوذها في النظام الدولي الجديد الذي سيعقب مرحلة ما بعد كورونا.

ولهذا فإن أرادت دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأميركية تجنب هذا الارتباك وهذا التفكيك وهذا التدخل الخارجي في شؤونها الاتحادية الداخلية؛ لا بد لها من العمل الجاد في ترميم أماكن الخلل في اقتصادياتها ومؤسساتها الصحية والاجتماعية والسياسية، وذلك في بناء قطاع الصناعة الصحية عبر التضامن في شؤون الوقاية الصحية وكافة مستلزمات وشؤون قطاع الصحة، ورفع مستوى المعيشة للوصول بالاتحاد سواء في أوروبا أو أميركا؛ إلى مرحلة الجيوسياسية المتماسكة والمتكاملة بينها وبإستراتيجية موحدة، وعليها الاستفادة واستيعاب مخاطر هذه الجائحة التي هددت أمنها واستقرارها ووحدتها واقتصادياتها، وأضعفت قدرتها التي أصبحت رهينة ابتزاز من الممولين والمانحين في المجالات التي ظهر فيها العجز وخاصة في مجال الصناعة الطبية والصحية والدوائية.

مسار التغييرات خلال العشرين سنة القادمة وتحطم النظام الدولي

ومن هنا يبرز دور إصلاح المؤسسات الدولية في كل دول العالم لتكون أكثر قدرة وكفاءة وصمودا واستجابة في حالة اشتداد ومداهمة الأزمات والنكبات، كما برز دورها إثر انتشار وباء كورونا، لأننا نستشف هنا أن الكوارث حين تحل بالمجتمعات البشرية سواء كانت حروبا أو أوبئة أو كوارث طبيعية تنعطف فيها مسارات التغييرات على كل الاتجاهات؛ فتتغير الأنظمة وتتفكك خارطة الدول وتختل قوى التوازن الدولي وأقطابه ومنظومته والعلاقات الدولية، وهو أمر طبيعي في مسار التاريخ وإن المنتصرين – كما يقال – هم من سيكتبونه.

فالتغييرات التي يتوقع أن تحدث إثر انتشار هذه الجائحة والآثار المدمرة التي أحدثتها في عالمنا وعلى كل المستويات، تشير إلى أن قطبية النظام الواحد الذي تحتله اليوم أميركا سيشهد تحديات لا حصر لها في ظل أزمة هذه المرحلة الوبائية الخطرة، ورغم التحدي الذي ستواجهه كل من قيادة الصين وروسيا؛ إلا أن إمكانيات أميركا الهائلة وعلى كل المستويات الصناعية والتكنولوجية والبشرية والصناعة العسكرية والمدنية التي تمتلكها اليوم سيمكنها من التكيف مع واقع الأزمة بخلاف أية دولة أو نظام آخر على الأقل خلال العشرين سنة القادمة، ريثما تصعد على قطبية العالم بثنائية مع قطب أميركا والصين أو قطبية متعددة مع روسيا ودول الاتحاد الأوروبي والصين، لان النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية لم يواجه تحديا مثل الذي يواجهه مع تداعيات جائحة كورونا، والتي بما أفرزته من ارتباك وإخفاق منظومة الحياة الصحية والاقتصادية والاجتماعية أعطت مبررات شكلت وفرضت بالقوة على المنظومة القطبية الأحادية لأميركا بعد إخفاقاتها في مواجهة الأزمة الوبائية وتحديدا في الجانب الاقتصادي والصحي؛ وهذا ما سيمهد للمرحلة القادمة بقيام صراعات وإعادة ترتيب وبناء القوة من أجل تعددية الأقطاب ورسم جديد لمعالم النظام وزعامة العالم ليتم تقسيم النفوذ وخلق توازنات من جديد.

وهذا سيكون خلال الحقبة القادمة أي خلال العشرين سنة المقبلة بعد القضاء على فيروس كورونا؛ لان احتواء الوباء لا محالة ستكون له تداعيات واسعة النطاق وسيؤدي إلى تحولات على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي لا تظهر آثارها في هذه المرحلة إلا بعد أن تتسع رقعة الانكفاء القومي والشعوبية والعزلة، وعلى الأمد الطويل ستكون توجهات المجتمعات البشرية إلى تطوير هذه المشاعر إلى براغماتية ستخلق نظما جديدة، وسيعاد التفكير في كل مناحي الحياة وستعيد إنتاج توجهاتها بما استفادت من تجارب إخفاقات هذه المرحلة الوبائية؛ ليتم تأمين الدعم وأخذ كل الاحتياطيات من الموارد وخاصة الصحية والاقتصادية، بما يؤدي إلى تغيير سياسات الدول داخليا وخارجيا؛ لأن توجه الدول نحو الانغلاق سيعزز في المجتمعات كافة روح الاستقلالية والتحكم في المصير، بعد أن تعلمت من إخفاق استراتيجياتها للتكيف مع الوباء بالشكل الذي تواكب فيه تطورات مرحلة ما بعد كورونا، وبعد أن أخفق النظام العالمي إخفاقا سافرا في إيجاد علاجات فورية للمرض القاتل، إذ ظلت كل دول العالم دون استثناء وخاصة المتطورة صناعيا وتكنولوجيا تتراوح في مكانها بعد مرور أكثر من عام على انتشار الوباء.

ولا يزال الوباء يفتك بالبشرية وينتشر بشكل أكثر قسوة وسرعة منذ بداية ظهوره من دون وجود علاجات فعالة، فقد بلغ عدد الوفيات لحين إعداد هذا المقال في كانون الثاني لعام 2021 أكثر من مليوني إنسان؛ بينما ارتفع عدد الإصابات إلى حدود مئة مليون حالة، وما يزال العدد في تصاعد مريب؛ مع تأكيد كل المنظمات الدولية والدول الكبرى المهيمنة على منظومة الحياة في العالم بأن كل مؤشرات الوباء توحي بمدى تأثيره السلبي على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ والذي بدوره سيرفع سقف الخلافات الدولية للدرجة التي سيترتب عليها قيام قوة دولية تغير النظام الدولي بعد أن أخذ النظام الدولي الحالي يتحطم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، للدرجة التي لا يمكن تخيلها قبل هذه المرحلة الوبائية.

العالم يدخل المرحلة الثانية من الحظر رغم ظهور العلاجات

جر الاقتصاد العالمي كل المؤسسات التي ترتبط به مثل البنك المركزي وصندوق النقد الدولي والبورصات المالية إلى حالة من الارتباك نتيجة تأثر هذه القطاعات بالوباء والإجراءات التي اتخذتها حكومات الدول والمؤسسات الصحية للحد من انتشار الفيروس وتخفيف حدة تداعياته بالإغلاق العام وحظر التجوال وإيقاف العمل والتباعد الاجتماعي ومنع التجمعات وتعطيل الدوام في المصانع والدوائر والمدارس والمؤسسات الثقافية والفنية والأنشطة الرياضية والمؤسسات الترفيهية، مع قيام الدول باتخاذ سلسلة من حزم الدعم لكل القطاعات الصناعية العامة والخاصة؛ والتي شملت تأجيل وإعفاء سداد الضرائب وتقديم مساعدات للقطاعات المتأثرة بالأزمة؛ وكذلك تقديم حزمة من المساعدات للأسر والشركات المتضررة؛ وكذلك تقديم قروض بفوائد منخفضة من أجل إنعاش الاقتصاد.

لكن هذه القروض عرّضت النظام المصرفي في ظل هذه الأزمة إلى مخاطر رغم أن هدف هذه الإجراءات جاءت للحد من الأضرار ولعدم دخول الاقتصاد في مرحلة الركود، هذا إن لم يدخل فعلا إلى مرحل أكثر شدة من أي ركود اقتصادي عالمي سابق، وهذا سيؤثر على معدل البطالة والتضخم والإنتاج المحلي ومعدل النمو الذي كلف الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار عبر المؤسسات المالية من صندوق النقد الدولي ومؤسسات ضمان الودائع، مع توقعات أن الركود السلبي في الربع الأول من عام 2020 سيتم تعويضه على الفور في الربع الثاني، ولكن هذه المراجعات ربما كانت متفائلة بكون العالم سيسيطر على الفيروس خلال أربعة أشهر من بداية انتشاره، ولكن هذه التوقعات لم تتحقق، ولهذا فإن مؤشرات اليوم تؤكد بأن الوباء ما يزال ينتشر وأن العالم دخل المرحلة الثانية من الحظر بشكل أسوأ من المرحلة الأولى، خاصة بعد أن انتشر الجيل الثاني من فيروس كورونا القاتل وتحديدا في بريطانيا من دون وجود أي مؤشر لنهاية قريبة للوباء رغم وجود عدد من أنواع اللقاحات كلقاح فايزر وبيونتيك وسبوتنك الروسي وكورونافاك الصيني ولقاح أكسفورد واسترازينيكا البريطاني، وهذا الأمر زاد من فقدان ثقة المستهلك والمستثمر، بعد أن تراجع الاستهلاك في كل القطاعات الخدمية، بل وما يزال في دوامة التراجع في قطاعات المطاعم والسياحة والسفر والمصانع الصغيرة وهذا ما يفسر تعرض السلع الأساسية لخطر التراجع بشكل مستمر مع ضعف العوائد التصديرية وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وتراجع محتمل للصادرات النفطية؛ وهو ما يؤثر على قطاع الصناعات البتروكيمائية، الأمر الذي سينتج عنه الدخول في مرحلة حرجة من الركود الشديد نتيجة ارتفاع الأسعار مع ارتفاع نسبة البطالة، وهذا ما أثر سلبا وبشكل حاد على أسواق المال والمصارف بما أدى إلى تراجع قيمة الائتمان على الصعيد العالمي، مما سيؤثر أيضا على تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي في كل بلدان العالم؛ لأن أغلب الشركات في العالم أوقفت الإنتاج أو الاستثمار لأنها لم تعد تستطع الإيفاء بالتزاماتها مع البنوك التي تأثرت هي الأخرى وانتقلت فعلا الأزمة المالية إلى البنوك والقطاع المصرفي، وشهد اقتصاد البلدان النامية والصاعدة ارتفاع مستويات ديونها نتيجة الأزمة الوبائية وهو ما جعلها عرضة للضغوط المصرفية والمالية التي تعد من تداعيات الركود الاقتصادي بعد تقليص الاستثمار وتآكل رأس المال وتصاعد معدل البطالة، الأمر الذي سيجر معه تصاعد حدة الأزمة المالية وانهيار أسعار النفط.

وكل هذه التداعيات تتطلب وضع برامج مستقبلية لإصلاح مؤسسات الدول والنظام الدولي وعلى كل المستويات، لتحسين أطر العمل بعد نهاية الوباء لتمهيد أفق الإصلاح على المدى البعيد بآليات تستجيب بسرعة للأوبئة والوقاية منها؛ الأمر الذي يتطلب دعم قطاعات الصحة والأبحاث العلمية المتعلقة بالأوبئة، لتكون تداعيات هذه المرحلة عبرة لرسم صورة المستقبل بأفق يزهو بالنمو والازدهار لترفل المجتمعات بأمن وسلام دون احتكار وتسلط المنظومة الرأسمالية على قرارات تتعلق بمصير ومستقبل الشعوب وأمنها ورفاهيتها.