كيفية الموت جوعا في 'عصر مايكل ك وحياته'

المتتبِّع لأعمال الروائي وكاتبُ المقالٍ والمترجِم الجنوب أفريقي ج. م. كوتسي يُدرِك ببساطةٍ أن الاضطهاد والظلم هما الموضوعان المتكرِّران في كلِ رواياته، ويُمثِّلان الفكرةَ الأساسية لهذه الرواية ايضا.

يعد الروائي وكاتبُ المقالٍ والمترجِم الجنوب أفريقي ج. م. كوتسي "جون ماكسويل كوتسي" من أهم الأصوات الروائية في عالمنا المعاصر، وهو أحد خمسة كتاب أفارقة نالوا جائزة نوبل في الأدب. ولد في مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا عام 1940، والتحق بكلية سانت جوزيف الكاثوليكية، ثم حصل على درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية واللغويات من جامعة كيب تاون، ودرجة الدكتوراه في اللغويات من جامعة تكساس في أوستن. انتقل إلى أستراليا عام 2002، واستقر فيها إلى أن حصل على الجنسية الأسترالية في عام 2006.

كان كوتسي من رموز البِيض المناهِضين للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وقد أثَّرَت نشأتُه في ظل نظام الفصل العنصري في خبراته التي انعكسَت بدورها على كتاباته، فجاءَت رواياته حافلةً بآرائه وإسقاطاته حول العديد من القضايا الحقوقية الدولية، وتجارب الاستعمار، وأنظمة الفصل العنصري، والهوِيات الثقافية، والاستبداد السياسي، والأنظمة العسكرية. كما تميَّزت رواياته بعُمقٍ فلسفي تأملي كبير، بما حفلَت به من تأمُّلات حول قضايا أخلاقية مركبة، وصراعات داخلية ووجودية معقدة لدى أشخاص رواياته.

كتب العديد من الروايات التي تتناول تجاربَ عايَشها في محيطه الأفريقي، ومنها: "سيد بطرسبرغ"، و"يوميات عام سيئ"، و"أيام الصِّبا"، و"طفولة جيسوس"، و"إليزابيث كستلو"، و"الشباب"، و"فو"، و"عصر مايكل ك وحياته"، و"في انتظار البرابرة"، و"العار".

وبالرغم من الطابع المحلي لروايات كوتسي، فإن بَراعته في تجسيد الحالة الإنسانية، وتأملَه العميق في الأخلاق والسلوك البشري، أَوْصلاه إلى العالمية، فلاقَت رواياتُه رَواجًا واستحسانًا حول العالم، وتُرجِمت إلى لغات عديدة، وهو ما جعله جديرا بنيل جائزة نوبل في الأدب التي حازها في عام 2003.

وقد ترجمت أخيرا روايته "عصر مايكل ك وحياته" التي ترجمها وقدم لها سمير عبد ربه، وصدرت عن مؤسسة دار هنداوي، وهي واحدة من أهم رواياته حيث تتجلى قدرته الهائلة على خَلق شخصيات يصعب نسيانُها، إلى جانب أسلوبِه النثري المذهل والمثير للدهشة.

يتناول كوتسي في روايته حكايةَ البستاني "مايكل ك"، ذلك الرجل المنعزِل الذي يصبح مسئولًا عن رعاية أمه المريضة، التي تعيش حياة محفوفة بالمخاطر، والتي ظلت تحلُم بتحقيقِ رغبتِها المكبوتة في العودة إلى الريف الهادئ، الذي عاشت فيه أثناء صِباها بعد أن ترَكَ ابنها مايكل عمَلَه في كيب تاون. وراحت تتخيل نفسها وهي تستقل القطار مع ابنها في طريقهما إلى مسقط رأسها؛ حيث يمكن أن تعيش بعيدًا عن كل التعقيدات، وحيث يستطيع ابنها مايكل أن يجِدَ وظيفةً جديدة. غير أن أحلامَها تلك حدَثَتْ في ظلِّ نظامِ جنوب أفريقيا العنصري Apartheid، الذي يضَعُ قُيُودًا مُحكَمة على تحرُّكات الفرد الشخصية. كان مايكل فردا هامشيا في مجتمعٍ حديث، لكن أمه كانت تعلق عليه الآمال، وتتمنى لو أنه استطاع تحقيقَ حُلمها رغم افتقاره إلى الذكاء والفطنة، إلى جانب شخصيته الضعيفة.

ويرى عبد ربه أن المتتبِّع لأعمال كوتسي يستطيع أن يُدرِك ببساطةٍ أن الاضطهاد والظلم هما الموضوعان المتكرِّران في كلِ رواياته، ويُمثِّلان الفكرةَ الأساسية لهذه الرواية "عصر مايكل ك وحياته". وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تقَعُ في جنوب أفريقيا؛ فإن العمل لا يتضمن ذلك صراحةً، وإنَّما تحكي الرواية عن الاضطهاد العنصري وعن المعاملة التي يلقاها "مايكل" وكأنَّه غريبٌ وخانِعٌ وذليل. إنَّها رواية "كوتسي" الأكثرُ تفرُّدًا، وأظنُّ أنَّها عمله الأدبي الأروع.

ويؤكد إن المتتبِّع للأعمال الفنية والأدبية في جنوب أفريقيا ـ أثناء، وفي ظلِّ نظامِ التمييز العنصري ـ يستطيع أن يكتشف بسهولةٍ مدى انعكاس ذلك النظام على معظم الإبداعات، إن لم يكُن على كل الإبداعات؛ حيث لا يخلو أيُّ عملٍ فنيٍّ أو أدبيٍّ من الإشارة إليه، مثلما حدَثَ تمامًا مع الفنانين والأدباء في أمريكا الجنوبية إبَّانَ عصور العبودية، أو في روسيا أثناء فترة الشيوعية. لكنَّنا نستطيع ـ ضِمْن حديثنا عن هذه الرواية ـ أن نُشير إلى سببٍ آخرَ من أسباب جمالها وروعتها؛ وهو أنها لم تتعرض للحديث عن سياسة التمييز العنصري "الأبارتايد Apartheid"، أو عن الاضطهاد الذي يُعاني منه سُكان البلد الأصليُون، ولو مرةً واحدة، رغم أن الرواية في مجملها ترتكز على الصراع العنصري؛ فنراه قد تجاوَزَ ذلك كله، كما يستطيع القارئ ملاحظةَ عدَمِ تطرُّق الكاتب إلى القول: إن مايكل هو أحد السكان الأصليين لهذا البلد رغم أنه كذلك! وأتصور أن "كوتسي" لا يتعمَّد ذلك، وإنَّما من الواضح أنَّه يكتُب بتلك الطريقة عامدًا لإظهار سيطرته ومهاراته وما يتمتَّع به من إلهامٍ ومقدرةٍ مُذهِلة في البناء القَصَصي".

ويشير عبد ربه إلى أن كوتسي يُبرهِن بعدم تعرضه لسياسة التمييز العنصري بشكلٍ مباشر على مهارته، ولا يكتفي بعَرض جنون النظام في جنوب أفريقيا وخَبَله، وإنما يذهب إلى أبعدَ من ذلك ويكشف عن الجنون العام للحضارة الإنسانية بِرمتها، ويُبيِّن لنا قدرةَ الشخصية الرئيسية في الرواية على قهر تلك الحضارة بمجرد تجاهُلها، تلك الشخصية المنبوذة التي لم تنَل قِسطا من التعليم تنطق دوما بالسؤال القديم: كيف يحيا الإنسان؟ ثم ينعَم بالسلام حين يجيب بنفسه على السؤال إمَّا بالتجاهُل، أو بعدم المبالاة.

في هذه الرواية يتجوَّل بنا كوتسي في قلب الوجود القاسي، ومن خلال معاناة الإنسان في رحلةٍ غير موفقة؛ فنَجِد "مايكل ك" بَطَل الرواية وهو يَهِيم ويتنقل بين البستان ومشاهد الطبيعة، في محاولةٍ منه لإخراج نفْسِه بالكامل من أي شيء ينتمي إلى ما يُسمى بالمجتمع، كما يتحرك مُنسحِبا نحو الجبال؛ غير أن الجوع يُجبره على العودة. ويُمكننا القول: إنَّ الرواية تُعدُّ ـ إلى حدٍّ بعيد ـ دراسةً عن الجوع أو كيفية الموت جوعا.

مقتطف من الرواية

ظل يسير طوال اليوم، وحين هبَطَ الليل واستبد به التعب؛ أمضى ليلته داخلَ كوخٍ مصنوع من القش في زاوية من زوايا ملعب الرجبي المكسو بالأعشاب، الذي يفصله عن الشارع صف طويل من أشجار الكينا. كانت نوافذ الكوخ محطمة ومفاصل الباب لا تعمل، وكانت الأرض مليئةً بالزجاج المكسور وأوراق الصحف القديمة وركام من أوراق الشجر. كما كانت شقوق جِدار الكوخ مشبعةً بالعشب الأصفر الذابل، وكانت القواقع متجمِّعة تحت مواسير المياه، غير أن السقف كان سليما. قام بتجميع كومة من أوراق الشجر وأوراق الصُّحُف، وصنَعَ منهما سريرًا، لكنه لم يستطِع أن ينامَ نوما هادئًا؛ بسبب الرياح العاتية والأمطار الغزيرة.

استيقظ ولم تَكُن الأمطار قد توقفت بعد. شعَرَ بدوار من شدة الجوع، ثمَّ وقَفَ عند باب الكوخ وظل لمدة ساعةٍ كاملة في انتظار أن تتوقف الأمطار، راح خلالها يتطلع إلى المراعي والمروج والأشجار المبللة وإلى التلال المشبعة بالضباب من خلفها. ثم رفع ياقةَ المِعطف أخيرا وسارع بالجري تحت الأمطار المنهمرة. عند أحد أطراف ملعب الرجبي البعيدة تسلق جدارا من السلك الشائك؛ فوجد نفسَه داخل بستانٍ من بساتين الفاكهة مليءٍ بالحشائش والأعشاب الضارَّة. كانت الفاكهة المعطوبة متناثرة في كل مكان على الأرض، ولم تَكُن الفاكهة فوق أغصان الأشجار في حجمها العادي، بالإضافة إلى أنَّها لم تكُنْ ناضجةً بما يكفي. كانت القَلَنسُوَة مُتدليةً حتَّى أذنَيه، وكان المعطف الأَسوَد مُلتصِقًا بجسده؛ فوقف وراح يقضم الأجزاء السليمة من كل قطعة فاكهة، ويمضغها بسرعة كالأرنب، بينما كانت عيناه غائبتَين تمامًا وخاليتَين من أيِّ تعبير.

كان البستان مهمَلا، وحين بدأ "ك" التجول في أرجائه؛ عرَفَ أنه مهجور، ولا يوجد مَن يهتم به، حتى ساوَرَه إحساس أنه يسير في أرضٍ مهجورة. كانت أشجار التفاح متناثرة فوق الأرض المنبسِطة، واستطاع "ك" أن يشاهد من خلفها بيوتا صغيرةً مصنوعةً من طوب القِرمِيد وأسقفًا من القش وبيتا ريفيا تحيط بها جدران ذات طِلاءٍ أبيض. كانت بعض الخضراوات موضوعةً بعناية فوق الأرض المُنبسِطة الخالية من الأوساخ كالقَرنَبِيط والجزر والبطاطس، فترك "ك" مكانه تحت أوراق الشجر، حيث كان يحتمي من الأمطار، وبدأ يزحف بيدَيه وركبتَيه تحت وابلٍ من الأمطار. حتَّى استطاع أن ينزع حزمةً من الجزر الأصفر المغروس في باطن الأرض المبللة، وهو يقول لنَفسه: إنها أرض الله، وأنا لست لصا.

سمِعَ صوتَ ارتطامٍ في النافذة الخلفية للبيت الريفي، وتراءى له شخص ما على شكلِ شبحٍ ضخمٍ يُسارع بالهجوم عليه. وعندما امتلأ جيبُه بالجزر، انتصَبَ واقفا وألقى بالجزر فوق الأرض بدلًا من تناوله والاحتفاظ به تحت الأشجار كما كان ينتوي.

توقفت الأمطار أثناء الليل؛ فعاد في الصباح لمواصلة طريقه بملابسه المُبلَّلة، وكانت بطنُه منتفِخةً من الطعام غير الناضج. وعندما سمِعَ صوت القافلة وهي تقترب زحَفَ مُتسلِّلًا للاختباء بين الأدغال، ثمَّ بدأ بعد تلك اللحظة في السير هائمًا بملابسه القذِرَة وشكله الهزيل المرهَق بلا هدفٍ وبخطواتٍ طليقة، وقد نسي تمامًا أنَّ العبور في الطريق يتطلَّب الحصول على الأوراق والتصاريح اللازمة، كما لم يطرأ بذهنه أنَّه مُعرَّض للأذى، كان "ك" غارقًا في اللامبالاة!

عبَرَتْ إحدى القوافل، تتقدَّمها الدراجات البخارية، كانت القافلة تتكون من سياراتٍ مصفحة وشاحناتٍ مليئة بالجنود الشباب ذوي الخوذات المستديرة فوق رءوسهم. استغرَقَ عبور القافلة خمس دقائقَ كاملة، ظل "ك" ينظُر خلالها بإمعانٍ من مخبئه إلى الخارج. كان المَدفَع في السيارة الأخيرة ملفوفًا بقطعة من القماش وغطاء من الصوف، وبدا كأنه موجه إلى عينَيه قبل أن يغيب بعيدا.

نام في الليل تحت ماسورةِ مياهٍ كبيرة، وفي التاسعة صباحا من اليوم التالي كان على مَرأًى من مداخن وأبراج "ورسيستر". لم يعُدْ وحيدا في الشارع، وأصبح وسط مجموعة من الناس المتشرِّدين، ثم عبَرَ أمامه ثلاثة شباب بخطوات رشيقة. كان الدخان الأبيض يتطاير من أفواههم وهم يتنفسون.

في ضواحي المدينة كانت المتاريس التي لم يرَ "ك" مثلها من قبل إلَا في "بارل" تسد الشوارع، وكان الناس يحتشدون بكثرةٍ حول سيارات الشرطة. ارتعَشَ "ك" للحظة، وكانت البيوت على يساره ومصانع القِرمِيد والطوب اللَّبِن على يمينه. وكان الطريق الوحيد المؤدِّي إلى الخروج في الخلف، لكنه واصَل السير.