كيف شاهد صلاح عبدالصبور مسرح شوقي الشعري؟

أحمد شوقي كان مولعًا بتجاوز إمكانياته وتجريب قدراته والانفراد عن معاصريه، فجرب المسرح، وحاول الرواية النثرية كما جرَّب القصيدة ذات النفس الملحمي.

ظلت المسرحية بعامة، والمسرحية الشعرية بخاصة، تخضع للاقتباس والترجمة، حتى كتب أحمد شوقي مسرحياته بين أعوام 1927 – 1932 بعد تتويجه بإمارة الشعر. وإن كانت محاولاته الأولى تعود إلى عام 1893 حين كتب المسودة الأولى لمسرحية "علي بك الكبير" ثم طواها إذ وجد البيئة الثقافية المصرية لا تكاد تتسع لهذه المخاطرة الأدبية، أو لعله أشفق على نفسه من عواقبها، إذ كان التأليف المسرحي فنًّا جديدًا لم تتأصل مكانته بعد.

وعندما تغيرت الحياة المصرية في مستوياتها الفكرية والسياسية في الربع الأول من القرن العشرين، دفع ذلك شوقي إلى العودة إلى هواه القديم، فأصدر عام 1927 – وهو العام الذي نُصِّب فيه أميرا للشعراء العرب - مسرحيته "مصرع كليوباترا".

ويعد الشاعر صلاح عبدالصبور (1931 – 1981) أحد الرواد في كتابة المسرحية الشعرية على نسقها التفعيلي، وقد أنتج خمس مسرحيات شعرية: "مأساة الحلاج" (1964)، "مسافر ليل" (1968)، "ليلى والمجنون" (1971) وعرضت في مسرح الطليعة بالقاهرة في العام ذاته. "الأميرة تنتظر" (1969)، "بعد أن يموت الملك" (1973).

فكيف شاهد صلاح عبدالصبور التجارب المسرحية التي عُرضت قبله، خاصة التي قدمها أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932) والذي يعد أول من راد هذا الاتجاه في كتابة المسرحية الشعرية في الوطن العربي؟

كانت "مجنون ليلى" لأحمد شوقي هي العمل المسرحي التالي لـ "مصرع كليوباترا"، فكيف شاهدها صلاح عبدالصبور الذي ولد قبل رحيل شوقي بعام واحد؟

يقول عبدالصبور (مجلة "المجلة" في عددها 144 – ديسمبر/كانون الاول 1968): في هذا العمل نجد شوقي أكثر نضجًا ودراية، وفي الوقت ذاته أكثر استقلالاً وحرية، فلم يجد نفسه أسيرًا لشكسبير كما كان في "مصرع كليوباترا"، وإن كان قد وقع في أسر كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. ومع ذلك، فـ "مجنون ليلى" نفحة من أزكى نفحات الشعر العربي، فهي حافلة إلى حد واضح بأجمل الشعر الغنائي وأعذبه، كما أن فيها مشاهد مسرحية بالغة الأصالة والنضوج كمشاهد مستقلة، مثل مشهد "قرية الجن"، والفصل الخامس والأخير من المسرحية، كما أن شعر هذا الفصل بوجه عام ضرب من أروع الشعر.

وبعد هاتين المسرحيتين، تأتي مسرحية "قمبيز" ويعود شوقي فيها إلى فترة زمنية أبعد قليلا من فترة "مصرع كليوباترا"، وهي فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين من أسر الفراعنة، وكانت عاصمة مصر آنئذ هي "منفيس" أما مقر الملك فقد كان صا الحجر.

ويرى عبدالصبور، في مقاله "مسرح شوقي الشعري"، أن أحمد شوقي التقط من أحداث التاريخ ما يستهويه، وكان عليه أن يعيد تشكيل هذه الأحداث، بحيث يخلع عليها حميا الحياة ودمها، دون أن يُسيء إلى صورة العصر الإجمالية، وذلك ما وفق إليه شوقي.

أما مسرحية "علي بك الكبير" ففي رأي عبدالصبور أنها تتميز عن مسرحيات شوقي السالفة، بل واللاحقة، بأن موضوعها موضوع تاريخي محقق، وذلك لقرب عصرها من عصر المؤلف وزمنه، بل أن معظم شخصياتها شخصيات محددة الأبعاد تاريخيًّا ونفسيًّا بفضل ما نمى إلينا من أحداث حياتها ووقائع سلوكها.

وإذا كانت مسرحية "عنترة" آخر مسرحيات شوقي زمنًا، فهي أيضا آخرها  قدرًا، حتى أن كثيرين من مؤرخي شوقي لا يكادون يذكرونها.

يقول صلاح عبدالصبور: ثمة شيء غريب في مسرحية "عنترة" فرغم أنها مسرحية عن شاعر عاشق إلا أننا لا نستطيع أن نجد فيها مقاطع من شعر العاطفة، مثلما نجد في "مجنون ليلى"، فضلا عن أننا لا نستطيع أن نجد فيها تأملا ذكيًّا أو خاطرًا عميقًا مما تزدحم به مسرحيتا شوقي الأوليان "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا".

وفي مسرحية "الست هدى" يتجه شوقي إلى الكوميديا الشعرية، وزمان الرواية يحدده شوقي بعام 1890 بالقاهرة، والست هدى عجوز من ساكنات حي الحنفي، تملك بيتًا وثلاثين فدانًا في بنها، وتجعل من الزواج لعبتها، ولولا المال ما جاء هؤلاء الأزواج المتتالون أذلاء إلى بابها. ولكنها تلوح لهم بمالها، ثم ما تلبث أن تحرمهم منه، فينصرفون عنها بالطلاق أو الموت.

يرى عبدالصبور أن "الست هدى" قصة كوميديا ساذجة توشك أن تكون نكتة، ورغم ذلك فالمسرحية من أجمل أعمال شوقي، إذ أن فيها ألوانًا من خفة الروح، كما أن فيها صورة شديدة الحيوية والتألق لمصر في تلك الفترة، ورسمًا ذكيًّا لكثير من نماذج الحياة الاجتماعية.

ويوضح عبد الصبور أن رحلة شوقي الباكرة إلى فرنسا هي التي فتحت عينيه على مظاهر التعبير الأخرى التي تتجاوز القصيدة الغنائية، وكان شوقي، هذا هو سر العظمة فيه، مولعًا بتجاوز إمكانياته وتجريب قدراته والانفراد عن معاصريه، فجرب المسرح، وحاول الرواية النثرية في عام 1897 إذ نشر في هذا العام ثلاث روايات نثرية، كما جرَّب القصيدة ذات النفس الملحمي في أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام".