لأنها السعودية

سباق بين المغانم والمغارم لمن يحاولون الاستثمار بفتنة أداتها قضية خاشقجي.

قال المسيح عليه السلام "من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر". وبدورنا نقول لكل من يطالب برجم المملكة العربية السعودية "ان جملة خطاياكم تستوجب تقديمكم لمحاكم تماثل نورنبيرغ لما اوغلتم فيه من دماء الأبرياء، فإياكم وكفى. هذه الحملة ليس هدفها الانتصار لشخص جمال خاشقجي المواطن السعودي، او كما قدم بعضهم لها، بانها من مسؤليات الولايات المتحدة كونه مقيما على أراضيها ويكتب في احدى صحفها الكبرى.

سبب سعار هذا الإعلام الذي نصب من نفسه قاضيا وجلادا يهدف الى أمرين. اولها، التقرب من مصادر المال السياسي وأكبرها القطري الان، اما ثانيهما، فهو ما يعرف في السياسة بتقاطع المصالح في فضاء سياسي منفلت من عقاله الأخلاقي. فالإعلام جله بات مسيساً، يستثمر في صناعة الإثارة اكثر مما يستثمر في تقديم الحقيقة. لذلك لا يوجد ما يماثل السعودية عنوانا اكبر وذا قابليةٍ للمتاجرة به في سوق الانتهازية المادي.

الا ان السبب الحقيقي ومصدر إنزعاج الجميع واستكلابهم في استهدافها يكمن تحول السعودية من المركزية التقليدية الى المركزية الفاعلة سياسيا، ومحور ارتكاز صناعة الاستقرار في فضائها الجيوسياسي. ولو حاولنا تفكيك عناصر هذه الحملة، فإننا سنجد ان جميع العاملين في هذا السيرك الجوال كان يخدم مصالحه السياسية او الآنية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنتناول الموقف الرسمي للولايات المتحدة. فقد تحول الموقف من مرتبط بالانتخابات النصفية الى اخر مغاير منذ أعاد الرئيس دونالد ترامب تقييم الموقف على أسس استراتيجية واتخاذ قرار إيفاد وزير خارجيته مايك بومبيو الى الرياض. ذلك التحول لم يتعارض مع قيم أميركية مبدئية، بل كان عقلانيا في تعاطيه معها على اسس اكثر واقعية استنادا لتاريخ العلاقات الخاصة بين البلدين، ولحيوية الدور السعودي في استراتيجية اعادة الاستقرار في الشرق الاوسط. اما ما يصدر عن بعض أعضاء الكونغرس الاميركي الان، فيجب ان لا يخرج في التعاطي معه خارج إطار الاستهلاك الإعلامي لدعم حظوظ اعادة انتخابهم في الانتخابات النصفية المقبلة.

اما تركياً، فقد مثلت هذه الأزمة فرصة يصعب تفويتها في قنص اكثر من هدف سياسي على الصعيد الداخلي والدولي، ويمكن إيجازها كالتالي. اولها، تسوية اكبر قضاياها الخلافية مع الولايات المتحدة بإطلاقها سراح القس الاميركي أندرو برانسون المحتجز لديها بتهمة دعم محاولة الانقلاب الفاشل. ثانيهما، عودة تركيا للمشهد السياسي شرق اوسطيا ودوليا دون التفريط في مغانم سوتشي. اما ثالثها، فإن جميع مغانم ومكاسب المصالحة الجديدة مع ادارة ترامب سيجير لحساب الرئيس رجب طيب أردوغان شخصيا بعد ان أعاد لتركيا اعتبارها المعنوي من وجهة نظره الشخصية.

يبقى سؤال مغارم مواقف البعض المتسرعة العاجل منها قبل الآجل على الصعيد السياسي خصوصا في حالتي الولايات المتحدة وتركيا. وعلى ما يبدو فأن الرئيس ترامب هو اول الغارمين نتيجة سوء توظيفه لعلاقة الولايات المتحدة بأقرب حلفائها الاستراتيجيين اثناء مهرجاناته الخطابية، وبالأخص موقفه المتسرع من قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. فقد أعلن خلال استضافته الاخيرة مع برنامج 60 دقيقة لقناة CBS عزمه على معاقبة المملكة حتى قبل صدور موقف رسمي من الرياض، ولينتقل بعدها للإعلان عن احتمال استقالة وزير دفاعه جيمس ماتيس من منصبه. المثير للاستغراب هنا هو وصف الرئيس ترامب لوزير دفاعه ماتيس "يكاد ان يكون ديمقراطيا" في محاولة احتواء مرتبكة للتبعات المحتملة للاستقالة على هذه الادارة غير المستقرة اساسا. اما فيما يخص تركيا، فهي بالتأكيد الغارم الأكبر في هذه الازمة المفتعلة عند مراجعة حجم ما استثمره الرئيس اردوغان سياسيا على حساب الشخصية الاعتبارية للمؤسسات الوطنية خصوصا الأمنية والعدلية بعد ان حولها لأدوات سياسية متناسيا دورها ومسؤولياتها الوطنية. لذلك تقع على الرئيس التركي وحده مسؤولية تفسير مصدر تلك التسجيلات التي تدعي تركيا حيازتها لواقعة مقتل خاشقجي.

ما يجب ان ندركه منذ الان فصاعدا، هو ان استهداف المملكة العربية السعودية معنويا وسياسيا لن يتوقف بل سيتصاعد ليس فقط لانها قوة صاعدة في فضاء جيوسياسي غير مستقر نتيجة تزاحم القوى الكبرى، بل لأنها باتت العمق الاستراتيجي للعالم العربي، والرقم العصي على التطويع. لذلك بات لزاما علينا التأقلم مع هذا الواقع بكل أدواته، وان لا نتهيب من مواجهة كافة التحديات. ولكن لتكن تلك المواجهة بالأدوات المناسبة والغير تقليدية من جانبنا كذلك. الاشتراطات السعودية واضحة فيما يخص مصالحها ومسؤولياتها الوطنية، وكذلك فيما يتعلق بأمر أمنها القومي ودورها كدولة مركزية. لذلك فشلت محاولات تحجيم السعودية سابقا، وستفشل مستقبلا.

المملكة العربية السعودية ليست تحالف قبائل بل دولة لها إرثها الإنساني ومكانتها الدولية بين الكبار، وهي ليست بالطارئة على التاريخ كما افترض بعض الواهمين، ومن الخطأ ان يلمح ذلك البعض بأي شكل من أشكال الوصاية السياسية عليها او إفتراض قبولها إملاءات احد.