لا صديق سوى الجبال

الصحفي والشاعر الكُردي بِهروز بوتشاني يكتب حكايات عن أشخاص سُجِنوا دون تُهَم أو محاكمات.
الكتاب الذي ترجمته د. ريم داوود قدم له أوميد توفيقيان كاشفا عن الكثير من التفاصيل
كل هذه العمليات تمَّت من خلال الرسائل النَّصِّية والصوتية في تطبيق الـ"واتس آب"

"لا صديق سوى الجبال" كتابٌ عن الوحدة والعُزلة والقمع والظلم، وحكايات عن أشخاص سُجِنوا دون تُهَم، أو محاكمات، أو أحكام قضائية. مُؤلِّفه هو الصحفي والشاعر الكُردي بِهروز بوتشاني، الذي يحمل الجنسية الإيرانية. حاول بوتشاني دخول الأراضي الأسترالية، كلاجئ، عبر رحلةٍ بحريةٍ في مركبٍ مُتهالك، من إندونيسيا، لكن السلطات الأسترالية ألقت القبض عليه وزملائه، وانتهى الأمر بهم نُزلاء في مركز اعتقال في جزيرة "مانوس"، التابعة لدولة "بابوا غينيا الجديدة". المُلاحظ أن بوتشاني لا يشير إلى المكان كمركز اعتقال، وإنما يستخدم دومًا مفردة "سجن" عند الحديث عنه. هكذا يراه، وهكذا تمَّت معاملة اللاجئين داخله.
الكتاب الذي ترجمته د. ريم داوود، وصدر عن دار العربي للنشر قدم له أوميد توفيقيان مترجم الكتاب إلى الإنجليزية كاشفا عن الكثير من تفاصيل كتابته وعلاقته بالكاتب وأخيرا ترجمته، وأهميته حيث ينتمي لأدب السجون، وهو مستوحى من أحداث حقيقية عن الوحدة والعُزلة والظلم. حكايات عن أشخاص سُجِنوا دون تُهَم أو محاكمات. ذنبهم الوحيد هو رغبتهم في الحصول على الحرية والاستقرار. هربوا جميعًا من بلادهم متجهين نحو أستراليا، كلاجئين عبر رحلةٍ بحريةٍ في مركبٍ مُتهالك من إندونيسيا. فتفاجؤوا بتغير القانون الخاص باللاجئين، وانتهى الأمر بهم في مركز اعتقال في جزيرة "مانوس"، التابعة لدولة "بابوا غينيا الجديدة".

كلما عبرت الشاحنة فوق حفرة، أو عقبة في الطريق، يشعر الأطفال الصغار بالخوف الذي بخيم على الجميع، ويظهر ذلك في طريقة بكائهم وصراخهم

كُتِبَ - كما يشير توفيقيان في مقدمته - في ظروفٍ استثنائية، حيث أنجزه بوتشاني بطريقةٍ غير مألوفةٍ على الإطلاق؛ إذ فعل ذلك عن طريق هاتفه المحمول، حيث نجح في تحدِّي السُّلطات الأسترالية، التي تُدير مركز الاعتقال/السجن، وفضح مُمارساتها عبر تغريداته ورسائله النَصّية، ومكالمات الفيديو المُصوَّرة، بالإضافة إلى الاتصالات ورسائل البريد الإلكتروني. تمكَّن العالَم بأكمله من معرفة هذه الجريمة التي أصرَّت السلطات الأسترالية على مواصلة ارتكابها، عن طريق بوتشاني. لولاه، لظلَّت أحداث جزيرة "مانوس" مجهولة تمامًا. وقت كتابة هذا العمل، كان بوتشاني قد أمضى نحو خمس سنوات سجينًا في تلك الجزيرة. 
يقول توفيقيان "كتبَ بوتشاني هذه المُذكِّرات باللغة الفارسية، ثم تولَّى الأستاذ الجامعي أوميد توفيقيان، الأسترالي من أصولٍ إيرانية، ترجمة النصوص إلى اللغة الإنجليزية. ويشير توفيقيان إلى أن معرفته بـ بوتشاني بدأت عبر موقع فيسبوك، ثم بدأ بوتشاني يرسل له النصوص التي يكتبها من خلال تطبيق "واتس آب". عند تعرُّض شبكة الإنترنت للضعف في مركز الاعتقال، تواصلَ الطرفان بالرسائل النَّصِّيَّة. بهذه الطريقة، نجح بوتشاني في كتابة هذه المُذكِّرات، بالإضافة إلى عددٍ من المقالات والقصائد، كما قام بتصوير فيلم بالطريقة نفسها يحمل اسم "تشوكا.. أخبرنا الوقت من فضلك" عن بعض الأحداث والشخصيات داخل المركز". 
ويضيف: قام بوتشاني بإرسال نصوص طويلة نسبيًّا إلى مُحامية لاجئين تُدعى مؤنِس مَنسوبي، والتي لعبت دورًا بارزًا في ترجمة "لا صديق سوى الجبال" للإنجليزية، إذ كانت تقوم بتحويل تلك النصوص إلى نسخة "بي دي إف"، ثم تتولى إرسالها إلى أوميد توفيقيان. تلقَّى الأخير مساعدةً واقتراحات من مؤنِس ـ التي تتمتَّع باطِّلاعٍ واسعٍ على الأدب الفارسي الكلاسيكي والمعاصر ـ ومن سجاد كابجاني، الباحث في الأدب وفلسفة التعليم. أمضوا ثلاث ساعات، لمرَّةٍ في الأسبوع، أو مرَّتين شهريًّا، في مناقشة المحتوى واللغة، والمفردات الفارسية وأكثر ما يناسبها في اللغة الإنجليزية. حرص الثلاثة على الاتصال بـ بِهروز بين الحين والآخَر ليتأكَّدوا من فهمهم بعض المسائل والمواقف، أو لمُجرَّد إبلاغه بإعجابهم الشديد بما كتب، لكن الأمور لم تكن دومًا على هذا القدر من السلاسة. بدايةً، كان بوتشاني قد هرَّب الهاتف المحمول الذي استخدمه في الكتابة والتصوير، داخل مركز الاعتقال، دون عِلم الإدارة. وفي إحدى جولات التفتيش المفاجئة، التي تتمُّ بين الرابعة والخامسة فجرًا، صُودر هاتفهه الأول. 
ويوضح توفيقيان أنه "لثلاثة أشهر بعدها، اضطر بوتشاني لتدوين النصوص بخطِّ يده، ثم الاتصال بـ مؤنس عن طريق هاتف زميله عارف حيدري المحمول، وقراءة ما كتبه عليها، عبر رسائل صوتية. نجح بعد ذلك في تهريب هاتف محمول آخر، أعدَّ له حفرة في مرتبة فراشه، وخبَّأه داخلها. استطاع أن يحميه من أعين ضبَّاط الإدارة، لكنه عجز عن الاحتفاظ به، إذ سُرِق منه لاحقًا. 
تأخَّر في الكتابة لفترةٍ من الزمن، إلى أن تمكَّن من إدخال هاتف محمول جديد لمركز الاعتقال. يشير أوميد توفيقيان إلى محاولة بهروز بوتشاني في دمج الأسلوب الأدبي مع أسلوب التقرير الصحفي، لإظهار مُعاناة اللاجئين من التجويع والعطش والأرق والمرض والضغوط النفسية والعصبية، ومختلف أنواع التعذيب والسيطرة. اختار بوتشاني أن يطلق على نظام إدارة السجن "كيرياركي"، وقد ترجمها توفيقيان إلى اللغة الإنجليزية بـ"The Kyriarchy System"، وهو النظام الاجتماعي الذي ينشأ حول السيطرة والقهر والإذعان؛ وهو ما يحدث في مراكز اعتقال اللاجئين في أستراليا، بالضبط. استُخدِم المصطلح بهذا المعنى، للمرَّة الأولى، على يد إلسابث شوسلر فيورنزا عام 1992؛ وهو مشتقٌّ من الكلمة اليونانية "كيريوس" بمعنى "سيِّد". في النسخة العربية من العمل، تمَّت ترجمة المصطلح في هذا الكتاب إلى معناه باللغة العربية، وهو "نظام الحاكم المُستَبِدِّ". 
ويكشف توفيقيان: تضمَّنت عملية إصدار الكتاب عديدًا من الخطوات المُعقَّدة. الحقيقة أن الحكاية تُثير الحيرة، ويصعب شرحها، لذا أفكِّرُ في تأليف كتاب أشرحُ فيه مراحل إصدار هذا العمل. عليَّ طبعًا إبراز دور مؤنِس مَنسوبي، التي كانت موجودة في أستراليا، في الوقت الذي تعرَّض فيه بِهروز للحَبس. كان بِهروز يبعث لها برسائل، تتراوح بين فقرة واحدة وصفحتين كاملتين. بعدها، تقوم مؤنس بتنسيقها في فصولٍ مختلفة، بحسب توجيهات بِهروز لها. 
ويتابع: بدأ بِهروز عملية التدوين، على هاتف هُرِّب إليه عام 2013، في الفترة الأولى لوصوله إلى مركز احتجاز اللاجئين في "مانوس". في 2016، انضممتُ إلى مشروع إصدار هذا العمل. وافقتُ على ترجمة الكتاب كاملًا. حينها، كان بِهروز قد انتهى من نحو 30% منه، فيما كانت مؤنس مستمرة في تقسيمه وتنسيقه. بعد لقائي بها، بدأتْ مؤنس في إرسال فصول كاملة، في ملفَّات PDF. في ذلك الوقت، كانت الفصول عبارة عن فقرات طويلة، متواصلة، لم تخضع لعملية تحرير وصياغة. حقيقة الأمر أن عملي لم يقتصر على الترجمة وحدها، بل على التحرير أيضًا. تضمَّنت العملية كثيرًا من الاستشارات والتعاون والمشاركة وتبادُل الأفكار. نفَّذنا ذلك عبر رسائل تطبيق الـ"واتس آب" النَصِّية والصوتية. كثيرًا ما استغرقتُ وبِهروز في نقاشاتٍ عميقةٍ حول أجزاء بعينها من الكتاب. في بعض الأحيان، كان يُرسل لي فقرات إضافية، لأضعها في فصولٍ محدَّدة. في أحيانٍ أخرى، كانت إضافاته لا تتعدَّى سطرًا، أو كلمة واحدة فقط. 
ويضيف توفيقيان: في تلك الفترة أيضًا، كنتُ ألتقي مؤنِس وغيرها من الباحثين ذوي الأصول الإيرانية، من المقيمين في أستراليا، مثل سجَّاد قابجاني، للتشاور معهم بشأن ترجمة الكتاب. كنّا نتقابل أسبوعيًّا، أو مرَّةً كل أسبوعين، لمناقشة ما أنجزته من الترجمة. كانوا يقترحون بعض التغييرات والتعديلات، ونتناقش معًا في أفضل إطارٍ نضع فيه النَصَّ المُترجَم. وحين بدأتُ ترجمة العمل، كان بِهروز قد انتهى من ثلثه الأول؛ أمَّا الثلثان الباقيان فتمَّت كتابتهما وترجمتها أولًا بأول. أثَّرت ترجمتي على صياغته لبقية العمل، والعكس صحيح أيضًا. أعود فأذكِّر أن كل هذه العمليات الطويلة والمُعقَّدة، تمَّت من خلال الرسائل النَّصِّية والصوتية في تطبيق الـ"واتس آب".

ويلفت إلى أنه من الأمور التي سهَّلت عملي مع بِهروز، انتماؤه إلى أقلِّية ضئيلة للغاية في "إيران"، هي الأكراد، الذين يُعانون التهميش والقمع وسوء المعاملة. أنا إيراني فارسي، لكن انتماء أسرتي إلى طائفة دينية بعينها، عرَّضنا لمعاملةٍ شبيهة. من جانب آخر، تعرَّضنا نحن أيضًا لتفرقةٍ عنصريةٍ، بسبب القوانين والعادات المتجذِّرة في السياسة الأسترالية والمجتمع الأسترالي، مثل بِهروز وغيره من اللاجئين. رغم انتمائي وبِهروز لفئتين مهمشتين مختلفتين، وتعرُّضنا لتجربتين غير متشابهتين في النفي واللجوء لمكانٍ جديد، فإن بيننا تفاهُمًا مُشتركًا، وبإمكاننا مناقشة المجتمع الإيراني وسياسته وتاريخه، وفكرة الاضطرار إلى الهجرة. ساعدتنا خبراتنا المشتركة في التهميش، والاضطرار للنزوح والهجرة، وعبور الحدود، في التواصل والتفاهم. فهمتُ الجوانب الفلكلورية في عمله، وكيف أثَّر القَمع على أسلوبه في السرد. تُعبِّر كتابات بِهروز عن تاريخٍ من الصمت والقمع، صاغهُ كتابةً، وأعدتُ أنا صياغته عند الترجمة.
يذكر أن المؤلف بهروز بوتشاني كاتب وصحفي وباحث إيراني – كردي، ومؤسس مجلة اللغة الكردية "ويا"، وعضو فخري بنادي القلم الدولي. يكتب بانتظام في مجلات وصحف عالمية كالـ"جارديان". تخرج في جامعة "تربية مدرس" بطهران، وحصل على درجة الماجستير في العلوم والجغرافيا السياسية. نال كتابه هذا شهرة واسعة بعد صدوره بعد أن نال العديد من الجوائز الدولية، كما نال بِهروز أيضًا العديد من التكريمات، نظير جهوده في مجالَي حقوق الإنسان والصحافة النقدية، إذ فاز بجائزة منظمة العفو الدولية، أستراليا عام 2017. كما حصل على الكثير من المناصب الشرفية في جامعات عالمية مختلفة.
نموذج من الكتاب
تحت ضوء القمر يتجلى لون القلق
تحت ضوء القمر
طريق مجهول
وسماء بلون القلق البالغ
شاحنتان تحملان ركابا متململين، يغمرهم الخوف، تمران عبر متاهة حجرية، ملتوية، تسرعان في الطريق المحاط بالأحراش. أنابيب العادم تصدر هديرا مخيفا، الشاحنتان مغلفتان بقماش أسود، لذلك لا نتمكن من رؤية شيء، سوى النجوم فوقنا. يجلس الرجال والنساء متجاورين، والأطفال فوق أرجلهم، نحدق في السماء. لونها لون القلق البالغ. بين الحين والآخر، يعتدل في جلسته، فوق الأرضية الخشبية للشاحنة، ليسمح للدم بالمرور في عضلاته المتعبة، التي أنهكها الجلوس المتواصل. علينا الاحتفاظ بشيء من قوتنا، كي نستطيع مواصلة ما تبقى من الرحلة.
أجلس لست ساعات متواصلة، دون حراك مسندا ظهري إلى الحائط الخشبي داخل الشاحنة، أستمع إلى مسن أحمق يشتكي من المهربين. تتساقط البذاءات من فمه الخالي من الأسنان. ثلاثة أشهر كاملة من التشرد والجوع في أندونيسيا، دفعتنا لهذا البؤس، لكننا نوشك على المغادرة الآن، عبر هذا الطريق الذي يمر بالغابات والأحراش والذي ينتهي بالمحيط.
في الجانب القريب من باب الشاحنة، ستارة تغطي ركنا به زجاجات مياه فارغة، يتبول الأطفال داخلها، بعيدا عن الأعين. بين الحين والآخر، يدخل أحد الرجال وراء الستارة، ثم يلقي الزجاجات الممتلئة بالبول، دون أن يثير ذلك انتباه الباقين، لا تغادر النساء أماكنهن، مطلقا، لا شك في أنهن يرغبن في التبول، بدورهن، لكن فكرة إفراغ مثاناتهن خلف ستارة رقيقة تسبب لهن الحرج.
تحتضن كثيرات منهن أطفالهن، وهن مستغرقات في التفكير في مخاطر الرحلة البحرية الوشيكة، يتقافز الصغار بين أذرع أمهاتهن. كلما عبرت الشاحنة فوق حفرة، أو عقبة في الطريق، يشعر الأطفال الصغار بالخوف الذي بخيم على الجميع، ويظهر ذلك في طريقة بكائهم وصراخهم.
زئير الشاحنة 
سطوة الإنهاك
خوف وقلق
يأمرنا السائق بمواصلة الجلوس
يقف رجل نحيل، بجوار باب الشاحنة. له بشرة سمراء لوحتها الشمس، يشير للناس بالتزام الصمت، لكن الأطفال يواصلون البكاء، تحاول الأمهات تهدئتهم وإسكاتهم، يغطي هدير المحركات على جميع الأصوات.
يلقي الخوف بظلاله علينا، ويشحذ غرائزنا، تغطي أغصان الأشجار الضخمة السماء، عند مرورنا تحتها. لست متأكدا من الطريق الذي نسلكه للوصول إلى المحيط. يفترض أن ينتظرنا المركب الذي سيقلنا إلى أستراليا عند شاطئ بعيد، بجنوب إندونيسيا، بالقرب من جاكرتا.