لا ضرورة للاحتفاء بالعبث

"الكومبارس" رواية كتبت عن الظلم الذي يتعرض له الممثل الموهوب المحترم الذي يتعفف عن مطاردة المنتجين والمخرجين ولا يمسح جوخًا لأحد.
عبدالمؤمن السعيد يفقد الأمل في الحياة، ويعتبر كل ما يحدث نوعًا من العبث
الرواية تبدأ برسالة عبدالمؤمن السعيد التي تركها لزوجته قبل أن يغادر البيت للأبد

في روايته "الكومبارس" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، يرصد الروائي المصري ناصر عراق ما يحيط بعالم المهمشين، ونتيجة هذا التهميش عليهم بعد أن يتم إقصاؤهم من المشهد الحياتي، رغم امتلاكهم لمقومات الوجود الفعّال في الصفوف الأولى لمسرح الحياة، إذ يحدث هذا لمصلحة آخرين يفتقرون إلى كل شيء يمُتّ إلى الموهبة أو الكفاءة بصلة، غير أنهم، وبأساليب غير مشروعة بالطبع، يتجهون رأسًا صوب بؤرة المشهد، بل يصبحون نجومه وأبطاله، وهذا ما تجسده شخصية عبدالمؤمن السعيد، إحدى الشخصيات المحورية التي بُني عليها كيان الرواية، وهو الممثل الذي أثنى كثيرون على أدواره وهو في بداية حياته الفنية، لكن شخصًا آخر يُدعى حسن والي لم يكن يمتلك أية مَلَكة أو موهبة تَصدَّرَ الشاشة لا لشيء سوى لامتلاك أبيه شركة إنتاج.
هذا ما جعل عبدالمؤمن يفقد الأمل في الحياة، ويعتبر كل ما يحدث نوعًا من العبث، خاصة وأننا جميعًا ذاهبون لا محالة إلى الموت، وقريبًا سنصبح طعامًا لذيذًا لدود الأرض: "تلقّى الخبر وهو لا يدري هل هو مصدوم أم حزين أم غاضب؟ فقد اكتشف أن معاني الحياة ودلالتها قد خاصمته منذ زمن، فلا فرح ولا حزن ولا كرامة". فقدان الأمل هذا اضطر عبدالمؤمن أن يترك زوجته وابنتيْه، بعد رحيل ابنه يحيى، ويذهب بعيدًا حيث لا يعرف أحدًا ولا يعرفه أحد، منتظرًا في سلبية قاتمة نهايته المعلومة: "لا فائدة من المعرفة، فالأوغاد ينتصرون دومًا، ويتركوننا نمضغ الحنظل والمُر حتى تأتي الساعة التي تتوقف فيها الحياة ونتلاشى من الوجود".

ناصر عراق حاول في روايته هذه ألا تكون ممتعة وفقط، بل أضاف إلى متعتها ما يفيد المتلقي من خلال الثقافة الواضحة التي تحلّت بها بعض شخصيات الرواية

الرواية التي تبدأ برسالة عبدالمؤمن السعيد التي تركها لزوجته قبل أن يغادر البيت للأبد ويقول فيها: "زوجتي العزيزة إيمان.. لعلك لاحظت سكوتي الدائم منذ وقعت المصيبة، وأظن أن اليأس قد انتابك من عودتي إلى ما كنا عليه، وإليك التفسير.. لم أعد مقتنعًا بشيء.. لا أنا ولا أنت ولا الأبناء ولا السينما ولا المسرح ولا التليفزيون.. ورغم أنهم التفتوا إلى موهبتي أخيرًا، إلا أنني لم أعد مؤمنًا بشيء.. لا بالسماء ولا بالأرض.. ولا بالماضي ولا الحاضر ولا المستقبل.. وسأحول كل ما أملكه من رصيد في البنك إلى حسابك، وسأختفي إلى الأبد.. فاشكري دود الأرض!"، تتناول عددًا من الشخصيات، يُمثل كل منها عالمًا مختلفًا عن عوالم الشخصيات الأخرى، وبه من المآسي والآلام الكثير، ووجه الشبه الذي يضمها معًا هو الشعور بالانهزام الداخلي وبافتقاد شيء ما مهم في الحياة، أو أهم ما في الحياة وهو الشعور بالحياة ذاتها.
ويجسد الشخصيات المحورية في الرواية، إلى جانب شخصية الراوي، عبدالمؤمن السعيد، أو سلامة بعد هروبه من بيته، إيمان الزوجة الأولى، فاطمة وفاتن ابنتاه، فيما يمر طيف يحيى الابن الراحل من حين لحين عبر صفحات الرواية. بينما تؤدي شخصيات ثانوية أخرى دورها مساعدة في تكملة المشهد. هنا، كما ذكرت، تغوص الرواية في عالم المهمشين الذين يقوم على أكتافهم كل شيء، ولا ينالون أي شيء، فيما يأتي آخرون ويحصدون كل شيء في يسر وسهولة، ودون أي عناء يُذكر.
في الرواية ندلف إلى تفاصيل عالم الثوريّ الذي يعشق وطنه بصدق ويدافع عنه مقدمًا روحه فداءً له. كذلك ندخل عالم ضابط الشرطة الذي ينفذ الأوامر حتى وإن أودت بأرواح الأبرياء. كذلك نجد المُعقد الذي يتقزز من النساء ويظنهن بؤرة للقرف والقذارة، ونجد المرأة الخائنة، نجد تاجر المخدرات المتستر تحت أنشطة أخرى، نجد القاتل الشهواني الذي يطارد النساء ولا يتورع أن يلوث سرير الزوجية المقدس بأنفاس البغايا.
في الكومبارس تصوير لعالم المرأة المحرومة من كل شيء حتى حقوقها الطبيعية، وتجسيد لعالم الرجل الذي لا يرى أي مبرر لمواصلة الحياة ما دمنا سنموت وسيأكلنا الدود ذات يوم. 
غير أنني أرى أن الرواية تعتبر، في الأساس، تأريخًا لثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 والتي اجتاحت مصر عقب ثورة تونس. الرواية ترصد بعين الراوي العليم مقدمات وظروف ونتائج الثورة بأسلوب روائي سلس، يبتعد عن المباشرة والسرد التوثيقي للوقائع والأحداث: "انظري إلى الجالسين.. شباب وفتيات.. مسلمين وأقباط.. محبطين سابقين.. عشاق مخذولين.. ممثلي تيارات سياسية مختلفة.. الكل هائم في عشق الوطن.. كل واحد تجاوز همومه الشخصية وذاب وجدًا في حب مصر".   

novel
أكثر من تفسير للمشهد الراوئي الواحد

الكومبارس التي تحكي عن مجتمع بأكمله، ترصد كذلك، من خلال شخصية د.جميل الشناوي، الذين لا يؤمنون بأهمية الأديان في الحياة، وقد يصل بهم الأمر إلى إنكار وجود الله: "افعلي ما يحلو لك يا حبيبتي.. لكم دينكم ولي دين". ورغم هذا نجد الشناوي يحلم كغيره بوطن أعمدته تنبني على العدل والمساواة والحرية: "أنتم تعلمون أن الانحياز لليسار والعدل الاجتماعي وحرية الإبداع كلها تؤدي إلى قيام مجتمع أكثر جمالًا وأمنًا. وأنا رغم حالي الميسور نسبيًّا ما زلت منتميًا فكريًّا إلى اليسار لأني مؤمن تمامًا أن الفقر نتيجة بائسة لظلم الحكام وجشع طبقتهم".
كما تسلط الكومبارس الضوء على المتسلقين الذين يصعدون إلى عرش النجومية والتمكين بسرعة الصاروخ، دون أن تكون لديهم الموهبة، محتلين بهذا أماكن يستحقها آخرون لديهم المقومات التي تمكنهم من هذا الصعود: "ما أتعس الفقراء الذين إذا امتلكوا موهبة لم تقدّر بما يليق!".  
عبدالمؤمن السعيد يظل طوال صفحات الرواية يائسًا من الحياة متأكدًا من عبثيتها ولا جدواها: "هذا هو المآل.. مجرد فرد في عصابة مخدرات.. فرد بلا قيمة كما كنت ممثلًا بلا ذِكر". كما يظل يرى أن غيره سطا على مكانه وحرمه منه وهو الأحق منه به: "كيف تستقيم الحياة إذا أصبح الأوغاد هم من يتصدرون المشهد؟ حسن والي وفايزة السعدني وأبو حوا.. وحتى أمي الداعرة وإيمان الخئون.. كلهم أوغاد يستحقون الموت، وكلهم سيتفتتون على موائد دود الأرض..فلماذا الخوف؟"
وباختصار يمكن لنا أن نقول إن الكومبارس هي رواية كتبت عن الظلم الذي يتعرض له الممثل الموهوب المحترم الذي يتعفف عن مطاردة المنتجين والمخرجين ولا يمسح جوخًا لأحد. الممثل هنا هو النموذج الذي يمثل كل مهمش في هذا المجتمع زهد في الحياة بكل مفرداتها، بعد أن تكالب عليها المتسلقون وحاملو الحقائب الذين يأكلون على كل الموائد ويعرفون بامتياز كيف ومن أين تُؤكل الكتف. الكومبارس التي ترى أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة سياسية انتهازية لم تقف موقفًا ثوريًّا واحدًا طوال تاريخ مصر، وهي ماهرة في المتاجرة بالدين وإغواء البسطاء، لا يكتفي فيها ناصر عراق بالتركيز على ثورة يناير 2011 بل يعود بنا إلى ما قبل نكسة 1967 ثم يعرج بنا إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973 من خلال شخصية عبدالمؤمن السعيد بطل الرواية الذي هزم نفسه بنفسه ظانًّا أن الهروب من الواقع هو العلاج، فيما يكمن العلاج الحقيقي في مواجهة الواقع، ومحاولة تغييره إلى الأفضل، مهما كانت العوائق والعقبات.
هذا وتناقش الرواية عدة قضايا إنسانية أخرى، عبر لغة سردية سلسة وبسيطة، مُحلقة في فضاءات روائية متعددة الجوانب والتأويلات، مُتيحة للقاريء أكثر من تفسير للمشهد الراوئي الواحد، مثلما حاول ناصر عراق في روايته هذه ألا تكون ممتعة وفقط، بل أضاف إلى متعتها ما يفيد المتلقي من خلال الثقافة الواضحة التي تحلّت بها بعض شخصيات الرواية.