لبنان على شفير صفقة القرن

سلاح حزب الله ومصير نصف مليون لاجئ فلسطيني وأكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري يعيشون على أرض لبنان أيضا جزء من صفقة القرن.

في سبعينات القرن الماضي أطلقت أميركا مشروع الحل السلمي للقضية الفلسطينية والنزاع العربي/الإسرائيلي. في تسعيناته شنت سلسلة حروب من أفغانستان إلى العراق. في الألفين رفعت شعار نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. في بدايات القرن الحالي دعمت ثورات "الربيع العربي" على الأنظمة القائمة. وبموازاة ذلك، كانت تركز على محاربة الإرهاب ومنع إيران من امتلاك السلاح النووي.

اليوم، أوقفت أميركا مفاوضات الحل السلمي وتبادل الأرض مقابل السلام، انسحبت من حروبها قبل تحقيق أهدافها المعلنة على الأقل، أخفت مشروع نشر الديمقراطية قبل انتشارها، تخلت عن شعوب الربيع العربي وتكيفت مع الأنظمة القائمة.

هذا التغيير الأميركي حصل في الشرق الأوسط، حيث فشلت هذه المسارات، قبل أن تعتمده واشنطن: لاحظت أميركا أن حروبها المكلفة في الشرق لم ترتد إيجابا لا على شعوبه ولا عليها، وأن العرب ما عادوا متحمسين للقضية الفلسطينية (إيران أولا)، وأن المجتمعات العربية غير مهيأة بعد لممارسة الديمقراطية، وأن الربيع العربي تحول ربيعا إسلاميا متطرفا وتسلل الإرهاب إليه بقوة، وأن الجيوش في العالم العربي لا تزال القوة الرئيسة.

وفيما بدا هذا التغيير نذير انكفاء الدور الأميركي في المنطقة، سارع الرئيس الأميركي إلى طرح "صفقة القرن" بديلا من السياسات الأميركية السابقة في الشرق الأوسط ونقيضا لها. وبانتظار تفاصيل هذه الصفقة - هذا إذا أعلنت تفاصيلها - رشح أنها ترتكز على ثلاث آليات هي: التبادل العقاري والإغراء المالي والترهيب الاقتصادي. وتهدف إلى ما يلي: تصفية القضية الفلسطينية دولة وشعبا ولاجئين، ضمان أمن إسرائيل وحدودها النهائية، صلح عربي/إسرائيلي شامل ومطبع، إطلاق مشروع تعاون أمني واقتصادي أميركي - عربي - إسرائيلي، تعديل حدود بعض دول المنطقة بين المشرق ووادي النيل، إقامة أنظمة فدرالية لضمان الخصوصيات الإثنية والطائفية، حصر دور إيران، وتأمين إنتاج النفط والغاز وحماية خطوط النقل...

لم يخترع الرئيس ترامب "صفقة القرن". عناصرها موجودة في ملفات الإدارة الأميركية منذ سنوات، لكنه تبناها وأعاد صياغتها وحولها مع صهره، جاريد كوشنر، مشروعا متكاملا عله يحقق من دون حروب ما عجز عنه أسلافه بحروب. غير أن هذه الصفقة تفتقر أولا إلى معرفة الشرق المعقد، إلى حرفية وواقعية وروح، وإلى إيمان الإدارة الأميركية بها، ما قد يحولها مشروع حرب عوض مشروع سلام. فباستثناء أقلية حول ترامب، مراكز صناعة القرار الأميركي (الخارجية والدفاع والاستخبارات) غير مقتنعة بها، فوزير الخارجية مايك بومبيو، حين سئل في 27 أذار/مارس الماضي في الكونغرس عن تاريخ إعلان صفقة القرن، أجاب ساخرا: "لئلا أعطي جوابا متهورا، أعتقد بخلال السنوات العشرين المقبلة".

يبقى أن البارز في هذه الصفقة هو غياب أي اعتبار للمفاهيم الوطنية، لاسيما بالنسبة للشعب الفلسطيني. فعدا أن التبادل العقاري ليس جزءا من منطق الأرض مقابل السلام، فإنه يقوم على مبادلة أرض عربية بأرض عربية أخرى لمصلحة إسرائيل، وليس على مبادلة أرض عربية بأرض إسرائيلية لمصلحة العرب. فالصفقة تهب إسرائيل أرض فلسطين بما فيها أورشليم والضفة الغربية.

كان التصرف بالكيانات والحدود يجري في عهود الإمبراطوريات حين كانت الشعوب والأراضي تقسم على ولايات ومقاطعات تابعة لها. أما اليوم، فأي تبادل عقاري وحدودي بين الدول القائمة هو عمل غير شرعي وغير أخلاقي ما لم يلب مطالب شعوب تنشد تقرير مصيرها على أرضها في إطار كونفدرالي أو حكم ذاتي أو انفصالي. لا يحق لأي حاكم أن يهدي أرضا من دولته أو أن يضم شعبا إلى وطنه، كما لا يحق لأي جماعة أن تمنع جماعة أخرى في الوطن من اختيار مستقبلها.

لذا، يصعب أن تنجح الولايات المتحدة في تنفيذ صفقة القرن كاملة بالوسائل السلمية. فالتغييرات الكبرى في التاريخ القديم والحديث مرت بامتحان قوة وبخاصة في الشرق (لبنان ضمنا). إن أي تغيير جغرافي فوقي لا يلتقي مع حق الشعوب يؤسس لثورات غير مضبوطة أو لجيل إرهابي جديد. ويفترض بواشنطن، قبل سواها، أن تدرك ذلك بعد حروبها في أفغانستان والعراق.

في ضوء المعطيات المقطرة، عين صفقة القرن على لبنان وعين لبنان عليها، إذ هو معني بها وبارتداداتها عليه. فعدا أن أميركا تأمل من خلال هذه الصفقة أن ينضم لبنان إلى السلام العربي/الإسرائيلي الشامل وأن ينزع سلاح حزب الله، يهم لبنان تحديد مصير نصف مليون لاجئ فلسطيني وأكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري يعيشون على أرضه. كما يهمه حسم موضوع الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل بما يضمن التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما وتسويقهما.

طبيعي أن يؤدي "ضم" لبنان إلى صفقة القرن إلى تشنج الوضع العام، فاللبنانيون مختلفون حول هذه القضايا المصيرية. ولأن الأمن اللبناني هو تلاق بين قرارين داخلي وخارجي يتأثر أحدهما بالآخر بسبب تعدد الولاءات وضعف الدولة اللبنانية، يخشى أن يحصل افتراق بين القرارين ويدخل لبنان في مرحلة جديدة. وما يثير الشك هو أننا نشهد مجموعة مواقف وتحركات تبرر بنوعيتها وتبعيتها أن نربطها بمحركين "مهنيين" وبالتحولات المنتظرة.

إذا كانت هذه التحركات طليعة تغيير وطني ينقذ لبنان من الواقع الراهن ويقلب الطاولة على الجميع، فالبركة الشعبية تشملها. أما إذا كانت تهدف فقط إلى ضرب الاستقرار وإشغال اللبنانيين بأحداث جانبية لتمر عربة التاريخ والمستقبل بمنأى عنهم، فرجاء لا نلعبن بالنار مرة أخرى. إن المنعطف التاريخي الذي نجتازه يحتم تأليف جبهة وطنية تطرح القضية اللبنانية في المحافل العربية والدولية لئلا تتم تصفية لبنان الكبير بموازاة تصفية القضية الفلسطينية.