لماذا لا نكتب رواية الوقائع الكبرى؟

صحيح أن إحدى وظائف الأدب والفن هي إنتاج خطابات إبداعية حول الموضوعات الفردية والهامشية لكن القضايا الكبرى لا تقل أهميةً عن هذه الموضوعات إن لم تكن أهم منها.
ثمة تجارب روائية عربية عديدة كتبت ولا تزال تكتب، في خضم الجحيم والحرائق الناشبة في أكثر من فضاء عربي
الكتّاب العراقيون كتبوا العديد من الروايات عن مآسي وكوارث خلال سنوات الاحتلال الأميركي واحتلال داعش

نحتاج في عالمنا العربي اليوم، مثلما نحتاج في المستقبل، إلى كتابة روايات عن أحواله المأساوية، وهي كثيرة جداً: انهيار آماله الجماعية، هويته الممزقة، مصائر أبنائه المنفيّين والمهجّرين، ونسائه المقموعات، وأصحاب الرأي، وضحايا الحروب الأهلية والاستبداد السياسي والاجتماعي والديني، ليس في سياق ما يعرف بـ"السرديات الكبرى"، ذات الخطاب الشمولي، القائمة على منظومة من المعايير مطلقة، والتي نقضها مشروع ما بعد الحداثة، بل من خلال تسليط الضوء على مصائر نماذج إنسانية محددة في خضم وقائع كبرى (ثورات، حروب، نزوح جماعي...) تشكّل خلفية بانارومية لمآلات تلك النماذج. وإذا لم يكن الإبداع الأدبي والفني هو السجل الشامل لكل ذلك فأين نجده؟
صحيح أن إحدى وظائف الأدب والفن هي إنتاج خطابات إبداعية حول الموضوعات الفردية والهامشية (السرديات الصغرى، أو سرديات حيوات الناس اليومية والعادية)، أو لمس اللا محسوس، كما يقول أوكتافيا باث، لكن القضايا الكبرى لا تقل أهميةً عن هذه الموضوعات إن لم تكن أهم منها.
يتساءل بعض الكتّاب هل يمكن لروائي أن يكتب روايته عن حدث إنساني مهول بينما الحرائق تكتب الأقدار البشرية؟ كيف يمكن للكاتب أن يكتب أدبا روائياً بينما العواصف تأخذ كل شيء وتأتي على كل شيء ولا تبقي سوى الدم حبراً للكتابة؟ كيف يكتب الروائي الكلمات في الأزمنة العاصفة ويصنع منها أدباً بينما نهر الآلام البشرية يتدفق ولا يُرى في الأرض من على ضفتي المشهد سوى الهشيم؟
في رأيي: نعم بإمكان الروائي أن يكتب رواية عن هذه الأحداث الكبرى، إرنست همنغواي فعل ذلك في روايته "وداعا للسلاح" التي كتبها خلال الحملة الإيطالية في الحرب العالمية الأولى، وهي تروي قصة ملازم أميركي في المستشفى الميداني الإيطالي، تنشأ قصة حب بينه وبين الممرضة الشابة كاترين باركلي، مع عرض عام لأجواء الحرب على الجبهات المشتعلة وأوضاع الجنود المزرية ودفع المدنيين ثمناً باهظاً للحرب.

وداعا للسلاح
نعم فعلها ارنست همنغواي

الروائي الفرنسي فيركور كتب أيضاً رواية "صمت البحر" خلال الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من أنها تتحدث عن صمت موظف فرنسي وزوجته يمتنعان عن الكلام في منزلهما المحتل من ضباط نازيين ألمان، فإنها رواية مقاومة للاحتلال بتجاهل وجوده تماماً، وهو أقل ردة فعل تجاه كارثة مهولة يتعرض لها بلدهما.
ثمة تجارب روائية عربية عديدة كتبت، ولا تزال تكتب، في خضم الجحيم والحرائق الناشبة في أكثر من فضاء عربي، تأتي في مقدمتها روايات لكتّاب سوريين وعراقيين، منها رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، للروائي خالد خليفة الذي استطاع أن يتناول فيها الأحداث في سوريا بنجاح بالغ، مركزا على إحدى الأسر السورية التي تتأثر بحالة التفكك داخل مجتمعها خلال ربع قرن من الزمان، ويثار من خلالها الجدل حول معاناة الشعب السوري في ظل الحكم الدكتاتوري.
نشير كذلك إلى روايتي عبدالله مكسور "أيام في بابا عمرو"، و"عائد إلى حلب"، اللتين أكدتا أن تناول الحالة السورية أمر طبيعي، رغم أن الكتابة عن الحدث لحظة وقوعه مغامرة كبرى.
وفي السياق ذاته كتب الروائي السوري محمد الدعفيس روايته "قوافل الريح"، وهي تكاد تكون الجزء الثاني من روايته الأولى "الرصاصة تقتل مرتين"، يسرد فيها مآسي النازحين الفارين من جحيم الحروب، التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلى حيث تصوروا أنه الأمان، فإذا بهم يكتشفون أنهم تحولوا إلى ما يشبه حفنة الحنطة التي يطحنها حجرا الرحى. وتعد الروائية السورية سمر يزبك، التي أجبرت على مغادرة سوريا هربا من بطش النظام، من أوائل من كتبوا عن الثورة السورية ومعاناة الشعب السوري في روايتها “تقاطع نيران”.
أما الكتّاب العراقيين فقد كتبوا العديد من الروايات عن المآسي والكوارث الكبيرة التي شهدها بلدهم خلال سنوات الاحتلال الأميركي، واحتلال داعش لمدنهم، وتمركزت موضوعاتها حول قضايا اللحظة الاجتماعية والسياسية والعسكرية عبر أكثر من مستوى فني، عالجت فيه مشكلة الاحتلال والجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش والجماعات الإرهابية الأخرى وتداعياتها الجوهرية التي عصفت في بنية المجتمع، نذكر منها، تمثيلا لا حصرا، "أموات بغداد" لجمال حسين، "حليب المارينز" لكاتب هذه السطور، "الحفيدة الأميركية" لإنعام كجه جي، "سيدات زحل" للطفية الدليمي، "عذراء سنجار" لوارد بدر السالم، و"رقصة الجديلة والنهر" لوفاء عبدالرزاق.