لم يزل ترامب الميكروفون الأقوى


يبدو السؤال عن الحدث المهم بعد حظر حسابات ترامب على مواقع التواصل، هو القدرة في استمرار التأثير على العقول من قبل الرجل الغني المحاصر إعلاميا.
دونالد ترامب لعبة صحافية مستمرة ومتصاعدة بوصفه حنجرة عميقة ومكبر صوت لم يتوقف عن الصراخ، بالرغم من خروجه من البيت الأبيض وإيقاف حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي لعامين قادمين

لست مولعا بدونالد ترامب مثل صديقتي الأيرلندية التي سبق وأن كتبت عنها، كي أطلق سؤال ما الذي حدث لمكبّر الصوت منذ حظره على وسائل التواصل، لكن الرئيس الأميركي السابق مازال لعبة صحافية لا تمل، بل مستمرة ومتصاعدة بوصفه حنجرة عميقة ومكبر صوت لم يتوقف عن الصراخ، بالرغم من خروجه من البيت الأبيض وإيقاف حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي لعامين قادمين، لحين التأكد من توقف ضررها، وفق تعبير شركة فيسبوك.

كان ترامب إعلانا مضرا كالسجائر في حملته الانتخابية قبل خمسة أعوام، لكن هذا الإعلان استمر بالظهور وكسب مئة مليون متابع على مواقع التواصل، بينما لم يتوقف عن نعت الصحافة بـ”البذرة الفاسدة” والمصدر الكبير للأخبار الملفّقة!

هذا يعني أن الصحافة بالنسبة إلى ترامب مجرد أخبار زائفة بينما ترامب بالنسبة إلى وسائل الإعلام أكثر من ذلك. لذلك يبدو السؤال عن الحدث المهم بعد حظر حسابات ترامب، هو القدرة في استمرار التأثير على العقول من قبل الرجل الغني المحاصر إعلاميا، بينما يعد نفسه لانتخابات رئاسية بعد أربعة أعوام.

دعك من الكتب المستمرة في الإصدار عن ترامب، وآخرها كتاب “بصراحة، لقد فزنا في هذه الانتخابات: القصة الداخلية لكيفية خسارة ترامب”، للصحافي مايكل بيندر الكاتب في صحيفة وول ستريت جورنال.

يكشف المؤلف في الكتاب المرتقب إصداره خلال أسابيع، التساؤل الأهم من قبل ترامب بقوله “كيف أخسر في استطلاعات الرأي أمام متخلّف عقليا؟” في إشارة إلى جو بايدن.

عندما يتعلق الأمر بي، فلم أفقد صلتي بترامب بوصفه مصدرا إخباريا بعد إيقاف حساباته على مواقع التواصل، فالاشتراك بموقعه على الإنترنت مستمر ويزوّد المتابعين له برسالة إخبارية يومية تقريبا تحمل من التحريض والوعود نفس القدر الذي كانت تحمله تغريداته على تويتر. مقابل ذلك لا تتوانى الصحف الأميركية التي لم يتراجع استياؤها من ترامب في عرض السيناريوهات المقترحة لاحتوائه، مع أنها تعلن دون مواربة بأنه ليس من مهمّة الصحافة إنقاذ الولايات المتحدة من ترامب.

لذلك يمتلك سؤال ما الذي حصل بعد إيقاف حسابات ترامب، الجدوى والأهمية في استمرار إطلاقه، على الأقل بالنسبة إلينا كصحافيين عندما نشكل ضررا مستمرا على السياسيين. فكل الآمال التواقة إلى إزالة مكبر الصوت من أمام حنجرة ترامب لم تشعر بالسعادة بعد، فالمكبر مازال قريبا من فم ترامب ولم يتراجع تصنيفه بالحنجرة العميقة، بغض النظر عن الأفكار أو الصراخ الصادر من تلك الحنجرة. أو وفق المؤرخ مايكل بيشلوس المتخصص بتاريخ الرؤساء الأميركيين، بأن ترامب تحدّى نموذج الرؤساء السابقين الذين يخسرون الانتخابات ويميلون إلى التلاشي، ولم يسمح بمعاملته مثل ريتشارد نيكسون الذي نُبذ بعد تنحيه إثر فضيحة وترغيت.

ترامب مازال “كبيرا” إذا كان هذا المقياس متعلقا بخوف السياسيين منه، بل إنه لم يتراجع عن مقدمة المعايير المعتمدة في قياس القوة بواشنطن. إلى درجة يرى فيها بيشلوس أن العديد من القادة الجمهوريين مازالوا يرتعبون أمامه من أنه لا يمتلك سلطته السابقة. وما يؤكد ذلك مطالبة باربرا كومستوك المحامية والقيادية في الحزب الجمهوري عن ولاية فرجينيا، زملاءها الجمهوريين بالتوقف عن الخوف من ترامب الذي وصفته بالخطير والضعيف في آن!

وتلك لعمري قصة صحافية مستمرة وإن حدثت خارج أروقة البيت الأبيض ولا يمكن لفيسبوك أو تويتر أو نيويورك تايمز حجبها.

اليوم ترامب لا يغرّد متهكما على تويتر، ولا يقصي كبار المسؤولين ببيانات قصيرة على فيسبوك، لكن تصريحاته تصل بقدر مقارب إلى جمهور إمبراطورية فيسبوك.

صحيفة نيويورك تايمز جعلت من تلك المعادلة قصة فقارنت الإعجابات التي كانت تحظى بها تغريدات ترامب مع تأثير الرسائل التي يوزّعها اليوم عبر البريد الإلكتروني للمشتركين معه، والمتصفحين لموقعه الإلكتروني.

قد لا تكون النتيجة بنفس الحجم والكثافة مقارنة بسرعة التغريدات السابقة، لكنه في كل الأحوال لم يسمح بإسقاط مكبر الصوت من يده!

فقط كانت تحظى تغريداته بمتوسط مشاركة وإعجاب يعادل 272 ألفا، بينما تراجع هذا المتوسط إلى 36 ألفا مع الرسائل التي يوزعها بعد حظر حساباته على مواقع التواصل.

علينا أن نأخذ في الاعتبار هنا، أن المستخدمين كانوا يتفاعلون مع تغريدات ترامب سواء بالإعجاب أو الرفض، بينما رسائله اليوم تصل إلى المشتركين معه وفي الغالب هم من الداعمين له.

فقد حظيت رسالته الموزعة في الحادي والعشرين من مارس الماضي، التي زعمت بأن إدارته سلمت أكثر الحدود أمانا في التاريخ، منتقدا فيها طريقة تعامل إدارة بايدن مع أزمة الحدود، بإعجاب ومشاركة 661 ألفا.

توصلت صحيفة نيويورك تايمز في تقريرها الاستطلاعي المعزز بالأرقام لما قبل وبعد حظر حسابات ترامب على مواقع التواصل، إلى أن أنصاره المتحمّسين يقومون بالمهمة نيابة عنه في حساباتهم الشخصية بإعادة نشر بياناته، وتلك مهمّة لم يكن بمقدوره القيام بها بنفسه.

في النتيجة، حصلت تغريدات ترامب قبل الحظر على 22.1 مليون إعجاب ومشاركة، بينما لاقت رسائله بعد الحظر على 1.3 مليون إعجاب ومشاركة. وهو رقم لا يدعو أكثر الناقمين على ترامب إلى الزعم بأن مكبر الصوت أسقط من يده.

كما أن الاختلاف الكبير بين الرقمين يكشف لنا، القوة الهائلة التي تتمتع بها مواقع التواصل الاجتماعي في كبح التضليل السياسي والأمني، إن أرادت استخدام هذه القوة!

وهكذا فإن حظر ترامب من مواقع التواصل الاجتماعي لا ينهي التضليل ويحجب إيصال الأصوات أيضا، بغض النظر عن طبيعتها، لكنه يحدّ من أضرار وفوائد الشبكات والأفراد.

ترامب اليوم هو سياسي مطرود من إمبراطوريته الرقمية التي كانت مشيّدة بمئة مليون متابع قبل أشهر، وسيبقى كذلك لعامين قادمين، لكنه مع ذلك مستمر بتمرير الأجندة التي يؤمن بها ويريدها للأميركيين، ويمكن الرجوع إلى كل ما ينشره، إن لم يكن على موقعه الشخصي على الإنترنت، فعبر أنصاره الموزعين على الأرض في الولايات المتحدة وفي العالم الرقمي.