ليكن أول أيلول عيدا وطنيا للبنان

لم يعد لبنان لأحد فتوزعت المكونات بقاياه كالغزاة الذين ينهبون بلدا لا يملكونه ويضطهدون شعبا اجتاحوه.
هناك مكونات تريد لبنان الكبير أرضا شاغرة لمشاريعها ومن دون دولة ونظام ودستور وقانون
احترم اللبنانيون الهدنة مع إسرائيل أكثر مـما احترموا الهدنات في ما بينهم

المكونات اللبنانية ترفض المس بلبنان الكبير، وإذا أحد نفض عنه الغبار اتهمته بالتقسيم. لكن تصرفات هذه المكونات، بالمقابل، جعلت لبنان رمادا حتى بات غير قابل للوحدة ولا للتقسيم. السلام فيه موقف لحظة، والحرب موعد رابض. الأخطر من أن يكون لبنان جزءا من قومية أخرى، هو أن يكون جزءا من مشروع آخر. لم تحصل حروب قومية في العالم العربي، لكن صراع المشاريع فجر حروبا مستدامة. التعصب الديني أقوى من الشعور القومي، والجهالة أقوى من الاثنين. الصراع الحقيقي في الشرق ليس بين الدين والعلمنة، بل بين الدين والتطرف الديني.

هناك مكونات تريد لبنان الكبير أرضا شاغرة لمشاريعها، ومن دون دولة ونظام ودستور وقانون. تفضله مساحة تفرز عقاريــا لا وطنا يضم وجدانيا. لا وجدان من دون ولاء. ولا ولاء من دون إيمان. هناك فارق كبير بين الاعتراف بلبنان والإيمان به. الاعتراف هو أخذ علم بوجود لبنان، بينما الإيمان هو أخذ لبنان بجوهره وهويته ونظامه وقيمه ورسالته. معيار الولاء للبنان هو بما يمثل بحد ذاته لا بما نـــتمثــل فيه. الحالة الأولى إيمان مطلق، والحالة الأخرى حساب ربح وخسارة. وهذه حالنا.

دافعنا جميعا عن لبنان بمقدار ما نحن موجودون فيه لا بمقدار ما هو موجود فينا. وحين كل مكون لبناني بدأ يشعر أن لبنان هو لمكون آخر ــــ وهذا منطق تقسيمي وامتلاكي ــــ لم يعد لبنان لأحد فتوزعت المكونات بقاياه كالغزاة الذين ينهبون بلدا لا يملكونه ويضطهدون شعبا اجتاحوه. أجل، إن اللبنانيين يتعرضون لغزو أسوأ من الاحتلال. المحتل مسؤول عن الدولة التي يحتلها بينما الغازي يجتاح من دون رقيب.

هذه الحالة الغريبة والفريدة أضعفت إيمان اللبنانيين بوطنهم. الذين هاجروا غادروا لعدم إيمانهم بمستقبل لبنان، والذين بقوا يفتشون عن خرائط دستورية قديمة يرمـمونها علها تحيـي فيهم الأمل بالمصير. لم ينكفئ بعض اللبنانيين عن الرهان على لبنان الكبير لأنهم تعبوا، بل لأن بعضهم يــئس من البعض الآخر؛ إذ كلما راهن مكون على مكون آخر يخذله، وكلما وجد حل يغتال. دورة الثقة بين اللبنانيين تفتقد الثبات والاطمئنان. يشوبها الحذر والتوتر وسوء الظن. تجفل من أي حادث أو تصريح كالعصفور يفر من غصنه ما إن يسمع صدى طلقة نار.

نحن البلد الوحيد الذي إذا اختلف لبنانيان على أفضلية المرور يطرحان فورا وحدة لبنان ومصيره. وأصلا، منذ أن نشأ لبنان ونحن نـتهادد بالانفصال والتقسيم، ونتحايل على أدوار بعضنا البعض وبخاصة على دور المسيحيين. والمعيب، أن نخبا مسيحيين أدمنوا على المخالفة زهوا بالذات، يجلدون القادة الموارنة التاريخيين وأحزابهم. يحملونهم مسؤولية فشل دولة لبنان الكبير كأن الآخرين كانوا مثلا يقتدى به في إنجاح هذه التجربة والولاء للبنان ولاستقلاله وسيادته. هؤلاء ينكرون على المسيحيين نضالهم وشهداءهم، ويضخمون التجاوزات الفردية. يتناسون قصدا أن المسيحيين ما حملوا السلاح دفاعا عن حقوق المسيحيين وصلاحياتهم، إنما للدفاع عن لبنان الواحد الحر، للحفاظ على الشراكة المسيحية/الإسلامية الحضارية، للحؤول دون نشوء دولة ياسر عرفات على نصف لبنان، لصد امتداد اليسار الدولي، للتصدي للاحتلال السوري، ولبناء دولة الإنسان.

احترم اللبنانيون الهدنة مع إسرائيل أكثر مـما احترموا الهدنات في ما بينهم. كل يوم تسوية مؤقتة. كثرة التسويات هـزت الوحدة والثقة. لكن اللافت، أن شعوب العالم العربي التي نادت بالوحدة حتى بـحت حناجرها تقسمت، واللبنانيون الذين هددوا بالتقسيم والانفصال ظلوا "موحدين" إلى الآن. ليتنا نتعظ من هذه المقارنة المضادة فنوقف انهيار وحدتنا ونعيد بناءها على أسس حديثة تريح الجميع. كلنا في بيئاتنا وكل بيئاتنا للبنان. والبيئة ليست كانتونا طائفيا، بل هي وحدة حضارية وثقافية وتشابه نمط حياة. ولبنان الكبير هو أساسا بيئة حضارية مميزة في هذا الشرق. وشكلت بيئة بنيه التعددية والمتشابـهة آنذاك أحد مبررات نشوء دولته الموحدة. لكن تطورات بنيوية وعقائدية واجتماعية طرأت على مكوناته، فحولت التشابه تعاكسا وأضعفت وحدته.

ظل لبنان مستقلا نسبيا وموحدا طوال المئة سنة لأن المكون التأسيسي، أي المسيحيين، قاوموا بالديبلوماسية وبالسياسة وبالبندقية جميع مشاريع المس بوحدة لبنان وصيغته ونظامه وهويته. قاوموا واستشهد ألوف منهم في سبيل لبنان الكبير، ثم قدموا تنازلات دستورية لإنقاذ الشراكة الوطنية. لكن جميع هذه التضحيات والتنازلات لم تكف، على ما يبدو، لإغلاق ملف التعديلات الدستورية ووقف التعدي على هوية لبنان وتغيير ديمغرافيته بالتجنيس والتوطين الفلسطيني، واليوم بالنازحين السوريين. وبعد ذلك يزعمون أن المسيحيين أصبحوا أقلية في لبنان للتملص من المناصفة والمساواة. لا ليس المسيحيون هم الأقلية، إنما الغرباء هم الأكثرية... وسائر اللبنانيين هم مجموعة أقليات.

جميع التضحيات والتنازلات لم تكف أيضا، لتسليم السلاح إلى الدولة، وبناء لبنان السلمي والحضاري والقادر على الدفاع عن سيادته واستقلاله وشرعيته. فكل يوم مطلب دستوري جديد، وكل يوم تفسير مختلف للصلاحيات، وكل يوم صيغة حكم جديدة، وكل يوم مناداة بمؤتمر تأسيسي. يستكين هلال سني ويطل هلال شيعي. الشك يساور جديا جماعات متعددة الطوائف حيال مدى فائدة الدفاع عن لبنان الكبير. وما ضاعف هذا الشعور أن غالبية وجهاء البلد ليسوا على مستوى القضية اللبنانية، إذ تدنت اهتماماتهم إلى اليوميات عوض القضايا المصيرية، وإلى المزايدات عوض تحصين الوحدة الوطنية. لذلك، ننتظر بأمل خطاب الدكتور سمير جعجع هذا الأحد عله يطلق مشروع تحرك وطني جديدا يلتقي مع خريطة الطريق التي رسمها غبطة البطريرك بشارة الراعي.

بقاء لبنان رهن بتغيير المسار الانحداري والعودة إلى جوهر الشراكة الوطنية واعتبار دولة لبنان الكبير هي المنطلق وهي مرجعية أي تطور وطني. في هذا الإطار، غريب ألا تعتبر الدولة اللبنانية ذكرى تأسيسها في أول أيلول/سبتمبر 1920، عيدا وطنيا. أي تاريخ أعز من هذا التاريخ؟ بدونه لا استقلال، ولا شراكة، ولا صيغة، ولا ديمقراطية. أليس تجاهل هذا التاريخ تعبيرا عن عطب في الاعتراف به ونقص في الإيمان؟