ماشاءالله محمدي من زمن النشأة إلى زمن التكون

ثمة بحث تكاملي يتداعم بالتداخل في مشروع التشكيلي الكردي الايراني مشكلاً حركة نهوض فاعل في تحولاتها بدءاً من ربطه زمن الصعود بالنشأة إلى إستجابته لمقتضيات تلك النشأة إلى تحديد مقياسه التقويمي وربطه بالوعي.

ماشاءالله محمدي هو إسم لفنان كردي إيراني، ولد في مدينة سننداج عام 1969، المدينة التي تقارب سكانها نصف مليون نسمة، وتعتبر العاصمة الثقافية الكردية في كردستان إيران، وما زال يعيش فيها، ومنذ زمن ليس بالقليل أحب أن أقارب تجارب فنانين كورد إيران ولكنني لم أفلح إلا مؤخراً، لا أعرف سر هذا التباعد بيننا، وهكذا الحال سياسياً، وكأنهم يسكنون كوكباً آخر، هذا التعتيم مرده قد يعود بالدرجة الأولى إلى خنق الحريات ومصادرتها، فهي من الممنوعات التي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، وشاهدنا كثيراً، وسمعنا أكثير بإعدامات سريعة تهز لها الضمير الإنساني كإعدام شاعر على قصيدة كتبها فيها تنفس الصعداء، أو كاتب قال جملة مفيدة لم ترق للكرسي الذي يصدر حكمه يميناً ويساراً على كل من يمسه ولو بكلمة، أسوق هذا الكلام وأنا بصدد أولى قراءاتي لتجربة فنان تشكيلي كردي إيراني وأتمنى أن أوفق في ذلك، فمحمدي له تجربة طويلة نسبياً تمتد من عام 2003 وإلى الآن، تجربة ناجحة جداً في صنع الأفلام المتحركة شارك ببعضها بمهرجانات كثيرة نال على اثرها جوائز عديدة في كل من إيطاليا وبلغاريا وكرواتيا وبولندا... إلخ، نذكر من أفلامه: 

"الألم" 2003 – "كائن آخر" 2004 – "الأمنية الأخيرة" 2005 – "بداية البشر" 2009 – "فأس" 2011 – "السفر" 2013 ..إلخ، ولسنا هنا بصدد تقييم أفلامه وتجربته فيها، والتي لا تبعد عما نبحث نحن عنه، والحال أننا سنمضي إلى أعماله التشكيلية وهي عملية ليست سهلة، والمسافة بيننا كما أشرنا ليست قصيرة، وتحتاج إلى الكثير من الإختزال لتقودنا إلى مفارقها الكثيرة مع الإحتفاظ بتلك الحرارة التي تشع منها كنوع من العودة إلى وعائه الأول، إلى خطوته الأولى وهي تحاكي الواقع وتتنفس سحرها، تستلهمها وتوظفها في دروب التيه الكثيرة لديه، مكرساً لعالم يكتنفه التناقض ويعمه الإحتجاج، ومحتمياً برموزه التي يبني منها عوالم بها يتحدى ثغرات الخراب الكثيرة .

ماشاء الله محمدي يبدأ علاقته مع الرسم في عام 1981، أي مذ كان طفلاً لم يكن يتجاوز حينها من العمر أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وهذه العلاقة المبكرة جعلت شغفه به يزداد ويناطح السحاب، فدفعته إلى كلية الفنون الجميلة بطهران ليتابع دراسته فيها بحب ونجاح، وبهذا الإختيار وهذا الحماس أصبحت الرغبة تتملكه وتبحث معه لإستكمال وجوده في هذه الحياة، وتفعيل حضوره فيها دون أي إرتباك أو ما يلمح إلى ذلك، والسرود والرؤى والحكايات بقيت عنده مفتوحة على كل التجارب والخبرات الإنسانية، وهذا ما جعله يبقى مخلصاً لجوهر فنه بنظرة ثاقبة بها يتأمل الحياة ويسبر أعماقها، وقد يكون ذلك غير كاف لتجنب بعض الإبهامات التي تلح عليه في الإبقاء شاهداً مهما تملكته الرغبة أن يبدو وهو يروي حكاياته بإمعان وإستمرار، الأمر الذي سيبقي سردياته ورؤاه وحكاياته تتقصى مادته في الواقع والحياة، وسيبقى هناك ما يشده إلى المحور الناظم لها، إن كانت في المنطقة الظليلة التي يحتاجها حين يميل إلى الشكل الأكثر تحايلاً على إدراكاته، أو كانت في عيونه المفتوحة على الحياة طولاً وعرضاً وسطحاً وعمقاً وبكل قيمها الجمالية، وهو في سياق هذه الرحلة ينتقل بوعي عبر الزمان والمكان والثقافات، ويعتمد على المحاكاة الساحرة معها، ويعكس الأشكال ببنيتها التي تشكلت بما يحقق هذا الهدف أو ذاك من إنشائها، وهذا كله من منظور إستجابته لمفرداته الإحيائية بتباين واقعها النوعي، تحقيقاً لمسعاها الإبداعي الذي اقتحم إشكالية العلاقة بين تلك المفردات، وتلك هي المهمة التي يقوم بها محمدي الذي إمتاز بجسارته في ذلك، الجسارة التي لا تنفصل عن متغيرات العلاقات الإنسانية التي كشفت بدورها أسرار تحولاتها وما يحيط بها من كتمان، فهو يأخذ علامات تحديث تحولاته من بين نقائض كثيرة، أعني نقائض تجلت في ردود الفعل المترتبة على متغيرات تعدد أصواته بحدة تقابلاتها، وذلك بسبب ما تسمح به خصائصها الحوارية المرنة من إمكانات لا محدودة لا يمكن أن يحصرها في أشكال جامدة، أو في قوالب ثابتة، فهو أبعد من أن يكون كذلك، وهو الذي يؤكد قيم الإبداع وتحديثها بعمق إن كانت في لحظات التحول المتوترة التي تدفع بسؤال الهوية إلى الصدارة، أو كانت في إختلاف مبناه كإستجابة لإختلاف دوافعه وبرغبة التخلص من قيود الاتباع، ويبقى لدى التدقيق بأنه يميل إلى الأخذ بمرتكزات إبداعية يمتلكها، ومرتبطة إلى حد كبير بوعيه الحداثي الصاعد والمتشكل بأثر من تغييرات تتقدم في الرؤى والوعي معاً، مع حرصه على إجراء التداخل بين كل ما سيفرض ملامح تجربته، إن كانت المختلفة والموسومة بعوامل نشأته الخاصة، أو المتكئة على عوامل زمن النهوض والإنتماء إليه، ووجود هذه الثنائية قد يجعله يسعى للتحرر منها بإتجاه حداثته الخاصة به والمميزة لها . 

ثمة بحث تكاملي يتداعم بالتداخل في مشروع محمدي مشكلاً حركة نهوض فاعل في تحولاتها، بدءاً من ربطه زمن الصعود بالنشأة، إلى إستجابته لمقتضيات تلك النشأة، إلى تحديد مقياسه التقويمي وربطه بالوعي، وهنا يبدو منطقه وكأنه يتحرك ضمن دائرة مفتوحة لا حدود لقطرها، دائرة تراعي خصوصيته ولا تهمل الجمالي فيها، بل تفضي بها إلى ما يعيدها إلى قيمتها بمقياس داخلي يقوّم دعمها وسندها حتى تنحو بزمن النشأة إلى زمن التكون عبر دعم عدد من المفاهيم ودفعها إلى التماسك، وهذا قد يزيل من دواخله قلق الخلق وكيفية إنبنائه، تاركاً عنها الأسئلة واحتمالاتها المطروحة نحو مزيد من البحث القيم، ومن الواضح جداً أن ماشاء الله محمدي يحمل مشروعاً يحتاج إلى مشاركة عدة مؤسسات ليمضي به، بقيمه الجمالية والمعرفية نحو بر الوصول والإنجاز، هل سيلتقي بمبادرة ما تجعله محلقاً وفاعلاً في الفضاء الثقافي، نترك ذلك للمصادفات التي قد تهطل في غير موعدها.