متى نشفى من أمراضنا وعُقدنا النفسية؟

تستخدم الدواء القادم من الغرب والالة المصنعة في الشرق وتقرأ كتب فلاسفتهم وعلمائهم، فكيف تتوجه بالدعاء لفئة معينة واحدة من البشر؟

كانت حياتي وكل قواي موهوبة لاروع شيء في العالم الا وهو "النضال في سبيل الإنسانية".

نيكولاي استروفسكي

*  *  *

أقرأُ مانشيتات طويلة عريضة تخُّطها أفواهٌ جائعة لأقلامٍ يغلبُ عليها النزعة الإنطوائية الضيقة الأفق وقصور في الرؤية.

ها هو العالم قد تحرر من قيود النظرة الأحادية، وقيود الدمعة الأحادية، وقيود الوجبة الأحادية، في الوقت الذي مايزال البعض منا ينتهجُ نهجاً غريب الأطوار، ويسلكُ طريقاً شائكاً ملبداً بغيومِ النزعةِ الضيقةِ الأفق.

في الأزمات والنكبات والكوارث الطبيعية يختبرنا الله تبارك وتعالى عن مدى صبرنا ومحبتنا لبعضنا البعض الآخر.

فايروس كورونا الذي عصفت به رياح الأيام على حين غِرّة، ليس له عينان ولا شفتان ولا لسان، ومن حسنِ حظ الإنسانية إنهُ لا ينتمي لطائفةٍ معينة، ولا يتبعُ ديناً أو معتقداً معيناً، ولا يتحدث لغةً معينة، هو فايروس أعمى مثل الحب، وآهٍ من الحب حين يكون أعمى، وهو فايروس مدمر لكل البشرية، لا يميز بين ملحدٍ ومؤمن، ولا يعترف بمسلمٍ ومسيحي وبوذيٍ ويهودي، ولا يتعاطف مع الفتاة الشقراء ويصيب الفتاة السمراء، ولا يطرق أبواب الفقير ويترك الغني، ولا يعلن تمردهُ وعصيانهُ عند عتبةِ باب الوزير المشاكس ويترك العساكر من جنود الحاشية، ولا يتعاطف مع دونالد ترامب ويتخاصم مع فلاديمير بوتين، ولا يتواطىء مع كوريا الشمالية ويعصف ايطاليا وإيران والصين، ولا يستهزأ بالإسلامي الراديكالي المتشدد الفكر وينشد ويغني للعلماني والليبرالي والديموكراتي المنفتح بآرائه وأفكاره.

هو فايروس يهاجم الكل، ويتصّيد الكل، ويغتال الكل حين يجد الأبواب مفتوحةً أمامهُ.

هو كائنٌ أشبه بصاروخٍ عابرٍ للقارات لا تمسك به أذرع المصدات.

هو كائنٌ متمرد يطارد الكل ليمسك بهم ويقتلهم ويلوكهم بأسنانهِ الفايروسية.

وهنا أتساءل: ما الذي يجعل هؤلاء المصابين بفايروس النزعة الضيقة الأفق، وهم قليلون، مقارنة بملايين البشر الموزعين على خارطة الكرة الأرضية، أن يرفعوا أيديهم في دعواتهم ليل نهار لشفاءِ فئةٍ معينة من البشر؟

متى نتحرر من أمراضنا وعُقدنا النفسية؟

بدلا من التوجه لله تبارك وتعلى بالدعاء للإنسانية وللمجتمع الإنساني في أرجاء المعمورة لينعم الله بلطفهِ وكرمهِ على الجميع بالشفاء والتشافي من هذا الوباء الخطير، لِما نلتصق بأمراضنا وعقدنا النفسية وندعو الله أن يشافي فقط فئة محددة من البشر، لما هذا البخل وضيق الأفق؟

حين يمرض المسلم في مجتمعاتنا الشرقية، أجدهُ يشدُ الرحال إلى مستشفيات "الكافرين" ليجد له علاجاً بين أيديهم، وهناك لا يسألهم إن كانوا مسلمين أو بوذين أو مسيحيين أو يهود، ما ينشدُ إليه هو العلاج والتشافي، وحين يتشافى من علتهِ ومرضهِ، يتوجه إلى الله أن يشافي فئةً محددةً من البشر، تنتمي لدينٍ معين فقط، ما هذه العقلية المتخلفة المريضة؟

متى نتسامى ونتشافى من أمراضنا وعقدنا النفسية؟

متى يكون ديننا هو الإنسانية ومحبة الله من خلال عشقنا لمخلوق الله الإنسان بغض النظر عن دينهِ، وطائفتهِ، ومعتقدهِ، ولونهِ؟

الطبيب البوذي الذي تشدُ الرحال إليه، لا يسألك في عيادتهِ الطبية عن دينك إن كنت مسلماً، يهودياً، نصرانياً، او ملحداً، يسألك عن أعراض المرض لكي يجد لك علاجاً ناجعاً يساعدك في تخطي الأزمة.

ماذا لو توجهنا بالدعاء إلى الله خالق السموات والأرض أن يشافي كل المرضى في أرجاء المعمورة وأن يخلصنا من هذا الوباء المتفشي في كلِ أرجاء المعمورة بدلاً من خصصة دعاءنا ودعواتنا وأدعيتنا المأثورة لنجعل منها أدعيةً رمزيةً ومحددةً فقط لشريحةٍ معينةٍ من البشر؟

لما لا نكون نحن - المسلمين - سباقين لننشد دعاءنا ودعواتنا وأدعيتنا لكلِ المجتمع الإنساني طالما أن الدين الإسلامي دين محبة وسلام وتسامح وتآزر، وأن نبينا، نبيُّ الرحمة والإنسانية لم يأمرنا بمحبةِ المسلمين فقط بل أمرنا بمحبة المجتمع الإنساني، بمحبة الإنسان أينما يكون.

إن يتوجع من يعيش في الصين، هو ذات الألم الذي يشعرُ بهِ من يعيش في جنوب أفريقيا.

إن يتقهقر ويمرض من يعيش في ايطاليا هو ذات التقهقر والحزن الذي يصيب من يعيش في باكستان والهند ومصر.

الإنسانية جسدٌ واحد.

الإنسان هو واحدٌ، والألم واحدٌ، والبلاء إذا حلَّ لا يميز بين عاقلٍ ومجنون، بين متوجعٍ وسعيد، بين مؤمنٍ وملحدٍ، فالإنسانُ هو واحدٌ في مشاعرهِ الإنسانية.

الإنسان هو دمعةُ الوجود، هو عطرُ الوجود، هو روحُ الوجود.

ألم يعلنها بوضوحٍ رجلُ العدالةِ الإنسانية وسفيرُ الإنسانية عليٌّ بن أبي طالب عليه السلام حين صرخ قائلا: الناسُ صنفان؛ إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

ما معنى نظيرٌ لك في الخلق؟

البعض منا، حين يتحدث عن الأدب العالمي، تجدهُ يهرولُ مسرعاً ليذكر اسماء كتاب غربيين، بوذيين، مسيحيين، يهود، ملحدين، ويجلسهم فوق رفوف ذاكرته، ويغدق عليهم بالمديح والإطراء دون أن ينبس ببنت شفه عن ديانتهم وتوجهاتهم ومعتقداتهم الدينية، وحين يجري مقارنة في العلوم الإنسانية، العلمية والطبية والهندسية يقفز من مكانهِ كما المجنون ليذكر اسماء عباقرة الطب الإنساني الذين صنعوا للإنسان عيادة طبية متكاملة، ويذكر عمالقة رجالات العمارة الهندسية ويهيلُ عليهم إكليل المحبة والأحترام والتبجيل، ولكنهم - هؤلاء البعض - ينزوون بعيداً عن الإنسانية حين يتوجب الأمر بالدعاء إلى الله للتخلصِ من الوباء الذي أصاب المجتمع الإنساني بالهلع، فتجدهم يعنّونون دعاءهم لفئةٍ محددةٍ من البشر وكأن الأرض ملكا فقط لهذه الفئة من الناس أو كأني بهم لا يريدون بقية البشر أن يتنعموا بعافيةٍ وأمان لأن بقية البشر بنظرهم ليسوا بشراً خلقهم الله من ذات الطينة الآدمية.

أيها الإنسان، تواضع، وتذكر أن فايروس كورونا أعمى مثل الحب، حين يهاجمك، لا يسألك إن كنت مسلما، يهوديا، ملحدا، بوذيا.

وتذكر.. حين تعصفُ بك رياحُ العاطفة العمياء المدمرة، وتتعشق إمرأةً وأنت في قطارٍ، مهرولاً بك عبر مسافاتِ السفر، سفرُ العمر، لا تسأل قلبك إن كانت تلك المرأة التي تصَّيدها قلبك على حينِ غرة، وفتحَ لها نوافذ الاشتهاء، لا تسأل قلبك إن كانت مسلمةً، مسيحيةً، بوذيةً أو ملحدةً، المهم هي إمرأةٌ مصنوعةٌ من جمرِ الاشتهاء، ودمعةِ الحب، ورائحةِ الاغواء.

متى نتحرر من أمراضنا وعقدنا النفسية ليرضى عنا الرب، الخالق المعبود، ويرحم بنا ويقول عنا بلسانِ محبتهِ ولطفهِ وكرمهِ: لقد نجحتم في إمتحانِ الإنسانية؟