محمد جلال عبدالقوي ونصف ربيعنا الآخر

كاتبنا صاحب نزعة رومانسية مرهفة الحس، لكنها ليست مجرد رومانسية عاطفية فارغة، وإنما هي رومانسية اجتماعية، ممتزجة برؤية واقعية بصيرة تعالج قضايا الواقع.

تقنية المفارقة حاضرة دوما لدى محمد جلال عبدالقوي، فهو يضع قيم الشرف والنبل والمثل العليا في كفة، وقيم والمال والجاه والسلطان في الكفة الأخرى، ثم يضع عاطفة الحب في المنتصف، وقضايا الوطن وأحداثه الكبرى في الخلفية، ثم يدير الصراع !!

والأستاذ جلال عبدالقوي كاتب روائي متميز وشاعر كبير ضل طريقه إلى عالم الأدب، وتفجرت ينابيع إبداعه في نهر فن شعبي جديد هو فن الدراما التليفزيونية، وأصبح من رواده الكبار، وظل رغم ذلك يحتفظ لنفسه بصفة "الكاتب والأديب والمفكر". ولقد أذاعت الدراما التليفزيونية أفكاره ووصلت بها إلى ملايين المشاهدين، لذلك فالتلقي النقدي الحقيقي المناسب لفنه يكون باعتبارها أعمالاً أدبية تستخدم الصورة بديلاً عن الكلمة في التعبير.

وهو يكتب الحوار بنفس شاعرة عذبة شفيفة، تفيض بروح صافية صوفية، بصيرة بمكامن الإحساس في الوجدان المصري، تعرف كيف ومتى تبَكي وتُبكي.

كما أنه بارع في استدعاء لحظات تاريخية مضيئة في تاريخنا يُلقي من خلالها الضوء على الواقع عن طريق عقد موازنة بين الماضي والحاضر، فالفتح الإسلامي لمصر وسيف صلاح الدين في سوق العصر يأتي في مقابلة انكسارات أبناء "أسرة المغازية" أمام سطوة "حلمي عسكر" والشيخ "محمد الجوهري" الذي وقف لنابليون وأَمَره بإخراج الخيول من صحن الأزهر هو النموذج الذي يدفع ــ بعد زمان طويل ــ حفيدته "حياة" لمقاومة خيول الزمان الجديد من رجال الأعمال الفاسدين الذين شوهوا الحياة، وحاولوا اختطافَ أرضِ الوطن.

وهو إلى جانب ذلك شغوف بفكرة "العدالة"، يتطلع إلى القانون وأهله في رؤية رومانسية حالمة ترى طيور الخير المهاجرة لا تعود إلا إذا أنصفنا المظلوم، وهي رؤية تتطلع إلى قانون عادل: له عقل بصير وقلب مضيء، لذا تجد مشهد المحاكمة حاضرا في الحلقات الأخيرة من بعض أعماله، منذ لحظة القبض على الشاويش "طُلبة" ورفض زميله أن يضع يد صاحبه "طُلبة" والمجرم "عبده حتاتة" في قيد حديدي واحد، ثم محاكمة "الصول شرابي" لنفسه بعد النكسة، ومحاكمة "منصور المغازي" في "سوق العصر"، والأستاذ "عبدالحميد دراز" في "حضرة المتهم أبي"، واعتراف "رُحَيِّم المنشاوي" بقتله المعنوي لولده في "الليل وآخره" لأنه علمه الظلم والغدر والقسوة، تكرار هذه الفكرة بشكل ملحوظ دليل على أن العدالة فكرة تشغل صاحبنا، وتلح عليه بقوة، وكان لوازم تلك الفكرة ظهور الشعور الديني والروح الإيمانية بشكل لافت للنظر في أعماله، واستدعاء شخصيات دينية مثل الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" رضي الله بكثرة على ألسنة أبطاله.

والمساحة الزمنية التي تجري فيها أغلب أعمال الأستاذ جلال هي النصف الثاني من القرن العشرين بمراحله المختلفة: (عبدالناصر والسادات ومبارك) لا يكاد يخرج عنها إلا في حالات قليلة منها مسلسله التاريخي النادر عن "موسى بن نصير" وعلى امتداد تلك المساحة الزمنية يرصد محمد جلال كيف تغيرت الحياة المصرية من مرحلة إلى أخرى، من ثورة يوليو/تموز إلى نكسة العام السابع والستين، من نصر أكتوبر/تشرين الأول إلى تحولات الحياة المصرية في ظل الانفتاح، ثم حرب الحليج، ويتوقف طويلاً أمام فساد الحياة الاجتماعية والسياسية في زمن مبارك، حيث اتسع الخرق على الراقع، وتطور مفهوم الشر الذي استولى في ملكوت الله، وتطورت معه أشكاله وأصبحتَ أينما وليتَ وجهك وجدتَ أشباه "حلمي عسكر" و"السُحت" و"علي لوز" و"أشرف علوان" و"ناهد سيد الوكيل" و"مجدي الباشا" في كل مكان، حتى من انحرف وفرَّط وبقيت في نفسه نقطة ضوء ترده وترشده وتهديه مثل "سلامة فرويلة" و"رُحَيِّم المنشاوي" حكمت عليهم التفاعلات الدرامية بالموت ليخلو الطريق لمن باعوا الضمائر وأهدروا القيم، وفرطوا في أرض الوطن وتاريخه وتراثه ومستقبله.

كل هؤلاء أفلحوا في استقطاب أمثال "فريال وفريد فرويلة" و"منعم الضوّ" (في المال والبنون) و"طلعت المغازي" و"شوق جاب الله" (في سوق العصر)  و"سيد غنيم" (في حياة الجوهري) إلى ساحتهم لتتغير خريطة المجتمع وتتهاوى الطبقة المصرية الوسطى تحت سنابك انفتاح غير مدروس، وحاجات اجتماعية جديدة غريبة جعلت الأستاذ "عبدالحميد دراز" معلم اللغة العربية في (حضرة المتهم أبي) لا يفلح من خلال وظيفته وعمله الشريف في الوفاء بحاجات وتطلعات ولده مما جعله محل الاتهام في نظره.

بارع في استدعاء لحظات تاريخية مضيئة في تاريخنا يُلقي من خلالها الضوء على الواقع عن طريق عقد موازنة بين الماضي والحاضر

وعلى الطرف المقابل نرى حيرة الأبطال الصادقين المخلصين ومعاناتهم في قبضتهم على جمرة القيم، وإنني أنظر الآن إلى محنة "حياة الجوهري" المصابة بخيانة زوجها، وتفريطه في شرف مهنته فأجدها صورة أخرى لـ"ربيع الحسيني" وتمزقه بين واجبه نحو زوجته وأولاده، وحنينه لزمانه الأول وحبه القديم، ثم صدمته الكبرى في محبوبته ناهد الوكيل التي  انكشف خداعها له مع زلزال العام الثاني والتسعين، وكأن الزلزال عندما اهتزت معه الأرض، وسقطت الأبنية الشاهقة قد عرى نفوسنا وكشف الواقع الذي آلت إليه الشخصية المصرية.

ومازالت (لا) التي قالها عمِّ "عباس الضو" تتردد في وجداني رفضا لكل تلك الأنماط البشرية السيئة التي ملأت أرجاء الوطن بالفساد.

ورغم شدة ارتباط هذه الأنماط البشرية بخصوصية الحياة المصرية وقضاياها إلا أن روح المبدع وفنه الأصيل جعلا منها أنماطا إنسانية عامة يمكن رؤيتها في كل زمان ومكان، وليس أدلَّ على ذلك من نموذج العلاقة النادرة التي جمعت بين الشاويش "طلبة" المسكين، وعنتر حصانه الذي هو ضناه وعشرة السنين، والذي من أجله يضحي بالأرض والأهل والوظيفة، ويتمسك بحصانه الذي يموت بين يدي صاحبه وهو في طريقه لأداء مهمته وإبلاغ الشرطة عن عملية تهريب، فهذا نموذج فذ يمتزج فيه الإنسان بالحيوان في علاقة منقطعة النظير "فطلبة هو الحصان... هو أنا وأنت.. كلنا... هو الإنسان"!!

وهذه النقطة تأخذنا إلى الحديث عن منزلة عاطفة "الحب" لدى جلال عبدالقوي فكاتبنا صاحب نزعة رومانسية مرهفة الحس، شديدة الرقة، لكنها ليست مجرد رومانسية عاطفية فارغة، وإنما هي رومانسية اجتماعية، ممتزجة برؤية واقعية بصيرة تعالج قضايا الواقع وتعلي من قيم الوطن.

وحديث الحب في الواقع المرتبك أظهر لديه فكرة أخرى تكررت في أعماله كثيرا، وهي ما يمكن تسميته بـ"غدر الأزواج"، فدائما نرى لديه الرجل الذي يترك زوجته ليتزوج بأخرى في العلن حينا، وفي السر أحيانا رغم حبه الشديد لها، والقائمة طويلة تبدأ منذ ترك إبراهيم عبدالله في مسلسل "أديب" زوجته "حميدة" الوجه اللسان، ليسافر إلى بلاد الجن والملائكة، وتستمر على يد "جلال عنايت" الذي ترك زوجته وابنته ووطنه كله من أجل ملهمته، مرورا بسيد غنيم ورحيم المنشاوي، وقد أقام مسلسله "قصة الأمس" كله على هذه الفكرة.

ومازال الحالمون من أبناء جيلي يتمَسَّكون بقيمهم ومثلهم، ويعتصمون بجبلٍ عالٍ اسمه "الوطن"، ولعل بعضهم مازال يجد عزاءه في جسارة "يوسف الضو" و"منصور المغازي"، أو فروسية "ربيع الحسيني" و"حياة الجوهري" وتضحيتهما، أو في علم واستنارة د. إمام عبدالله، وربما وجد بعضهم في الأمانة التي حملها "عم آدم" على كتفه لسنوات طويلة، معادلاً موضوعيا لقيم الصدق والإخلاص والأمانة والشرف.

ولعل هذا أحد أسباب ارتباط المتلقي بشخصيات الأستاذ جلال الاستثنائية التي عهد لها بمهمة تغيير المجتمع وإصلاحه، ورصد من خلال تقلباتها فساده وانحلاله، فيوسف الضو (الوريث) ورفاقه في سلسلة جلال الذهبية هم ربيع الحياة، وملح الأرض لا غنى لها عنهم، ولا تستقيم لها حياة إن هي خلت منهم، لذلك فهمتُ عنوان مسلسله "نصف ربيع الآخر" على أنه تورية ذات طرفين: يشير طرفها القريب إلى يوم حدوث الزلزال التسعيني الشهير بالتاريخ الهجري، ويشير طرفها البعيد إلى الجانب المضيء في شخصية بطله ربيع الحسيني (ربيع الآخر)، فمصر تحتاج إلى هذا النموذج الإنساني النادر، وإن تعثر في الطريق، وإن لم يسلم لنا كله، فنصف ربيع الآخر فقط يكفي لصنع الأمل واليقين في انتصار هذا الوطن على نفسه، ومجاوزته لهمومه، والسير به في طريق التقدم.