النحو وسر صناعة الإبداع في 'قراءة في شعر مانع العتيبة'

الباحثة د.حنان أحمد الفياض تحاول في دراستها إثبات أثر الأبنية النحوية في استكشاف الثراء الدلالي الذي تنطوي عليه النصوص العربية.

 ظهرت في الدرس النقدي الحديث مدرسة علمية متميزة تتخذ النحو مدخلاً للنص الشعري، وتربط الصناعة النحوية بالمعنى، وتعده أصلها وعمادها، وتبحث في أسرار التراكيب،  وهذه المدرسة تتكئ على وشائج قديمة في النحو العربي افتتحها سيبويه وتوسع فيها ابن جني ووصلت إلى قمة نضجها لدى عبد القاهر الجرجاني.

وأزعم أن تلك المدرسة الحديثة نبتت بذورها في مصر لدى بعض أساتذة دار العلوم، وزعيم تلك المدرسة هو الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، وذلك في دراساته المتتابعة: "النحو والدلالة" و"الإبداع الموازي" و"اللغة وبناء الشعر" و"فتنة النص"، وغيرها كثير.

وقد عبر د. محمد حماسة عن ذلك الاتجاه بقوله: "النحو ليس موضوعاً يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ، أو يرون الصواب واحداً، النحو مشغلة الفنانين والشعراء، والفنانون هم الذين يفهمون النحو، أو هم الذين يبدعون النحو، فالنحو إبداع" (1).

وقد ارتفع تقدير الدارسين لتلك المدرسة مع اعتراف النقاد بأهمية "المدخل اللغوي" في قراءة الأدب، وأن النحو هو لحُمة العملية النقدية وسداها، ومن هنا كان اهتمامهم بتلك المدرسة النحوية والنقدية في آن معاً.

 يقول الناقد الكبير د. أحمد درويش عند منهج د. محمد حماسة: "وكانت مجالات تحليله تنطلق دائماً من النص وخصائصه اللغوية لتقف أمام الإسناد ودرجات الملاءمة فيه، والمجاز وطرائق تعبيره والصفات ووظائفها البنيوية والجمالية وخصائص الجملة الشعرية مقارنة بالجملة النثرية، استقلال المعنى وتداخله ودور الموسيقى الشعرية في بناء المعنى الشعري دون الاقتصار على الزينة الخارجية ودور القافية في بناء المعنى الشعري، وغيرها من القضايا اللغوية والنحوية التي ينطلق بها من واقع النص إلى آفاق البناء الشعري التي لا تحد."(2)

   وعلى جانبي النهر الذي شقه محمد حماسة في حقل الدراسات اللغوية  مضى رفاقه وتلاميذه من بعده، وتتابعت الدراسات التي ارتكزت على التراث النحوي القديم بما فيه من عمق وأصالة من جانب، ودراسات حماسة من جانب آخر، مع الاستفادة من معطيات النظريات اللسانية المعاصر، وخاصة نظرية "نحو النص".

فكتب د. أحمد كشك عن " النحو ودوره في الإبداع" ووجدنا من يكتب عن "دور النحو في تفسير النص الشعري" و"حروف المعاني وبناء لغة الشعر" ومنهم من استثمر فاعلية المعنى النحوي الدلالي، وقرأ في ضوئها شعر القدماء والمحدثين.

 على أن هناك سمة عامة تكاد تنتظم هؤلاء الباحثين، وإليها يرجع أحد أسباب تفوقهم في اتجاههم الجديد، وهي أن جميعهم شعراء وأدباء ولهم بعالم الإبداع الشعري نسب عريق.

وهذا صوت جديد يأتينا من دار العلوم لباحثة وأديبة قطرية هي د. حنان أحمد الفياض، وهي أستاذة أكاديمية، وكاتبة روائية تقدم للقارئ العربي دراسة بعنوان: "النحو وتأويل الشعر قراءة في شعر مانع العتيبة"، صدرت عن دار النابعة بمصر عام 2014.

ومانع العتيبة شاعر عربي كبير من دولة الإمارات، ولا شك أن شخصية العتيبة القوية  قد أضفت أهمية كبيرة على تلك الدراسة، وذلك لكونه غزير الإنتاج، متمكن من لغته، ترفده ثقافة عميقة أصيلة وتجارب واسعة متنوعة، مما كان له أكبر الأثر في تجربته الإبداعية، ومن ثم في إنتاج قصائده.

حاولت الباحثة في دراستها، التي كانت في الأصل أطروحة نالت بها درجة العالمية الدكتوراه من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 2008، إثبات أثر الأبنية النحوية في استكشاف الثراء الدلالي الذي تنطوي عليه النصوص العربية، فليس ثمة استخدام نحوي يخلو من دلالة، وقد سعت الباحثة، وأحسب أنها وُفِّقَتْ في ذلك، إلى ربط دلالات الأبنية النحوية بنفسية الشاعر وانفعالاته من جانب، ثم بالسياق الواردة فيه من جانب آخر، وقد كان لهذا الربط أثره في الكثير من النتائج الدلالية التي توصل إليها البحث.

وتعود أهمية هذه الدراسة إلى أن الأبنية النحوية التي شكلت ظاهرة تستحق الدراسة عند العتيبة هي في الأصل مجموعة الظواهر التي تمثل شكلاً من أشكال التميز والإعجاز في اللغة العربية، ونقصد بها الحذف والتقديم والتأخير والاعتراض والأساليب النحوية التي منها النداء والاستفهام والتوكيد. وحول تلك الظواهر أدارت الباحثة فصول دراستها. 

وبفضل الجد والمثابرة والروح النقدية البارزة تجاوزت حنان الفياض الصعوبات التي واجهتها والتي تمثلت في تناول البناء النحوي على إطلاقه، إضافة إلى كثرة دواوين الشاعر الكبير مانع العتيبة، وخرجت من رحلتها مع الأبنية النحوية في شعر العتيبة بصيد وفير على المستوىين النحوي والنقدي.

وعلى امتداد فصول البحث المتتابعة نرى جهد الباحثة يتوزع في خطين متوازيين:

الأول: هو جانب الدراسة العلمية النظرية؛ حيث جمعت الباحثة في أسلوب رائق ونظام محكم دقيق آراء النحاة والبلاغيين والمفسرين في التأصيل للظواهر والأساليب النحوية محل الدراسة، وحققت في رصد ذلك الجانب النظري نجاحاً كبيراً.

والثاني: هو الدراسة التطبيقية؛ وفيها تتبعت الدكتورة حنان الفياض الأسرار الدلالية التي تقبع خلف الأبنية النحوية لشعر مانع العتيبة، في محاولة لإثبات مرونة علم النحو، وقدرته على التشكل بما يخدم المعنى.

ويُلاحظ أن الباحثة اعتمدت في التحليل النحوي على منهج الموازنة وعقد المقارنات من خلال النظر في البيت الشعري في وجود الظاهرة النحوية، ثم النظر إليه مرة أخرى غفلاً منها، والحق أن هذه الظاهرة كانت السبب في استكشاف العديد من الدلالات المنغلقة على ظواهرها، والوصول إلى خفاياها ودقائقها، وقد استفادت الباحثة هذه الطريقة من كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبدالقاهر.

ومن بين ما امتازت به تلك الدراسة الماتعة الأمانة العلمية، والدقة في عرض الآراء، ووضوح التعبير وسلاسة العبارة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه السهل الممتنع.

ونظراً لكثرة الأمثلة التي أدارت حولها الكاتبة تحليلاتها النحوية لشعر العتيبة أكتفي بذكر نموذجين منها:

الأول: قال الشاعر مخاطباً ابنته:

سفرٌ حياتي لستُ أنكر يا ابنتي               مادمتُ محكوماً ولستُ بحاكم

       ســـــــفرٌ رحيــــــلٌ دائــــمٌ لا ينتــــهي                  إنَّ التـــغربَ صــــاحبي ومُـــلازمي

تقول د.حنان الفياض في تحليل هذين البيتين:"تضافرت في هذين البيتين الأساليب النحوية لتعبر كلها عن حالة شعورية واحدة هي الاغتراب، الذي كان السفر أهم أسبابه، فنجد الشاعر يستخدم التقديم والتأخير في البيت الأول فيقدم الخبر (سفرُ) على المبتدأ (حياتي) ويؤكد هذه الدلالة بأسلوب نحوي آخر وهو الحذف فيحذف المبتدأ (حياتي) في مطلع البيت الثاني لدلالة المبتدأ المذكور في البيت الأول عليه، فالقرينة هنا لفظية، ويؤكد اهتمامه بهذا التعبير (سفر حياتي) تكراره الجملة وهو توكيد لفظي يتضافر مع الأساليب النحوية السابقة ليؤكد حقيقة واحدة هي أن حياته سفر.

ولتنكير كلمة (سفر) دورها في تأكيد حالة الاغتراب وتثبيتها، فهو سفر ليس غير، لا إلى مكان محدد ولا إلى وقت معلوم، ثم يأتي الخبر الثاني مؤكداً حقيقة الاغتراب يأتي بصيغة التنكير أيضاً (رحيل) ويختار الشاعر حذف العاطف لزيادة التثبيت وتوكيد كون الرحيل نتيجة للسفر وسبباً منه وليس شيئاً آخر منفصلاً عنه".

والثاني: في أثناء الحديث عن تقديم الظرف على عامله تقول الكاتبة مازجة التحليل النحوي بالرؤية النقدية الكاشفة الواعية:

"وقد يقدم الشاعر الظرف على عامله حين يكون هذا الظرف متضمناً صورة غريبة، فتقديم الصورة الغريبة أمر له أثره على المتلقي، الذي لا تبهره عادة صور التعبير المعتادة؛ ويتضح ذلك في قوله:

وبين جُفُون الموت نمتُ بجرأة               بعين لها غَمْضٌ وعَينِ مراقبِ

                         (من ديوان إلى أين: ص14)

   فقوله: 'بين جفون الموت' ظرف مكان، وهو مكان غير عادي، والتصوير فيه غرابة مصدرها المكان الذي يدل عليه الظرف، وتقديم هذه الصورة بما تحمل من غرابة، وجعلها في مقدمة البيت، كل ذلك قام بدور فعال في استدراج المتلقي إلى المعنى وتثبيته في نفسه من خلال البدء بما هو غريب، ولعل المعنى يكون أكثر وضوحاً حين نعيد الترتيب الأصلي؛ فنتصور أنه قال: نمتُ بجرأة بين جفون الموت، من خلال الترتيب الأصلي تتضح قيمة المخالفة فيما تبعثه هذه المخالفة من انفعال مع النص مصدره تصدير البيت بأكثر الصور غرابة، وتشعر هذه الصورة بتقديمها على كل أركان الجملة بأن المعنى قد تغير تماماً بمجرد نقل الألفاظ من مواضعها فقوله: "وبين جُفُون الموت نمتُ بجرأة" فيها دلالات الشجاعة والصلابة إضافة إلى ما يحمله التركيب من تصوير غريب كان له أثره في المتلقي".

تتكئ حنان الفياض في النص السابق على موهبتها الأدبية، وتستدعي ما لديها من حس نقدي  مرهف في عناق رائع بين التحليل النحوي والنقد الأدبي المرتكز على إجراءات التحليل النفسي.

وهكذا تكشف حنان الفياض في تحليلها لشعر العتيبة عما يزخر به النحو العربي من إمكانات تعبيرية هائلة تتيح للشاعر التصرف في الأساليب، وتمده بالتراكيب المختلفة التي تتسق مع غاياته، وتتفق مع رؤيته الفنية، ومن ثم كانت معاني النحو لدى العتيبة جزءاً أساسياً من ذكاء الشاعر وقدرته على الإبداع، بل أصبح النحو كما يرى د. حماسة "سر صناعة الإبداع".

  وكم كنتُ أتمنى أن تعقد الكاتبة فصلاً أو مبحثاً تحلل من خلاله نصاً كاملاً من شعر العتيبة، لكنها لم تفعل، واكتفت بالتحليل الجزئي، ولو فعلت لتكَشَّف لها من آثار النحو في تحقيق التماسك النصي وتكوين رؤية كلية حوله الشيء الكثير.

وينتهي القارئ من مطالعة الكتاب وقد خرج منه بأكثر مما ذكرته الباحثة في خاتمتها؛ حيث تتشكل لديه قناعة تامة حول فاعلية النحو كمدخل رئيس لاكتشاف أسرار النص الأدبي، وكشف منابع الإبداع فيه، كما تتكون لدى القارئ رؤية نقدية عميقة لشعر مانع العتيبة، تقف إلى جوار الدراسات النقدية التي كتبت عن الشاعر، وربما فاقتها.

وبشكل عام فقد عكست الدراسة القيمة الدلالية لأشكال البناء النحوي في الشعر متخذة من شعر العتيبة نموذجاً تطبيقياً للدلالة على هذه القيمة بشكل عملي.

ولا يزال النحو العربي يؤكد أنه لم ينضج ولم يحترق، وأنه قادر على تجاوز منطقة "الصواب والخطأ" لينفذ منها إلى البحث في "أسرار التراكيب"، وفق ما يقتضيه المعنى الذي يريد أن يعبر عنه الأديب مؤسساً لما يُمكن أن يسمى بالنحو الجمالي.


(1) النحو والدلالة  ص: (214)، د. محمد حماسة عبد اللطيف. طبعة دار غريب.

(2) من مقال له بعنوان" محمد حماسة عبد اللطيف وتأصيل النقد اللغوي للشعر، موقع د. حماسة على شبكة الأنترنت.