محمد صبري الدالي يتطرق الى 'مقاربات جديدة في تاريخ مصر الحديث'

دراسات ضمها كتاب المؤرخ محمد صبري الدالي تتميز بتنوع مواضيعها إلا أنها تتشابه في منهج تناولها المعمق والمتداخل لقضايا وثيقة الصلة بتاريخ مصر الثقافي وتقاطعاته مع تاريخها الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
الدالي: المصري لم يكف عن النظر إلى التركي العثماني باعتباره آخر مختلفا عنه
العلاقات بين سلطات الدولة العثمانية والمتصوفة لم تكن على وتيرة واحدة
دراسة تناقش تباين الاتجاهات في تفسير نتائج الاحتلال الفرنسي لمصر
دراسة تتناول جدل السياسة والاقتصاد في أزمة محمد علي بالشام

تأتي الدراسات الستة التي ضمها كتاب المؤرخ د.محمد صبري الدالي "مقاربات جديدة في تاريخ مصر الحديث" متنوعة في موضوعاتها، إلا أنها تتشابه في منهج تناولها الرأسي والمعمق والمتداخل لقضايا وثيقة الصلة بتاريخ مصر الثقافي وتقاطعاته مع تاريخها الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
 فالدراسة الأولى تناولت الزاوية والمجتمع المصري في القرن السادس عشر، وتساءلت الثانية "التركي كآخر في مصر الحديثة": هل نظر المصريون إلى الأوروبيين فقط باعتبارهم آخر أم نظروا إلى العثمانيين كذلك؟ ومتى بدأ هذا الوعي؟.
 وناقشت الثالثة تباين الاتجاهات في تفسير نتائج الاحتلال الفرنسي لمصر التي ضمتها نماذج من كتابات المؤرخين الفرنسيين والأميركيين والمصريين.
 وتحدثت الرابعة عن جدل السياسة والاقتصاد في أزمة محمد علي بالشام من خلال موقف الانكليز 1831 ـ 1838 لمعرفة كيف تطور موقف الانكليز في الأزمة التي انتهت بكارثة على مصر والمنطقة.
 وسعت الدراسة الخامسة "شرقي ومستشرق.. رفاعة الطهطاوي وسيلفستر دي ساسي" لمعرفة رؤية الشرقي والمستشرق لبعضهما في أوروبا، وكذلك لمعرفة رؤية الشرقي للغرب وحضارته وأهله. وأما الدراسة الأخيرة فتناولت الطرق الصوفية في مصر في العصر العثماني 1517 ـ 1914.
يرى الدالي في كتابه الصادر ضمن سلسلة تاريخ المصريين عن الهيئة العامة المصرية للكتاب أن المصري ـ وعلى الرغم من المشترك الديني/ الاسلامي ـ لم يكف عن النظر إلى التركي العثماني باعتباره آخر مختلفا عنه، ظهر ذلك منذ بداية الاحتلال العثماني لمصر، وإذا كانت هذه النظرة قد ضعفت لفترة قصيرة، خاصة في فترة عنفوان الدولة العثمانية حتى أواخر القرن السادس عشر، فإنها لم تختف.
 وسرعان ما عادت للظهور بقوة مع أوائل القرن السابع عشر الميلادي، واشتدت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي. كان هذا نتيجة عوامل عدة، منها عدم اختفاء وعي الإنسان المصري بذاته وكينونته، ومنها اختلاف اللغة والجنس، والأهم لأن المصريين لم ينسوا أن الأتراك العثمانيين احتلوا أرضهم ومارسوا عليهم حكما ظالما، ولم يستطيعوا الاندماج معهم أو الانصهار فيهم، مثلما انصهرت أو اندمجت معظم الأمم التي احتلت مصر من قبل. وفي النهاية لابد من طرح السؤال: ألا يعتبر هذا الوعي بالأنا المصرية في مواجهة الآخر "سواء كان الآخر الأوروبي أم التركي/ العثماني" بمثابة أحد معطيات الحداثة المصرية النابعة من البيئة المصرية المحلية، والتي يصر البعض على ربطها فقط بالتأثيرات الأوروبية العالمية منذ القرن التاسع عشر الميلادي؟.
ويوضح أنه رغم كثرة عدد الطرق الصوفية في العصر العثماني حتى قيل أن عددها أوشك أن يماثل عدد المشايخ والأولياء، فإنها لم تكن في معظمها متطورة أو مجددة في فكرها، وانصرف بعض أتباعها إلى الشكليات والرسوم وابتعدوا عن العناية بجوهر التصوف.
 ويقول إنه بعد أن أصبحت مصر ولاية عثمانية تحول ولاء المتصوفة إلى العثمانيين بالتدريج، وكالعادة احترموا الباشا حتى أمر بعضهم أتباعه باحترام السلطة والرضوخ لقوانين الباشا ودفع الضرائب. 
كما أولى المتصوفة السلاطين ورموز السلطة تقديرا واحتراما غير معهودين من قبل، ومن جهتهم لم يبخل السلاطين والباشوات وكل رموز السلطة على المتصوفة طالما قاموا بأداء دورهم المفيد والمحدد لهم فرصدوا عليهم الأوقاف والصدقات، وسمح لشيوخ السجاجيد بحضور الديوان، وكان الباشا وكبار الموظفين يرجعون إليهم في دقائق المسائل العامة، لقد خضعت العلاقة لمعايير أملتها السياسة العثمانية العامة والعليا".
ويتابع الدالي "على أن القرن السابع عشر شهد تحولا في الموقف نتيجة الخلل في الإدارة العثمانية، وبد ظهور المماليك كقوة محلية لها نفوذها، وبروز مؤة الأزهر كقوة لها ثقلها في دعم الطرق، خاة وقد أبح له شيخ يدير شئونه ومع ذلك استمرت الدولة العثمانية في انتهاج السياسة التي انتهجتها تجاه المتصوفة من قبل، فحاولت الاحتفاظ بهم كعنصر مساعد بشروط. من ناحية أخرى اتجه السلاطين لإعطاء المتصوفة بعض الوظائف لاسيما للبيت البكري، ويمكن القول بأن العلاقات بين سلطات الدولة العثمانية والمتصوفة لم تكن على وتيرة واحدة فتحسنت أحيانا وساءت أحيانا أخرى".
وينتقل الدالي إلى الاحتلال الفرنسي وقراءة الأميركيين والفرنسيين والمصريين لنتائجه مشيرا إلى أن الكتابات التاريخية المصرية استمرت لوقت طويل تنظر إلى نتائج الاحتلال الفرنسي من منظور فرنسي/ أوروبي، مدفوعة في ذلك بعوامل معرفية وسياسية، لاسيما في النظر إلى القضية من منظور التقييم التقليدي لأوضاع مصر في العصر العثماني، وإذا كانت هناك بعض محاولات التجديد في كتابة تاريخ مصر الحديث منذ ستينيات القرن العشرين فإنها لم تكن لتطال نتائج الاحتلال. أما التغيير الجوهري للنظرة التقليدية فجاء من جراء إعادة تقييم عهد محمد علي باشا، على ضوء ما أنتجته الدراسات الجديدة عن أوضاع مصر في القرن الثامن عشر، بناء على ذلك وبالعودة إلى المصادر الرئيسة والوعي بالعلاقة بين الأيديولوجيا وكتابة التاريخ، بدأت بعض الدراسات التاريخية المصرية في تناول نتائج الاحتلال الفرنسي بعيدا عن الانبهار.
ويضيف الدالي أن حدث الاحتلال الفرنسي وإن كان فريدا ومثيرا في حينه لجسامته، وهو ما عبر عنه الجبرتي، إلا أنه لا يزال مثارا ومثيرا حتى الآن، لما ترتب عليه من خلاف يتصل بإشكالية بداية التحديث في مصر والمنطقة، وهو الخلاف الذي يعكس قضية أكبر يمكن صياغتها في السؤال التالي: هل فرنسا الغرب كانت صاحبة الريادة في حمل رسالة التحديث، أم مصر الشرق كانت قادرة على القيام بذلك بنفسها، حتى قبل مجئ الاحتلال الفرنسي؟
وإذا كانت الكتابات التاريخية قد اختلفت ـ ولاتزال ـ في الإجابة عن السؤال، فإن هذا يعكس أهمية السؤال لكونه يطرح إشكالية المعاني الحقيقية للتخلف والجمود والمحافظة في مقابل التطور والتقدم والتحديث، وهل يجب النظر إلى تلك المفاهيم بمعايير تثمن خصوصية وقيمة التطورات التي شهدتها مصر قبل الاحتلال الفرنسي، حتى ولو اختلفت مع قيم التحديث عند الغرب؟ أم أنه من الضروري النظر إلى ما حدث باعتباره لا ينتمي إلى التحديث الذي قال البعض بأنه كان وليد الاحتلال فقط؟.
وهنا يطرح السؤال من جديد: ما التحديث "الحداثة" بالتحديد، وهل ترتبط ماهيته ومعاييره بالمحددات الغربية فقط؟ وهل له وطن بعينه يخرج منه؟. إن الإجابة على تلك الأسئلة وغيرها في حاجة إلى المزيد من الدراسات المتخصصة والجادة والواعية، ومن الطبيعي أن إعداد مثل تلك الدراسات يحتاج إلى جهود واستعدادات مسبقة من الباحثين، منها قراءة الانتاج الفكري والعلمي لهذه الفترة في مصادره الأصلية، لا الاكتفاء بالقراءة عنه. ناهيك عن ضرورة الاستفادة من الوثائق وغيرها من المصادر بشكل واع، حينها يمكننا أن نقرأ ما يكتب عن تلك الحقبة قراءة صائبة وواعية، ومن ثم نستطيع أن نحكم عليه، والأهم أننا حينها نستطيع كتابة تاريخنا بشكل موضوعي.
ويلفت إلى أن المدرسة التاريخية المصرية استغرقت زمنا طويلا لكي تبدأ في التخلص من هيمنة التفسيرات الغربية لنتائج الاحتلال الفرنسي، وهي التفسيرات التي لا تزال موجودة بقوة وجاذبية سواء بوعي واقتناع، أم بناء على تبعية ثقافية أم بسبب الجهل بحقيقة أوضاع مصر حتى عام 1798 وما نأمله ألا نأخذ فترة أطولفي ترسيخ أسس مصرية تتعامل مع تاريخ مصر في العصر العثماني باستقلالية فكرية، وفي كل الأحوال، فإن هذه الأمور وغيرها تثبت أننا في حاجة لتوسيع مجال نقد الدراسات التاريخية الذي لم يعد ترفا ـ ولا كان ـ بل أصبح ضرورة حتى نتحول إلى منتجين للمعرفة في الحقل التاريخي، بدلا من الاكتفاء بدور المستهلكين والتابعين.
وحول أزمة محمد علي باشا في الشام وموقف الإنكليز منها يقول الدالي "أن نجاح مشروع محمد علي باشا في غزو الشام ترافق مع صمت إنكليزي حتى عام 1832 كان "موافقة ضمنية"، لحرص إنكلترا على ضمان مصالحها ومواصلاتها في الشرقين الأدنى والأقصى. لكن الموقف تغير منذ عام 1833 لوجود احتمالات بتدمير الدولة العثمانية التي اتجهت لقبول مساعدات روسيا. ما كان يؤثر سلبا على مصالح انكلترا بالمنطقة وعلى توازن القوى والسلام في أوروبا.
 ناهيك عن أخطاء بدا أن مشروع الباشا يمكن أن يشكلها على مواصلات إنكلترا إلى الشرق الأقصى ومصالحها هناك. هنا تغير موقف إنكلترا واعتبرت أن المشروع غير مقبول، لأنه سيؤدي لخلق دولة كبرى قوية قد تتحالف مع دولة أوروبية كبرى. ومع أن إنكلترا لم تستطع حسم الأمر آنئذ لظروفها الداخلية والإقليمية فإنها بدأت في وضع العراقيل أمام المشروع تمهيدا للقضاء 
ويؤكد أن نتائج هذه الأزمة أضاعت على مصر والأمة العربية الكثير، وفي الوقت الذي بم يعبأ فيه الشعب المصري والعربي كثيرا بسقوط دولة محمد علي، حرمت مصر من قيادة وحدة عربية سياسية واقتصادية واجتماعية ذات أبعاد استراتيجية كان من الممكن أن تكون فارقة في تاريخ المنطقة. 
وفي المقابل لم تكن معاهدة لندن 1840 وملحقاتها ـ خاصة عام 1841 ـ سوى مرحلة واحدة في الاستراتيجية الإنكليزية/الأوروبية للقضاء على أي محاولة مصرية/عربية للنهوض في المستقبل، وإذا كان إجبار مصر على الانفتاح هو نتيجة من نتائج إفشال المشروع المصري في عهد محمد علي، فإن نتائج أخرى كان قد تم الإعداد لها بنشاط في المطبخ السياسي الإنكليزي الغربي، للوصول إلى أهداف أخرى عديدة، منها السيطرة على فلسطين من خلال الإعداد لزرع كيان "صهيوني" فيها، ناهيك عن اختراق مصر نفسها اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا تمهيدا لاحتلالها، وتلك قضايا أليمة ودروس مهمة في تاريخنا الحديث والمعاصر.