محمد عناني يتابع حالة ترجمة الشعر العربي في مصر

المترجم د. محمد عناني يضعنا أمام بعض الحقائق المهمة قبل أن يتحدث عن حالة ترجمة الشعر في التقرير الأول لحالة الشعر العربي.
مشروع الترجمة إلى الفرنسية فشل لأن الدار الفرنسية المنوط بها نشر الأدب العربي كانت تطبع خمسين نسخة أو مائة في معظم الأحيان، ولا تتولى نشرها
دار نشر جامعة أركانصو الأميركية نشرت كتابا يضم شعر ثمانية عشر شاعرا مصريا شابا بعنوان "أصوات غاضبة"

يضعنا المترجم الدكتور محمد عناني أمام إجابة صادمة حين سألت د. فاطمة موسى الناقد البريطاني ب. إيفور إيفانز (من ويلز) أثناء زيارته للقاهرة عام 1961 عن إمكان ترجمة الأدب العربي والشعر خصوصا إلى الإنجليزية فقال لها: "وما حاجتنا إليه؟"
هكذا كانت الإجابة الصادمة، وعندما حاول د. ثروت عكاشة تقديم آثار أدبية عربية مترجمة إلى الإنجليزية في إطار مشروعه الثقافي الطموح، اشترطت عليه دور النشر الأجنبية أسماء بعينها، وكان ذلك في الستينيات إبان فورة الحماس للقومية العربية، فلم تقبل دور النشر المذكورة أي عمل يمثل العرب المحدثين، ولم يترجم في فترة ما بين الحربين إلا القليل من الأعمال الأدبية، ربما كان أهمها "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم، وقد عرضت المسرحية في أوروبا مترجمة إلى الإيطالية.
هكذا يضعنا الدكتور محمد عناني أمام بعض الحقائق المهمة قبل أن يتحدث عن حالة ترجمة الشعر في التقرير الأول لحالة الشعر العربي الذي صدر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف 2019، مؤكدا أنه ساد اتجاه محزن عام 2018 بسبب الإغراق في الكتابة بالعامية، وبالنثر الذي يسمى شعرا، ويقترح تولي بعض الهيئات الأكاديمية العربية مشروعا لنشر الشعر المترجم إلى اللغة الإنجليزية، بسبب انتشارها، ويسر الترجمة منها إلى لغات العالم الأخرى، وحبذا لو جرى هذا بالتعاون أو بالتبادل مع هيئات أجنبية، معربا عن أسفه ألا يعرف العالم ما ينبغي أن يعرفه عن عظمة الإبداع الشعري العربي الراهن، إلى جانب إعادة تقديم ما أساء بعض المستشرقين تقديمه من عيون الشعر العربي، مؤكدا أن العرب لم يتخلفوا في يوم من الأيام عن ركب التفاعل الثقافي الذي أثمرته دراسات الترجمة، مشيرا إلى تخصيص جوائز للمبدعين في الترجمة، وعلى رأسها جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة وغيرها.
ويتساءل عناني عن موقع الشعر في حركة الترجمة بين الفنون الإبداعية الأخرى، مشيرا إلى الصراع الذي شغل الدارسين والذي استمر عقودا بين التعريب والترجمة، وفي غضون ذلك لم يلتفت أحد إلى الشعر، لا الأجنبي ولا العربي، حتى حل القرن العشرون.

د. عناني لم يحدثنا عن دور المركز القومي للترجمة في هذا الصدد، وكيف يثمن دوره، ولماذا لم يتبن هذا المركز مشروعا لترجمة الشعر العربي في مصر إلى لغات أخرى، عوضا عن المشروع الذي تبنته الهيئة المصرية العامة للكتاب وتوقف؟

ويطرح د. عناني سؤالا آخر يتناول لُب القضية: ماذا ترجم من الشعر العربي إلى اللغات الأوروبية، ومتى، وما الأنواع الشعرية التي ترجمت، وما الحقائق الخاصة بهذه المسالة؟
ويشير إلى أن ترجمة الشعر العربي الجاد إلى الإنجليزية بدأت من طريق المسرح الشعري، وكانت الباكورة ترجمة مسرحية "مسافر ليل" لصلاح عبدالصبور عام 1979. ثم بدأت الإذاعة المصرية في الفترة من 1982 – 1985 في تقديم مختارات من الشعر العربي الحديث المترجم في البرامج الموجهة إلى أميركا الشمالية واستراليا.
وفي هذه الأثناء أصدر المترجم اليمني عبدالله العذري ترجمة "مختارات من الشعر العربي" في سلسلة كتب بنجوين الإنجليزية الشعبية، ولم يدرج فيها أية قصائد لشعراء مصريين، وعلى الرغم من ذلك قوبل هذا الكتاب الصغير في مصر بترحاب، وسرعان ما أحيا ذلك الكتاب الفكرة التي دعا إليها د. عناني وهي الشروع في تقديم مختارات من الأدب العربي المترجم إلى اللغة الإنجليزية، وهو المشروع الذي دشنته الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 1986.
وجاء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 ليضفي على المشروع قوة، فتترجم مسرحية "بعد أن يموت الملك" لصلاح عبدالصبور، من ترجمة نهاد صليحة، ومسرحية "محاكمة رجل مجهول" لعز الدين إسماعيل، ومسرحية "ليلى والمجنون" لصلاح عبدالصبور، ومسرحية "الوزير العاشق" لفاروق جويدة، بعنوان "سقوط قرطبة" وكلها مسرحيات شعرية ترجمت شعرا.
ويوضح عناني أن المشروع نشر مختارات شعرية من دواوين فاروق شوشة (أربعة دواوين) ومختارات من شعر محمد إبراهيم أبوسنة (ديوان واحد) ثم مختارات من شعر فاروق جويدة، ثم مختارات من شعر محمد الفيتوري وسعاد الصباح ومحمد آدم. ولكن المشروع توقف لأن رئيس هيئة الكتاب الجديد في 2004 الدكتور ناصر الأنصاري كان يحبذ الترجمة إلى الفرنسية، وقد فشل مشروع الترجمة إلى الفرنسية لأن الدار الفرنسية المنوط بها نشر الأدب العربي كانت تطبع خمسين نسخة أو مائة في معظم الأحيان، ولا تتولى نشرها.
ويشير د. عناني أنه في غضون ذلك نشرت دار نشر جامعة أركانصو الأميركية كتابا يضم شعر ثمانية عشر شاعرا مصريا شابا بعنوان "أصوات غاضبة"، فتلقفته دور النشر الأخرى، وترجمته إلى لغات أوروبية منها: الألمانية والفرنسية.
وفي خضم ما يسمى بالربيع العربي أحيا الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة وقتها، مشروع الترجمة إلى الإنجليزية، فصدرت الأعمال المسرحية الشعرية الكاملة لصلاح عبدالصبور، ومسرحيتان لأمير الشعراء أحمد شوقي وهما: مجنون ليلى ومصرع كليوباترا في مجلد واحد مع مقدمة علمية عميقة عن ترجمة الشعر بقلم جانيت وهبة سوريال عطية، وديوان من شعر الإبجرام بالفصحى بعنوان "لآليء البحر" للشاعرة مادو عبده.
ثم يوضح الدكتور محمد عناني أهم صفات المترجم، ومنها معرفته لغته الأم معرفة تجري مجرى الدم، فالترجمة ما هي إلا طاقة ذهنية فطرية يساعد اكتساب اللغة الأم على تنميتها، ويؤكد أن مترجم الأدب مبدع. لكنه يرى أن المتخصصين في اللغات الأجنبية من أبناء الجيل الجديد يندر أن نجد من بيهنم من تبحر في العلم بها تبحرا يتيح له ترجمة الشعر العربي الصادق بالصورة المنشودة. ويقصد بالشعر الصادق هنا التراث الذي خلفه لنا الأجداد، لا شعر العامية ذا المعاني المحدودة، والأنغام الساذجة.
ويرى عناني أننا نواجه هبوطا فيما يسمى لغة الإبداع الشعري، وهي الموجة التي تتهدد جميع جهودنا لإنصاف أنفسنا بإنصاف شعرنا العربي الذي نجا من الهلاك رغم ما أصابه من محن على مر التاريخ، فحياة الشعر حياة الأمة، كما يقول ت. س. إليوت محقا. 

The case of Arabic poetry
القائمة تدعو إلى الانقباض

ويرصد  د. عناني ما نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب من دواوين شعرية في الفترة من 2011 – 2018 حتى يبين الحيرة التي تواجه المترجم المخلص الذي يريد توصيل صورة الشعر العربي من مصر إلى الخارج، مؤكدا أن الهيئة لم تصدر دواوين شعر عام 2010 لأسباب لا يعرفها، ولكنها أصدرت عام 2011 سبعة دواوين، وفي عام 2012 نشرت ستة دواوين، فيها ديوان واحد منثور، ويذكر أسماء تلك الدواوين (مع أن ديواني "بقايا من زوايا شمعتك" صدر في هذا العام 2012 إلا أن د. عناني لم يذكره، ولم أدر هل شاهده أم لا؟) وفي عام 2013 صدرت ثلاثة دواوين فقط، ويخلو عام 2014 من نشر أية دواوين بالهيئة، وفي عام 2015 يصدر ديوانان فقط، وفي عام 2016 أربعة دواوين، وفي عام 2017 تزحف العامية إلى الدواوين، ومع إشراق عام 2018 – يقول عناني – تنتصر الآفتان: العامية والشعر المنثور، ويكاد النظم (أي الشعر الموزون) يختفي تماما من سماء حياتنا الشعرية وأرضها، إذ نشرت الهيئة ستة عشر ديوانا ليس فيها إلا اثنان يمكن وصفهما بالنظم.
وفي نبرة أسى يقول الدكتور محمد عناني: القائمة تدعو إلى الانقباض، وتدعو المترجم الفخور بتراثه الشعري العربي إلى الاكتئاب، ولا أقول الغم والهم.
لقد حاول المترجم د. عناني أن ينتقي ما يُترجم من هذا الإنتاج الشعري الوفير، فلم يجد ما يمكنه أن يقدمه إلى القارئ الأجنبي بلا إحساس بالخجل، مؤكدا أن الأفكار مطروقة بالية، وكل شاعر يركز على ذاته كأنما هو جوهر الكون أو مركزه، والصور مرصوصة بلا نسق شعوري يربط بعضها بالبعض. مشيرا إلى أنه ليس من العجيب أن يخرج المنثور نثرا في الترجمة وأن تخرج القصائد العامية فقيرة في الصور والأخيلة بعيدة عن الفكر العميق الذي ضربت له نماذج من تراثنا الشعري، وهذا لاشك سبب من أسباب إحجام المترجمين من ذوي الكعب العالي عن ترجمة العامية والشعر المنثور. ولعل لهذا السبب أيضا يحجم الناشرون العرب عن نشر ترجمات شعرية.
ويختم د. محمد عناني تشخيصه لحالة ترجمة الشعر في مصر بالمحفزات التي لا تزيد عادة عن التشجيع بالنشر، ولو لم تكن المكافآت المجزية متوافرة، فالمترجم للشعر يعمل بدافع نفسي وذهني وقومي ويكفيه أن يقرأ الناس ما يكتب وما يترجم.
غير أنني أشير في النهاية إلى أن عنوان بحث د. محمد عناني هو "الإبداع وترجمة الشعر حالة مصر والسودان" ولم أجد للسودان ذكرا في هذا البحث، كما أن الدكتور عناني اكتفى في كل ما ورد بالبحث، بالدواوين الشعرية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مع أن هناك دور نشر حكومية أخرى تصدر دواوين الشعر مثل المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وغيرهما، فضلا عن دور النشر الخاصة، كما أنه لم يحدثنا عن دور المركز القومي للترجمة في هذا الصدد، وكيف يثمن دوره، ولماذا لم يتبن هذا المركز مشروعا لترجمة الشعر العربي في مصر إلى لغات أخرى، عوضا عن المشروع الذي تبنته الهيئة المصرية العامة للكتاب وتوقف؟