'مختارات شخصية' لأشهر مجموعات رائد القصة القصيرة جدا مونتيروسو

الإيجاز والديناميكية اللغوية والمحاكاة الساخرة هي القوى الدافعة الأكثر حيوية لإنتاج الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو الأدبي، إلى جانب مفهوم الحرية.

يعتبر أوغوستو مونتيروسو أحد أبرز كتاب القصة القصيرة جدا المكتوبة بالإسبانية، هذه القصة التي تتناول موضوعات معقدة ورائعة برؤية استفزازية للعالم وبسرد مكثف محمل بالكثير من الدلالات والجماليات والبراعة الفنية، كونها تعتمد على مراقبة المهمش والمسكوت عنه في حيوات الواقع وتخلق من لقطاتها إبداعا فارق ومتميز في رؤية العالم..

الإيجاز والديناميكية اللغوية والمحاكاة الساخرة هي القوى الدافعة الأكثر حيوية لإنتاج مونتيروسو الأدبي، إلى جانب مفهوم الحرية، الذي يفهم بأوسع معانيه: الحرية الإبداعية والحرية، الفردية والاجتماعية، ومقاومة أي شكل من أشكال العنف والمراوغة، وتزودنا قصته الشخصية ببعض العناصر الأساسية التي تفسر هذا التكوين الجمالي لكتابته: هو كاتب من غواتيمالا، ولد عام 1921، عاشق للرسائل والكتابة منذ صغره، شارك بنشاط في الحركة الثورية لغواتيمالا خلال ديكتاتورية خورخي أوبيكو الرهيبة، عاش طوال حياته - بدءا من عام 1944 - في المكسيك، حيث تم نفيه لأسباب سياسية. وعلى الرغم من أنه مندمج تماما في السياق الثقافي المكسيكي، والتقائه بمثقفين من مختلف بلدان أميركا اللاتينية، إلا أنه لم يتوقف أبدا، للحظة واحدة، عن الشعور بالارتباط الوثيق بغواتيمالا.

وهذه المجموعة من المختارات التي ترجمها أستاذ الأدب الإسباني والترجمة بجامعة عين شمس د.محمد أبو العطا وعنونها بـ "مختارات شخصية"، وصدرت عن المركز القومي للترجمة، و ضمت قصصا من أشهر مجموعات مونتيروسو القصصية، مثل "النعجة السوداء وحكايات أخرى"، "حركة دائمة"، "وما غير ذلك صمت"، "رحلة إلى مركز الحكاية"، "الكلمة المسحورة" و"البقرة" وغيرها.

تكشف المختارات من أعمال مونتيروسو تطويره استراتيجية سردية جديدة لتأكيد الإبداع والبحث عن الابتكار وجذب انتباه القارئ الذي هو شريكه: حيث يقترح عليه أن يشارك في لعبة الذكاء ويتخلى عن رموز القصص الخيالية التقليدية، ونوع اللغة، والأخلاق؛ ومن جانب آخر ينطوي ابداع مونتيروسو على ممارسة قدرته على التعرف على المخيلة الكلاسيكية، من خلال التلميحات، وإعادة اكتشافها وإعادة صياغتها وتحديثها بخلق مفارقة لا تسيء، بما يسمح له الاستمتاع بتمرين التناص والتلاعب بالصور المتجددة والمعاد صياغتها. نظرا لأن القارئ لا يتعرف على نفسه أبدا في الهجاء ويميل أكثر إلى التعرف على الآخرين فيه، فقد أخرج مونتيروسو المواقف عن سياقها، واختار للقارئ التحرك بحرية والتعبير عن قدرته النقدية في أفضل حالاته.

بالإضافة لكونه من رواد التجديد في كتابة القصة فإن مونتيروسو أيضا من نقاد الأدب ومؤرخيه المعروفين، وهو بحكم تكوينه الثقافي ملم بعدة لغات وثقافات، لذا فإن رؤيته الأدبية ذات أفق رحيب ومعامل التأثر والتأثير لديه جد متنوع. يقول أبو العطا أن مونتيروسو يعد أحد حكماء أميركا اللاتينية وأشدهم معرفة بكتابها ومبدعيها، ومشروعه الإبداعي يرتكز على التجديد التقني والأسلوبي والفكري وإحياء التراث السردي بعد مراجعة مسلماته والسعي إلى خلق أسلوب جديد يحمل وسمه الخاص. أما نتاجه السردي فقائم على شغل الفواصل بين الأنواع الفرعية المختلفة للسرد، فكتابته تخمية بين الأمثولة بشكلها القديم والحكاية والقصة القصيرة في ثوبها المعاصر. ومن أهم منجزاته أنه مؤلف أقصر قصة في الأدب العالمي "عندما صحا كان الديناصور هناك".

ويلفت إلى أن مجموعته القصصية "النعجة السوداء وحكايات أخرى" هي أهم إصداراته وأشهرها، وهي التي كانت مصدر شهرته الأدبية داخل وخارج وطنه، ومن أهم عناصرها ـ التي هي في الوقت ذاته مجمل سمات كتاباته اللاحقة ـ المزحة والدعابة التي تعلمها من أمير السرد الإسباني دون ميغل دي قربانتيس والسخرية واللجوء إلى الأمثولة القديمة من إيسوب إلى لافونتين في التراث الأوروبي وإلى التراث الأميركي القديم المتمثل في منابع كثيرة منها كتاب العموم "popol vuh" وثقافات المايا، وشعوب سلسلة جبال الأنديز على سبيل المثال.

ويرى أن خصوصية مونتيروسو أنها قراءة جديدة للأمثولة التقليدية ومراجعته لعناصرها وإعادة ياغة ذكية وحديثة لقابلها ومعمارها التقليديين. فعلى الرغم من تمسكه بأبطال الحكاية القديمة وأدوارهم التقلدية في حكايات الوعظ، ينفح هؤلاء الأبطال أدورارا ودلالات غير تقليدية. أما أهم إضافة منه إلى الحكايات هي أنها بلا أي نية في الوعظ ولا استخراج الموعظة منها، بل إنها تحمل ـ رمزا أو إبهاما أو صراحة ـ هموم الإنسان المعار وشعوره بالاغتراب والتشظي وتعذر اتصاله بالآخر وبالانكشاف أمام مخاوفه ورعبه مما هو آت.

ويضيف "هناك كذلك في كتابة مونتيروسو في هذه المجموعة ملمح فارق تجعله متنائيا عن جوهر الفكر التقلدي الغربي، وهو الفكاك من سطوة العقلانية المحدودة واستشراف أنماط فكرية حاضرة في ثقافات أخرى وتعزز الاتجاه نحو اللامركزية في الفكر والإبداع. ومفاربته لحكايات تقليدية مثل "السلحفاة وأخيل"، و"بجماليون"، تنم عن أصالة هذا الكاتب في استحداث رؤى ومعالجات تراجع القديم وتتقاطع مع المعاصر المعيش. وقد أشرنا إلى مجموعة "النعجة السوداء وحكايات أخرى" على وجه الخصوص، لأنها حاضر بشكل في هذا المجلد الذي نقدمه هنا ويحمل عنوان "مختارات شخصية"؛ وهو مع ذلك يضم قصصا أخرى من مؤلفات أخرى للكاتب".

نماذج

النعجة السوداء

في واحدة من الأقطار البعيدة، كان هناك نعجة سوداء.

أعدمت رميا بالرصاص.

بعد قرن من الزمان، أقام لها القطيع الذي ندم على فعلته، أقام لها تمثالا راكبا في الحديقة العامة.

وعلى ذلك، ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، كلما ظهرت نعجة سوداء سرعان ما يعمل فيها القتل؛ كي تتمكن الأجيال اللاحقة من التمرس في فن النحت.

السلحفاة وأخيل

أخيرا، طبقا للبرقية، بلغت السلحفاة خط النهاية في الأسبوع الماضي.

وفي مؤتمر صحفي صرحت في تواضع بأنها خشيت دائما الخسارة، لأن خصمها كان في أعقابها طوال الوقت.

الحق أن أخيل، بعد عشرة آلاف تريليون جزء من الثانية، وصل خط النهاية كالسهم وهو يلعن زينون الإيلي (أحد فلاسفة ما قبل سقراط).

الشعاع الذي سقط مرتين في المكان نفسه

حدث ذات مرة أن سقط شعاع مرتين في المكان نفسه؛ فوجد أنه في المرة الأولى كان قد أوقع ما يكفي من الضرر، وأنه لا ضرورة له فاكتأب كثيرا.

الديناصور

حين صحا كان الديناصور لا يزال هناك.

الإيجاز

ما أكثر ما أسمع الحديث عن الإيجاز، ومؤقتا أنا نفسي أسعد حين أسمع قول "إن الخير، موجزا، خير مرتين".

ومع ذلك فإن هوراس ليتساءل في مقطوعته الهجائية رقم 1 ـ من الجزء الأول ـ أو هو يصطنع سؤال ميسيناس لما لا يقنع أحد بحاله، فالتاجر يحسد الجندي، ويحسد الجندي التاجر، (تتذكرون، أليس كذلك؟).

والحق أن كاتب العبارات الموجزة لا يطمح إلى شيء في العالم غير كتابة نصوص مسهبة بلا نهاية، نصوص طويلة لا يعمل فيها الخيال، وتتقاطع فيها الأحداث والأشياء والحيوان والإنسان، فيبحث بعضهم عن بعض أو يفرق بعضهم من بعض، فيعيشون ويتعايشون ويتحابون أو يهرقون دمهم بلا قيد دون أن يخضعوا للفصلة المنقوطة، أو النقطة.

لهذه النقطة التي فرضها عليّ في هذه اللحظة ما هو أقوى مني، وأحترمه وأمقته.

الإيمان والجبال

في البدء، كان الإيمان يحرك جبالا فقط حين يكون الأمر ضروريا للغاية، ومن ثم فإن الطبيعة لبثت على حالها ألوف السنين.

ولكن حين بدأ الإيمان ينتشر وبدا للناس أن فكرة تحريك الجبال مسلية، راحت الجبال تتحرك بلا توقف، وأصبح عسيرا في كل مرة أن يجدها المرء حيث تركها في الليلة السابقة؛ وهو أمر بالطبع زاد المشاكل أكثر من حلها.

حينئذ قرر خيار الناس تركه والآن، على وجه العموم، ما انفكت الجبال في الجبال في مكانها.

والآن حين يحدث سقوط يلقي حتفه عدد من المسافرين، فمرد ذلك أن أحدا من بعيد أو من قريب انتابته نفحة خفيفة من الايمان.