"مسارات متشعبة" بين سرد التكوين الاجتماعي والعنصر "سير ذاتي"

مفهوم "سرد التكوين" يعني موضوع حكي فترة التشكل الإنساني، من زمن نهاية فترة الطفولة المتأخرة ويصل إلى فترة الشباب.
إدانة العنف اللفظي والبدني العائلي باعتبارها تجربة قاسية ومريرة
مفردة "موروثات" حاكمة في الرواية بشكل معلن، ومن خلال تنويعات كثر

تنطلق مقولة رواية "مسارات متشعبة" للكاتبة رانيا مسعود في تقديري من رحاب أفق ما أسميه "سرد التكوين الاجتماعي"، ومفهوم "سرد التكوين" يعني موضوع حكي فترة التشكل الإنساني، من زمن نهاية فترة الطفولة المتأخرة ويصل إلى فترة الشباب، يقول الناقد د. سيد محمد قطب عن سرد التكوين: "زمن الصداقة والحب والأحلام، زمن النهم للتحصيل والتغيير، أي سحر كامن في هذه الفترة يدفع كتاب السرد لتناولها"، والتناول المباشر للرواية لهذا الزمن انطلق من وصف مجموعة التفوق الدراسي بالجامعة، والأساتذة، وتبييض المحاضرات، وتدوين شروحها، وحفل التخرج، حيث بطلة السرد الساردة بضمير السرد الذاتي تختار هذه الفترة وما يلي هذه الفترة من لقاء واقع الحياة مباشرة بعد فترة الجامعة.
ولكن يمتد "سرد النمو" - كما يسميه نقاد أيضًا - في الرواية ليشمل بيان الأساس التربوي لحكي التكوين، بمعني الإشارات للإطار الاجتماعي من الموروثات الاجتماعية، لذلك نجد أن مفردة "موروثات" حاكمة في الرواية بشكل معلن، ومن خلال تنويعات كثر، نشير في إيجاز لبعضها.
•    فكرة وأد الفتاة المعنوي بسلوك تربوي كسيح في بيت تأسيسها، ثم في بين الزوجية، وإنارة أيقونة الحرية للفتاة المعاصرة، تقول صفحة (79): "لا توصدوا دوننا الأبواب. لا تتركونا ننتظر طويلاً لسنا مخيرات وأنتم تسيروننا، لا تنتقموا منا وتزيدونا قهرًا بالموت خلف أسواء صنعتموها من أجلنا لسنوات". 
•    والأساس التربوي يتضح بجلاء بين سطور الرواية، تقول صفحة (31): "الانتصار علي ذكورة مجتمع فشل في توفير الأمان لكل إمراة"، وجذوره نابتة في سلوك التمييز في الأسرة ضد البنت لصالح الولد، صفحة (38): "اعتياد تأنيب البنت". 
•    وتشتمل الرواية على واقع نلمسه جميعًا، وهو الفشل الحاصل في العلاقات الزوجية الجديدة، وأعلنتها الإحصاءات عربيًا عن تصاعد خطير في حالات الطلاق، وتحقق الرواية إدانة سوء الاختيار للزواج، بتعبير الرواية، صفحة (29) بتصرف: "المؤودة والمنخنقة من الزواج .. حتي  لا يفلت منها القطار فتتعلق بأولي محطات القطار"، وتطلق حقيقة اجتماعية آنية مؤسفة: "ظل الرجل .. تستظل به من حرارة الألسنة ونيرانها المضرمة"، وتعبير ظل الرجل يمثل فكرة الضغط الاحتماعي في القول المائل "ظل رجل خير من ظل حائط".

اتحفظ هنا على مفردة "المتلقي" ليكون "القارئ"، حيث يثمر الفعل الروائي فعلا يجمل الواقع وينفي مساراته الشائهة

•    وتبدو مفردة الموروثات حاضرة بقوة، تقول صفحة (45): "المرأة في البيئة الشرقية إما أن ترضخ وتستسلم لرغبات المجتمع أو تظل عالقة تحت مطرقة العادات والتقاليد والعرف الجامدة"، وتتحدث كثيرًا عن: "المجتمع الذي يخلو من الرحمة بين سكانه ويطلبها لنفسه / مجتمع به التحرش / مجتمع يجلد الفتاة التي تخطت سن الثلاثين ولم تتزوج"، فكانت النتائج كارثية: الانهيار الأخلاقي وارتفاع نسب التفسخ العائلي.
•    إدانة العنف اللفظي والبدني العائلي باعتبارها تجربة قاسية ومريرة "جحيم خلف الأسوار"، وخلف السدول الأسرية.
•    إذن القضية اجتماعية في المتن الروائي، والأزمة في العبارة اللافتة، وهي قمة المأساة، صفحة (117): "البحث عن الرجل المنشود في مجتمع غير منشود"، بمعني أن الموروثات الشائهة التي تعامل من منظور اليقين الاجتماعي تؤثر في شخوصه، وتؤدي للكوراث، فجاءت العباة اللافتة الأخرى، صفحة (120): "المجتمع الذي أهان الجميع، صغارًا وكبارًا، قتلي وشهداء، سيدات وآنسات وحديثات عهد بالزواج"، وتخص بالذكر مركز الفتاة وتفعيل إرادتها الحرة كأنسانة وليست "مسمرة كقطع الأثاث" بتعبير الرواية، يقرر لها المجتمع مواصفاته واختياراته دون اختياراتها، تقول صفحة (25): "من أنتم حتي تقرروا لي ما أراه في حياتي".
•    وتنبع قضية الآخر الذي وصفته الرواية: "الساتر الترابي"، وكأن الأنثي يجب أن تختبئ خلفه، تقول صفحة (25): "إنني لا حاجة لي بمن أتنازل عن أشيائي وخصوصياتي وقناعاتي من أجله"، وتصف "الوجبات المسمومة" نموذجًا: تلك الوجبات المسمومة من النميمة والنهش في لحوم وسيرة الآخر بالسوء، لاستمداد التقدير للذات، واسمتهم (اللاشيئيون) وهم القائمون بالكيل حقدًا وإنتقاصًا، وتطلق صيحة الاحتجاج، صفحة (23): "ما هذا المجتمع الذي أصل بداخلكم قيمًا مختلفة بالكلية عن تلك التي عليكم الإنتماء إليها في دينكم".
•    وينبع في الرواية سؤال القصدية للاتجاه نحو الفعل للتغيير: "هل نحن من يثور علي التقاليد ليغير الفكر الاجتماعي بالتعليم والعمل؟!".
أما العنصر الثاني الذي شكله عنوان الدراسة حول موقع حياة المؤلف من شخوص روايته، ومدي التماهي بينهما، نجده في التصريح الروائي لبطلة السرد صفحة (117): "يحدث تماهي بين شخصية البطلة والكاتبة في بعض  المواقف، ولكن هذا لا يؤكد أن ما تسردينه هو أدب سيرتك الذاتية بطبيعة الحال"، والروائية محقة في قولها فالعنصر السير ذاتي ليس هو السيرة الذاتية. العنصر السير ذاتي موقف أو أسلوب فني مثله مثل أي موقف فني كالأسلوب الشاعري مثلا، أما السير الذاتية فذات أساس مرجعي هي نوع أدبي. وبمعني أن العنصر السير ذاتي هو استمداد وتوليف الروائي من أحداث عاصرها أو شخصيات ألتقي بها، ليست هي بذاتها، إنما يضيف إليها بخياله أو يقوم بالتركيب بين أكثر من موقف أو شخصية مع تحويرها. وأظهر حضور للعنصر السير ذاتي في الإطر الروائية مثل الطبيب الذي يجعل روايته تدور في المشافي وعالم الصحة. والعنصر السير ذاتي يتوافر بدرجة ما في كل نص أدبي تقريبًا بغض النظر عن النوع الأدبي، فهو هنا أسلوب أو موقف فني بمعني درجة كثافة استعمال هذا العنصر.
وهنا وفي إطار بحث المعطي السير ذاتي بين الكاتبة والشخصية الروائية، نبتت في عقلي أيقونة الدراسة "المرايا المدمجة"، أو المرايا داخل المرايا، نبعت من شاهد نصي صفحة (116) من الرواية: "حسنًا .. تمتلكين بعض الأدوات، ولديك الناقد، ولديك النفس التي تخرج تراه من ثوب البطلة وتدخل في ثوب الكاتبة وتتقمصها، فتخرج منها لترتدي ثوب المقصوص عنها ثم تعود من جديد إلي تلك القاصة"، فهناك تبادل ومرايا متعددة نري بها السرد فأحيانًا تخرج الكاتبة من ثوب الشخصية وتتمثلها، وأحيانًا طتصب الكاتبة عنصر سير ذاتي في رحاب شخصيتها الروائية، ويتم تكرار هذه المبادلة بشكل تكراري، مثلما نري الصورة مكررة في مرآة داخل مرأة. 

Egyptian novel
العالم الأزرق يكشف لي البشر علي حقيقتهم"

أما الدال الآخر للمرايا المدمجة فأتي من حزمة عتبات متعددة: أفق العنوان "مسارات متشعبة"، ولوحة الغلاف (لوحة مفاتيح الحاسب الآلي)، وكلمة المدخل "المسارات الواحدة تفقد الحياة لذتها" والذي يلقي في روع القارئ للوهلة الأولي فكرة معروفة رقميًا بالنص المتشعب "الهايبرتكست"، أو النص المتعالق في الإنترنت، والقائم علي وجود واجهة إلكترونية تحتوي علي ما يسمي "عقد نصية" تمثل روابط بالنقر عليها ندخل إلى نص آخر قد يكون هو بدوره واجهة جديدة تحتوي عقدا نصية جديدة، وهكذا في مسارات متعددة. 
وترمي يقينًا للشأن الاجتماعي علي حد قولها (بنفي المسارات الملتوية) المرسومة طبقًا للموروثات الشائهة، أو كما تقول صفحة (71): "والباطل يخط في حياتنا مسارات تؤدي إلي الهلاك"، وهنا تناص خفي مع وثيقة الرسول الأكرم "عليه الصلاة والسلام" التعليمية عندما خط الخط المستقيم وحوله خطوط منثورة، وهذا التناص مكرر بدرجات في الرواية مع النصوص الشريفة، وأبيات الشعر العربي، وفكرة "الإشارات" الصوفية، وأعمال أدبية، مثال: أصداء السيرة الذاتية، ست شخصيات تبحث عن مؤلف، سيرة عنترة وعبله، ... إلى آخره.
أما الجانب الآخر للعتبات فكان "العالم الأزرق المعتاد" ومثله في السرد تبويب "خارج الصندوق"، وتقدم فكرة حول بعض خصائص العالم الافتراضي من: "ما يكتب فيه لا يمحي"، وصفة الإيجاد، واستعمال مفردة "الحظر" للتعبير عن مستوي التعبير العاطفي للشخصية حينما تفاصل وتبتعد الآخر الكريه. ثم الخاصية الأهم عن البوح والإفضاء سمة الكتابة الإلكترونية الأدبية، تقول صفحتان (39 و40): "أفرغ طاقتي الكتابية علي أوراق العالم الأزرق، أوراق الأزرق تختلف عن أوراقي البيضاء ... يتسع بياضها لتتشرب من سواد تفكيري وحدي"، وغيرها من سمات صفة التفاعلية أو دور آلية التعليقات، وفكرة الهوية الإلكترونية، والفيس الذي لا يمكن الإختباء فيه، فالجميع مقروء علي الفيس، صفحة (41): "العالم الأزرق يكشف لي البشر علي حقيقتهم".
وليس فقط فكرة الكتابة علي الأزرق، بل تناول للجانب الأثير في عملية الكتابة، وهو الحديث عن الكتابة ذاتها في شواهد نصية كثر عن تحديات الكتابة، ومنة التعبير، والمصطلح المريب "الأدب النسوي"، وكن ذاتك الإبداعية "الأصالة الإبداعية"، ومتعة الكتابة صفحة (56): "لا حرمني الله متعة الكتابة حتي وإن داهمتني رياح الموت .."، ونلخص ما سبق في شاهدين، الأول صفحة (50): "إطلاق الزفرات علي الأوراق)" والثاني "تداعيات نمو عملي الروائي الذي ينبت في أحشاء عقلي".
وفي الختام فإني أرى أنه يجب قراءة النص لدى الكاتبة أكثر من مرة للوقوف علي ملامح من الأداء الفني والموضوعي، أي القراءة بتمعن، أو كما يقال "تمنع النص متعة المتلقي"، واتحفظ هنا على مفردة "المتلقي" ليكون "القارئ"، حيث يثمر الفعل الروائي فعلا يجمل الواقع وينفي مساراته الشائهة.