مسرح عراقي بلمسة تشيخوفية في 'سيرك'

عرض جواد الاسدي يقدم قصة حياة كلب سيرك مشهور تم الغدر به مقتولا من قبل صاحبه ومربيه بسبب خوفه من السلطة.

قدمت دائرة السينما والمسرح، الفرقة الوطنية للتمثيل مسرحية "سيرك" لجواد الاسدي، تمثيل شذى سالم واحمد شرجي وعلاء قحطان وعلى باحة بيت منتدى المسرح التجريبي وذلك الإثنين.

  يسرد العرض قصة حياة كلب سيرك مشهور اسمه "دودن" تم الغدر به مقتولا من قبل صاحبه ومربيه "ريمون" بسبب خوفه من السلطة.. فالكلب هنا هو بطل العرض الغائب الذي لا يظهر لكن تروى قصته على لسان ابطال العرض الثلاث:  كميله / شذى سالم، ولبيد الروائي / احمد شرجي، وريمون/ علاء قحطان.

اذن نحن ازاء عرض مسرحي يفترض المكان والزمان والشخصيات لسرد قصة مفترضة ربما عن الكلب الغائب "دودن،" اقول ربما مفترضة هنا بزعمي، او ربما تكون متناصة ومتوافرة في احدى قصص الكلاب العالمية والعربية للاطفال وللكبار على حد سواء، الا ان الاسدي استلها من خزينه الثقافي الشخصي، بوصفها نصا غائبا حاضرا في عرضه، لان فولدر العرض غيب كلمة تاليف مبقيا على كلمة مخرج العرض فقط .

انطلق من هذه الـ "ربما" لان السيرك وكلابه المستخدمة فيه وحكايات اصحابه وحيواناته، واحدة من الفنون الادائية الاجنبية ولم يكن للعرب وتاريخهم الادبي والشعري والمسرحي اثر يذكر، وايضا اقول من هذا المنطلق صعوبة اسقاط الفرضية الدرامية الاخراجية والحال هذه على واقعنا العربي والعراقي خاصة، الا ان الاسدي هنا وبحكم خبرته ولعبه الفني امسك او ابتكر اواصرا للصلة المختفية تلك، واوغلها بانسيابية مقنعة تلاقحت مع الذائقة العراقية ومخزونها الثقافي الثري وبامتياز.

لقد قدم المخرج نفسه وكعادته في اغلب عروضه، قدم نفسه مخرجا من خلال الاداء التمثيلي لابطاله، الذين تنافسوا بمشروعية فيما بينهم، فضلا عن مدونته التاليفية لحكاية العرض وحوارياته الجملية المفعمة بالصياغات الشاعرية، التي تدغدغ الجانب الوجداني والنفسي، الامر الذي احالنا، بلا وعي التلقي، الى نصوص وشخصيات الكاتب الروسي الكبير انطوان تشيخوف قاصا وكاتبا مسرحيا، وهو يوغل الى اعماق الشخصية ويعصرها كالليمونة عصرا من اجل التعبير عن اوجاعها ومعاناتها.. وحتى دائرة الحب الثلاثية التي يضعها تشيخوف بين شخوصه دائما، تاثر بها الاسدي هنا حين جعل من الروائي الواهم لبيد يحب كميله دون علمها بينما هي احبت وتزوجت ريمون ونادمة على ذلك.. اقول وعودا على الاداء: والحال نفسه هنا في نص وعرض سيرك وابطاله واداءاتهم الشعورية التقمصية وهم يذوبون في ايهاب شخصياتهم الموغلة بالالم والفجيعة والاحلام والخسارات والاوهام والخوف والخذلان والهزيمة والحب، نعم.. كنا امام عرض ادائي نفسي ينتمي الى الجايكوفية العالمية بامتياز ويوغل في المحلية اوجاعا وخرابا وخسارات مستمرة.

لقد سعى المخرج الى كسر الصورة البصرية السكونية لمكان العرض بمحاولته الغاء معالم البيت البغدادي القديم على الجانبين ووضع الاشجار العالية جدا في العمق كدليل لعمر الحديقة المفترضة، وزجه بمجموعة من الاجساد المتحركة تفعيلا لفضاء العرض وتحولات طقوسه وملحقاته الديكورية والاكسسوارية التي دعمت ايقاعية العرض صوريا، الى جانب تدعيم العرض لايقاعية الاداء التمثيلي المحترف المهيمنة على التلقي طيلة زمن العرض وبامتياز.

مكالمتان افتراضيتان يبدأ بهما العرض بين شخصياته وكالعادة ينقطع الخط .. مكالمتان كشفت لنا عن دائرة العلاقات الدرامية المحكمة ومرجعيات السرد عن كل شخصية فالدخول الى اجواء عزائية روحانية وكان الشخصيات تعزي نفسها الى ماجرى لها وسيجري في متون العرض الماضية والمستقبلية، فالخسارات قادمة لاشك لاننا لما نزل نعيش في دائرة الوهم والشك والكراهية والقطيعة والسفالة والقذارة المقنعة الناجمة عن المسبب الاكبر الحرب".

سعى المخرج ايضا الى امتثال المحلية هنا وكسرا لعالمية الفكرة وغرابتها.. حين جعل كميلة تتحدث الى المسرح الذي تحول الى مكب للازبال وهي اشارة واضحة الى مسرح بغداد مقرا ل "فرقة المسرح الفني الحديث". وايضا كميلة وهي تتلو ابياتا شعرية من قصيدة محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" بهدف الاحالة الى ما يجري اليوم من حرب مدمرة في فلسطين غزة وفي لبنان الضاحية، كذلك ما رمز له لبيد في حواره عن احتراق الفنون والمسارح والكتاب والنصوص بعد كل حرب مدمرة قاسية.. والذي اشار بوضوح محلي اكثر عبر المسار نفسه وهو المشهد الاخير لكميلة وهي تعتلي او كانها تعتلي منبرا سياسيا وهي تخطب باداء انفعالي عالي ومؤثر خطبة سياسية عالية في احساسها منفصلة عن شخصية كميلة في العرض، الا انني اجده مشهدا بعيدا عن حاجة العرض، الذي اعلن نهايته الفذة بوضع الشرشف الاحمر فوق جسد وتاريخ لبيد الروائي.

انماز علاء قحطان هنا وتنافس بمشروعية عالية مع زميليه الاخرين، في ادائه الفذ على طول خط شخصيته لاسيما في مشهد الخوف من السلطة/ الضابط واذلاله ونحيبه وضعفه وكذلك فعل ايضا  في مشهد قتل الكلب.. برافو علاء قحطان ..

كذلك الحال نفسه مع احمد شرجي الذي انغمس بشفافية ادائية تبدو بسيطة وعفوية الا ان صعوبة المهمة الادائية كانت شارعة ذاتها وسط هذا الوهم الروائي والفحولة الذكورية التي ماتت باجمل اداء تكلل بحزن القديسين يا احمد شرجي.

هي شذى سالم.. المنتمية الى صوتها وحسها وكاريزميتها المتفردة ابدا.. الواثقة دائما من ايمانها وقناعتها بما تؤدي.

نعم هو عرض مسرحي عراقي بنفس عالمي تشيخوفي روسي.. لكنه ينتمي الى العالمية اخراجا وتمثيلا.