مسيرة اللون في النحت المعاصر

على الصهبي يصحبنا عبر كتابه "فن النحت الملون المعاصر" في رحلة ممتعة مع توظيف اللون في النحت الذي يعتبر إحدى سمات النحت المعاصر.
التلوين ارتبط بالتقدم العلمي والتكنولوجي سواء في خصائص الألوان، أو فيما تعكسه على الشكل من تعبير
الدراسات الفنية المتعلقة بفن النحت الحديث والمعاصر، لم تهتم بإبراز عنصر اللون

يشتمل النحت المعاصر على العديد من الظواهر الجمالية المتنوعة سواء من الناحية التركيبية الشكلية، أو التعبيرية، أو وسائل التقنية، وذلك على نحو لم يتحقق في أي عصر من عصور تاريخ الفن السابقة على القرن العشرين. 
وفي كتابه "فن النحت الملون المعاصر" يصحبنا د. علي الصهبي في رحلة ممتعة مع توظيف اللون في النحت الذي يعتبر إحدى سمات النحت المعاصر التي تعكسها الأعمال النحتية المعاصرة، مشيرا إلى أن الدراسات الفنية المتعلقة بفن النحت الحديث والمعاصر، لم تهتم بإبراز عنصر اللون وتأكيده، كعنصر متميز في التشكيل النحتي المعاصر، مما ترتب عليه قصور في تفهم أهمية توظيف اللون ودوره المؤثر على النحت، وقصور في دراسة طبيعة الأعمال النحتية الملونة، وأهميتها ومكانتها، ومدى اختلافها عن الأعمال النحتية غير الملونة. بل وصل الأمر إلى القصور في مفهوم النحت الملون. 
وهدف الصهبي من كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى تعميق المفاهيم حول ظاهرة النحت الملون، وتوظيف اللون في النحت المعاصر مع التركيز على البدايات الأولى لدخول اللون في النحت الحديث، والنفاذ إلى الظروف التي دفعت النحاتين نحو الاستفادة من عنصر اللون في البحث، وتحديد العوامل التي أسهمت في إدخال اللون إلى النحت المعاصر من خلال دراسة تحليلية تهدف إلى استجلاء أثر التقدم العلمي والتكنولوجي على استخدام اللون في النحت مع تعقب الآثار التي ترتبت على حدوث الحربين العالميتين بالنسبة للفن، تلك التي تولد عنها الإحساس بالرغبة في التخلص من الأفكار التقليدية الأكاديمية التي تجاهلت توظيف اللون في النحت، الأمر الذي تسبب في التدمير الشامل، والاتجاه نحو تبنى الأفكار الجديدة، التي يعد توظيف اللون في النحت المعاصر من أهمها، فضلا عن تلمس أثر الاهتمام بالفنون القديمة والبدائية في استلفات أنظار الفنانين منذ بداية القرن العشرين إلى أهمية استعادة اللون لدوره المؤثر في الأعمال النحتية. وتحديدا علاقة اللون بعناصر التشكيل النحتي، من حيث الكتلة وأسطحها، والفراغ، والملمس مبرزًا دور اللون المؤثر على كل منها، وأهميته كضرورة فنية في الأشكال النحتية.  
يبدأ الصهبي بدراسة اللون كأحد الحلول التشكيلية، موضحًا أبعاد الاستفادة من تعدد الوسائط التشكيلية الملونة كاشفا عن قيمة اللون في التعبير النحتي، حيث يضيف إلى عناصر التشكيل المجسم عنصرًا جديدًا هو اللون الذي كان - من قبل - محايدًا وعاملًا مساعدًا ليصبح أكثر فاعلية في تحقيق أهداف التعبير المجسم. وموضحا "ارتبط النحت الملون بالعوامل الفكرية والتكنولوجية التي أتاحت الاستفادة من توظيف اللون في النحت المعاصر، مما نتج عنه ظهور حلول تشكيلية وتعبيرية جديدة. دعمت الجهود المبذولة لفهم فلسفة استخدام النحت الملون وإدراكه". 

أبعاد الأسلوب التوظيفي للون
تشكيلات مبتكرة بحرية تامة 

وأشار الصهبي إلى أن توظيف اللون في النحت المعاصر تضمن العديد من المفاهيم والأساليب والتقنيات التي يمكن الاستفادة منها في مجال تعليم الفن لإثراء المواقف التعليمية. ‏وقال "لما كان الاتجاه الأكاديمي ضد استخدام اللون في البحث، فقد ظهر التمرد على قواعد النحت الأكاديمي، بكل قيمه وتقاليده مع ثورة الفن الحديث منذ أواخر القرن التاسع عشر. 
وأضاف إن "التغير الجذري الذي حدث في التشكيل النحتي، حتى وصل بالشكل النحتي إلى تلك المنحوتات الملونة المعاصرة، لهو أكبر دليل على حدوث تلك الثورة في مجال التشكيل النحتي، والتي كانت إيذانا بولادة تراكيب تشكيلية جديدة ملونة، من أجل غايات تعبيرية وقيم جمالية، مع رفض الحلول التقليدية، بكل ما يحيط بها من مفاهيم وتقاليد وقيم تعبيرية. وقد ساعد على اتخاذ النحت المعاصر هذه الوجهة حدوث العديد من التغييرات في التركيب الاجتماعي والسياسي، وكذلك الاتجاهات الفلسفية السائدة في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، كل ذلك كان له تأثير مباشر ساهم في إرساء مفاهيم ثورة الفن الحديث بصفة عامة، والنحت الحديث بصفة خاصة، إلى الحد الذي كانت معه عوامل ظهور ثورة الفن الحديث بمثابة عوامل مهدت لظهور اللون في النحت المعاصر. 
هذا بالإضافة إلى ظهور "حركة توحيد الضوء" التي تزعمها "مايول" وناديلمان، وبرانكوسي، وآخرون، ممن سعوا إلى إنتاج أعمال نحتية تحقق طاقة جديدة للشكل، وذلك عن طريق بحثهم عن سطوح ناعمة ومنتظمة مصقولة بدقة وإتقان، وقد تكون لامعة، مرتكزين على أن لخامة الشكل النحتي أثرها المهم من أجل التحكم في انعكاس الضوء على السطوح بصورة منتظمة تسبب انتظام االنكسار الضوئي. وقد ظهرت أعمال نحتية لـ "برانكوسي" و"جيست" وغيرهما. يتضح فيها انعكاس الضوء بصورة منتظمة على أسطح الأعمال النحتية، إلى الحد الذي حدا بـ برانكوسي إلى تقديم البرونز على أنه عنصر مهم في تكوين النحت الحديث، وذلك بعد صقله وتنعيم ملمسه.
وأوضح الصهبي أنه مع بداية القرن العشرين طالعنا النحاتون الحديثون بأعمال نحتية ملونة، مثل "ليبشتز"، و"لورنس"، وأرتشيبنكو" وغيرهم. وكذلك بعض المصورين مثل: "إرنست لودفيج كيرشنر" و"جورج لاكومب وإلكسندر إيلير دوماس" و"كارل سكميدت روتلف" وآخرون ممن استخدموا اللون في النحت بأساليب مختلفة، من أجل التعبيرية والرمزية والزخرفية والأغراض البصرية. 
وقد ارتبط التلوين في هذا العصر بالتقدم العلمي والتكنولوجي سواء في خصائص الألوان، أو فيما تعكسه على الشكل من تعبير، أو في الخامات المصنوعة التي لم تكن موجودة من قبل مثل: البلاستيك، واللدائن، وغيرها، وهذا معناه ثورة فعالة في إمكانيات النحت. ويظهر توظيف اللون كإحدى ظواهر التعبير العريضة حيث يستخدم النحات اللون كجانب تـركيبي، أو كجانب تعبيري في بناء العمل النحتي، وذلك كأحد الحلول التشكيلية والتعبيرية للأشكال النحتية الملونة. فتوظيف اللون يمثل ظاهرة منتشرة بين فناني القرن العشرين، إلا أنها لم تشهد تطورا نحو الرسوخ إلا بعد الحرب العالمية الثانية بصفة عامة، وفي الستينيات على وجه الخصوص، وهو ما أكده كل من النقاد: "إلبرت ايلسن"، وإدوار سميث، وإن كانت الفترة من بداية القرن العشرين حتى الستينيات تمثل امتدادا طبيعيا للأعمال النحتية الملونة.
‎ورصد أهم ملامح تأثير الفنون القديمة على إدخال اللون إلى النحت الحديث والمعاصر منها: أولا احترام النحات المعاصر لطابع استخدام اللون في منحوتات الفنون القدمية والبدائية، والوعي بالتراث الفني العالمي الذي أتاح للفنانين الأوروبيين الاطلاع على ألوان من التراث الفني لمختلف الفنون القديمة والبدائية التي تختلف اختلافا أساسيًا عما عهدوه من تراثهم الأكاديمي ، إلى تعدد رؤية الفنان الحديث والمعاصر للفنون المختلفة ودفع النحات الحديث والمعاصر إلى ثورة على التراث الأوروبي، فكانت أهم العوامل التي أسهمت في ذلك: 
أولا: الاحتكاك بفنون الشرق الأقصى، ثم بفنون الشرق القديم والفن الإفريقي والفنون الإسلامية. 
ثانيا: أكدت الاكتشافات الأثرية في القرن التاسع عشر أن نحاتي قدماء المصريين والإغريق كانوا يلونون أعمالهم النحتية، فالنحاتون المصريون واليونانيون، وكذلك الصينيون الأوائل كانوا يفضلون – دائما - نحت الأشكال وتلوينها بما يعبر عن عاداتهم وبيئاتهم التي عاشوا فيها. 
ثالثا: وجود القطع الخشبية الملونة القادمة من إفريقيا، وكذلك القطع النحتية لكل من جنوب ووسط أميركا، بالإضافة إلى نحت الشرق الأوسط والهند قد أتاح لفناني القرن العشرين رؤية ممتدة لطبيعة النحت في تلك الفنون البدائية والطرق المباشرة التي طورت بها خامات هذه الفنون، كما كشف عن حيوية وقدرة نوعية متميزة على التعبير في كل هذه البيئات، الأمر الذي جعل الفنانين يحاولون الاستفادة من القيم التعبيرية لهذه الفنون ومن بينها اللون.
ورأى الصهبي أن توظيف اللون بالمنحوتات القديمة والبدائية أسلوبًا عرضيًا لجأ إليه النحاتون القدماء عن قصد، وحققوا من خلاله الطرق المثالية التي تناسب أهدافهم وفلسفتهم مؤكدين بذلك على القيم الفنية لأعمالهم النحتية القدمة الملونة، وقد كان موقف النحات المعاصر من هذه الأعمال النحتية القديمة الملونة واعيًا بكل ما تحمله من عمق التعبير بأقصر الطرق وأكثرها استثمارا للعواطف والانفعالات من خلال التعبير عن الحقيقة الذهنية للأشياء، وترتب عن هذا الوعي إدراك النحات المعاصر للعلاقة العضوية بين أسلوب التلوين وبين القيم التعبيرية في هذه الفنون السحرية، التي كانت بمثابة نشاط بنائي تـركيبي يؤدي وظيفة اجتماعية علمية مثل أعمال "الفيتشيزم" التي هي عبارة عن نماذج لتمائيل خشبية مطلية بالدهان، الأمر الذي أثمر عن اكتشاف النحات المعاصر كيفية توظيف اللون للتعبير عن مشاعره وانفعالاته بطريقة مستقلة ومباشرة مستلهما فلسفات عصره ومستوعبا للإمكانيات التكنولوجية والعلمية والصناعية المتاحة. 

تحقيق أهداف التعبير المجسم
جوجان - تمثال نصفي من الخشب الملون 1890

ولفت د. الصهبي إلى أن اللون ضرورة فنية في الأشكال النحتية المعاصرة، بما يطرحه من حلول تشكيلية جديدة على النحت المعاصر، سواء كانت هذه الحلول ناتجة عن الاستفادة من علاقة اللون بالعناصر التشكيلية، كالكتل وأسطحها والملامس والفراغات. وقال إن الضرورة الفنية للون تبرز من حيث إتاحته الفرصة للفنان، من أجل السعي وراء مفاهيم تعبيرية جديدة، حيث أدى اكتشاف الأهمية الحيوية للون، كعنصر تشكيلي مؤثر إلى ظهور عدة تيارات حاول كل منها الاستفادة من وجود اللون في إبراز مجموعة من القيم التشكيلية التعبيرية الجديدة، ولولا ظهور الضرورة الحيوية لدور اللون لما كان من الممكن اكتشاف هذه المفاهيم التعبيرية المعاصرة، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى اقتصار دور النحات المعاصر على إعادة وتكرار القيم التعبيرية التقليدية نفسها التي توارثها أجداده النحاتون ورسخوها على مدار الأجيال.
أيضا للون ضرورة فنية في الأشكال النحتية، بسبب تأثيره المزدوج، بجانبيه التركيبي والتعبيري، الأمر الذي دفع بالتشكيل النحتي نحو تحقيق أقصى إمكانياته التركيبية، كما فتح الباب أمام هذا التشكيل النحتي ليفضي بما يكنه من طاقات وإمكانيات تعبيرية لم تكن متاحة قبل الاستفادة المتزايدة من توظيف اللون في الأعمال النحتية.
وحول أبعاد الأسلوب التوظيفي للون رأى الصهبي أنه إذا تأملنا أغلب التشكيلات النحتية المعاصرة الملونة، إذ كثيرا ما نعتقد للوهلة الأولى أن كل منها قد تم صياغته من خامة معينة، غير أننا من خلال التدقيق المستمر والمتأمل في العمل النحتي نكتشف وهم هذا الاعتقاد، حتي يتبين لنا أن العمل النحتي الذي ننظر إليه مصنوع من خامة أخرى مختلفة تماما عن توقعاتنا السابقة، ويرجع ذلك الخداع البصري أساسًا إلى اللون المستخدم أو الخامة الملونة المستعملة، حيث يغير اللون من الصفات الظاهرية للخامة، ويجعلها متباينة عن الأصل الذي كانت عليه إذ يصبح اللون هو الملمس، مما ييسر على النحات بإتباعه لهذا الأسلوب التوظيفي للون أن يصيغ تشكيلاته المبتكرة بحرية تامة دون التقيد بالصفات الظاهرية الأصلية للخامة المستخدمة، مستفيدا من هذا الأسلوب التوظيفي للون في تجريد الشكل من صفات الخامة وتحريره منها بصفة تكاد تكون تامة، الأمر الذي لم يكن بمقدوره أن يتحقق في تاريخ الفن كله لولا اكتشاف أثر ظاهرة توظيف اللون والاستفادة منها في توظيف اللون بالتشكيلات التحتية المعاصرة.