مسيرة بوتفليقة بين نضال ومعارك من الثورة إلى الاستقالة

الرئيس الجزائري الذي أعلن رسميا استقالته بعد موجة احتجاجات غير مسبوقة على حكمه ونظامه يمتلك سجلا حافلا بالمعارك الميدانية والسياسية أفسدته موجة فساد تغلغل في مفاصل الدولة بعد أن وهنت صحّته.

بوتفليقة من المناضلين في حرب 1954-1962
بوتفليقة تولى حقيبة الشباب ثم الخارجية عقب الاستقلال
بوتفليقة كان من الوجوه الرئيسية التي وقفت وراء حركة عدم الانحياز
استقبل تشي غيفارا وفاوض كارلوس على إطلاق رهائن
كان أول من منح عرفات فرصة لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة

الجزائر - رسخ الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الذي استقال اليوم الثلاثاء بعد أن قاوم الاحتجاجات ضده لأسابيع، نفسه من خلال وضع نهاية لحرب أهلية مدمرة، لكن الوضع تغير بسبب الفساد والركود الاقتصادي.

ولم يظهر بوتفليقة (82 عاما)، أحد أبطال حرب التحرير في مناسبة علنية إلا فيما ندر منذ أن أصيب بجلطة عام 2013.

وكان بوتفليقة قد حاول صد موجة المعارضة التي بدأت في 22 فبراير/شباط من خلال التراجع عن قراره السعي لنيل ولاية خامسة في رئاسة البلاد، لكنه لم يقل متى سيترك الحكم مما أثار غضب المحتجين.

وكان بوتفليقة من المناضلين في حرب 1954-1962 التي وضعت نهاية للحكم الاستعماري الفرنسي ثم أصبح أول وزير للخارجية عقب الاستقلال وأحد الوجوه الرئيسية التي وقفت وراء حركة عدم الانحياز ومنحت أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية صوتا على الساحة العالمية.

وناصر بوتفليقة الدول التي ظهرت في أعقاب العصر الاستعماري وتحدى ما اعتبرها هيمنة من جانب الولايات المتحدة وساعد في جعل بلده مهدا للتوجهات المثالية في ستينات القرن العشرين.

واستقبل بوتفليقة تشي غيفارا وتلقى نلسون مانديلا في شبابه أول تدريب عسكري له في الجزائر. ومنحت البلاد حق اللجوء للناشط والكاتب الأميركي إلدريدج كليفر الذي كان من أوائل قادة حزب الفهود السود.

واستقبل كليفر في البيت الآمن الذي كان يقيم فيه في العاصمة الجزائرية الناشط الأميركي تيموثي ليري المدافع عن تعاطي المخدرات في العلاج النفسي وأحد قيادات حركة الثقافة المضادة في الولايات المتحدة.

ودعا بوتفليقة بصفته رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة ياسر عرفات لإلقاء خطاب أمام المنظمة الدولية في 1974 في خطوة تاريخية صوب الاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية.

إلا أنه بنهاية سبعينات القرن الماضي انقلبت الأمور على بوتفليقة في الداخل وسافر للعيش خارج البلاد. ثم عاد إلى الحياة العامة خلال صراع مع متشددين إسلاميين سقط فيه ما يقدر نحو 200 ألف قتيل.

وانتخب بوتفليقة رئيسا للمرة الأولى عام 1999 وتفاوض على هدنة لإنهاء القتال وانتزع السلطة من المؤسسة الحاكمة التي تكتنفها السرية وترتكز على الجيش.

وبفضل إيرادات النفط والغاز تحسنت الأوضاع في الجزائر وعمها قدر أكبر من السلام وأصبحت أكثر ثراء، لكن لا يزال الفساد والركود السياسي والاقتصادي متفشيا فيها في منطقة أدت الانتفاضات الشعبية بها إلى تغيير نظم الحكم في دول مجاورة.

وبفضل الحماية التي وفرتها احتياطيات النقد الأجنبي الضخمة المتاحة لها وتخوف شعبها من الاضطرابات الشديدة بعد الحرب الأهلية تجنبت الجزائر انتفاضات الربيع العربي التي أطاحت بقادة دول أخرى في المنطقة في العام 2011.

غير أن الاحتجاجات على سوء مستويات المعيشة ونقص فرص العمل والخدمات أصبحت شائعة ويتطلع المستثمرون الأجانب لتطبيق إصلاحات اقتصادية تقضي على البيروقراطية التي تعوق النشاط في كثير من الأحيان.

ويقول بعض المؤرخين إن بوتفليقة ولد في تلمسان بغرب الجزائر غير أن آخرين يقولون إن مدينة وجدة المغربية على الجانب الآخر من الحدود هي مسقط رأسه.

وفي سن التاسعة عشرة انضم بوتفليقة للثورة على الحكم الفرنسي تحت رعاية هواري بومدين القائد الثوري الذي أصبح رئيسا للجزائر في ما بعد.

وبعد الاستقلال أصبح بوتفليقة وزيرا للشباب والسياحة وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وفي العام التالي عُين وزيرا للخارجية.

وأصبح بوتفليقة بملابسه الأنيقة والنظارات الشمسية التي راجت في ستينات القرن الماضي متحدثا باسم الدول التي خرجت للنور بعد انتهاء الحكم الاستعماري. ومنحته السمعة التي اكتسبتها الجزائر من هزيمة فرنسا سلطة إضافية.

وطالب بوتفليقة بأن تحصل الصين الشيوعية على مقعد في الأمم المتحدة. وندد بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وأثارت دعوة عرفات لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة عاصفة، فقبل عامين فقط من ذلك الحدث احتجز مسلحون فلسطينيون أعضاء في الفريق الرياضي الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ رهائن وقتلوهم.

وشاهد بوتفليقة من منصة الرئاسة عرفات وهو يخاطب الجمعية العامة في نيويورك متمنطقا بجراب مسدس.

وعندما خطف إليتش راميريز سانشيز المعروف بكارلوس الثعلب والمؤيد للقضية الفلسطينية وزراء نفط من اجتماع لأوبك في فيينا عام 1975 طالب بنقله جوا مع الرهائن إلى مدينة الجزائر. والتقطت الكاميرات لقطات لبوتفليقة وهو يعانق كارلوس في المطار قبل أن يجلس الاثنان للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن.

وعندما توفي بومدين عام 1978 فقد بوتفليقة مرشده وتم عزله من منصب وزير الخارجية وبدأ التحقيق معه في مخالفات مالية. وقال بوتفليقة إن هذه الاتهامات ملفقة في إطار مؤامرة سياسية.

وغادر الجزائر في أوائل الثمانينات واستقر في دبي وعاد إلى وطنه في 1987 لكنه عزف عن الأضواء ورفض عروضا لشغل مناصب حكومية.

وفي الوقت نفسه كانت الأوضاع قد بدأت تتدهور في الجزائر. وألغت الحكومة المدعومة من المؤسسة العسكرية انتخابات برلمانية في 1992 كان الإسلاميون على وشك الفوز فيها. وفيما أعقب ذلك من صراع وقعت مذابح راح ضحيتها سكان قرى بكاملها وتعرض المدنيون في شوارع المدن للذبح.

وبدعم من الجيش انتخب بوتفليقة رئيسا للبلاد في 1999 بعد أن تعهد بوقف القتال. وفي مواجهة معارضة ضارية من مؤسسة الحكم أصدر عفوا عن المتشددين الذين ألقوا السلاح. وانحسر العنف بصورة كبيرة.

وأعيد انتخابه في 2004 ثم في 2009 رغم أن خصومه قالوا إن الانتخابات شهدت تزويرا. ومن خلال سلسلة من المعارك الضارية على النفوذ مع قوى الأمن خلف الكواليس أصبح بوتفليقة مع بداية فترة ولايته الثالثة أقوى رئيس تشهده الجزائر على مدار 30 عاما.

وفي العام الماضي شدد قبضته على السلطة بعزل أكثر من عشرة من كبار قيادات الجيش.

ولا يعرف شيء يذكر عن حياته الخاصة، فلا تذكر السجلات الرسمية له زوجة رغم أن البعض يقولون إنه تزوج عام 1990. وعاش بوتفليقة مع والدته منصورية في شقة بمدينة الجزائر حيث اعتادت أن تعد له الطعام.

وكبر سن بوتفليقة وحل به المرض. وأجرى أطباء فرنسيون جراحة له في 2005 لعلاج ما وصفه مسؤولون بقرحة في المعدة. وجاء في برقيات دبلوماسية أميركية مسربة أنه مصاب بالسرطان. ونال منه الضعف بعد أن توفيت والدته في 2009.

وقال بوتفليقة في خطاب ألقاه في سطيف بشرق الجزائر في مايو/أيار عام 2012 إن الوقت قد حان لأن يسلم جيله الراية لقيادات جديدة.

وبعد شهور وفي أوائل 2013 أصيب بجلطة دخل على إثرها مستشفى في باريس لمدة ثلاثة أشهر. ولم يشاهد علانية إلا قليلا منذ ذلك الحين بعد عودته للجزائر للنقاهة.