مشاهد تشكيلية في شعر ثريا العريض

الشاعرة السعودية رسمت بعض اللوحات أو بعض الرسومات داخل الديوان، فزاد يقيني بتتبع تلك الظاهرة التشكيلية في شعرها.
لحظات معا
التماعات البحار

عندما تكون هناك امرأة ممنوعة من الكلام وغير قادرة على الصمت، فإن أبسط شيء تلجأ إليه هو الرسم بالكلمات، حيث تستطيع أن تهرب من تلك الرقابة الصارمة، والنظرة الجارحة، والشك في إنسانيتها، أو في رقيها إلى عالم الإنسان.
وقد وجدت كثيرا من المشاهد التشكيلية بالكلمات في شعر عدد من شواعرنا المجيدات، ومنهن شعر د. ثريا العريض في محاولة منها لرسم عالمها التشكيلي بالكلمات وليس بالألوان، وإن كانت الألوان تؤدي دورها أيضا في عالم الشعر والتشكيل.
وحين اطلعت على محتويات ديوانها وجدت أن الشاعرة رسامة أو فنانة تشكيلية بالفعل، فقد رسمت بعض اللوحات أو بعض الرسومات داخل الديوان، فزاد يقيني بتتبع تلك الظاهرة التشكيلية في شعرها.
إنها تقول في مقدمة ديوانها التي تحمل عنوان "لحظات معا": "حروف ملونة الشفافية تعابثني، تخاتلني، وتغتالني". وهي تؤكد بذلك على أهمية اللون والتشكيل البصري في مسيرتها الشعرية.
أما عندما تقول في مقدمتها أيضا "تكسرتْ كل مرايا وجودي لتُريني وجهي في التماعات شظاياها" فنحن أمام صورة بصرية أيضا حيث تحوَّل وجه الشاعرة إلى بورتريه تراه أمامها، بإحساس آخر في ظل التماعات الشظايا، ولنا أن نتخيل هذا البورتريه المرسوم للوجه والتماعات الشظايا تنعكس عليه، وكأننا نرى لعبة الأضواء والظلال، أو النور والظل وهذه الثنائية بمفهوم المدرسة التأثيرية، في جوانب عديدة من ذلك البورتريه المتميز.
لذا نرى أن كلمة "ظلال" التي تقودنا إلى "ظلام" وكلمة "التماعات" التي تقودنا إلى "الأضواء" تتكرر في شعرها مثل تساؤلها: "العمرُ رقصُ ظلال"، و"حوارات الظلام"، وكأننا نرى أناسا في اللوحة المسندية يتحاورون ولكن في الظلام، فلا نرى منهم شيئا محددا أو واضحا، فهم أشباح في لوحة يسود فيها اللون الأسود، ولكننا نسمع أصواتهم في اللوحة، أو هم كالقطة السوداء في غرفة مظلمة، نسمع نونوتَها فقط.
أما قولها "تبقى التماعاتُ البحار" فيعطينا صورة ضوئية لتلك الالتماعات نضييء بها المشهد الظلامي أو اللوحة السوداء، ولعلنا نرى الآن انعكاس ضوء الشمس على صفحة البحر، حيث تبرز تلك الالتماعات فتضيء المشهد بعض الشيء.
كلمة "الرسم" وما يشتق عنها تتكرر أيضا في قصائد الشاعرة مثل قولها:
لترتسمَ النفحاتُ على وجلٍ بغناي
وقولها: وسم أبي، والوسم هو السمة أو العلامة المرئية. وفي قصيدة "دنيا" نرى أن "دنيا وسمُها وجه يبادلني غيابه".
ونرى "المحو" في قولها "نمحو اسمها" والمحو هو إزالة شيء مرسوم، أو إزالة اسم أو شيء مكتوب، أو أثر على الرمال، والمحو أيضا سواد في القمر. وسواد القمر يعطينا المشهد التأثيري ويعكس لعبة الظلال والأضواء معا.
وفي قولها "كل هذي الوجوه .. أنا" تضعنا أمام بورتريه متعدد الوجوه تفضي إلى  أنا المتكلم أو ضمير الشاعرة، وكأننا أمام لوحة كبيرة المقاس مثل لوحة جورنيكا لبيكاسو التي رسمها عن الحرب الأهلية الإسبانية عام 1937، وفي تلك اللوحة سنرى وجوها متعددة ورموزا ثرية، وليس كلها وجوها بشرية ولكن هناك الثور والحمار والإنسان المقتول والأم الثكلى والطفل المفجوع وغير ذلك من وجوه تكعيبية. ولم يقصد بها بيكاسو عمل بورتريهات لشخصيات تلك اللوحة التكعيبية. ولكن الثراء الذي تمتاز به تلك اللوحة، ينفتح على الكثير من الدلالات والرموز، وإذا كان بيكاسو قصد أن كل الوجوه التكعيبية في لوحته تعني الإنسان والحيوان في حالات شتى ومختلفة، فقد أوجزت شاعرتنا القضية كلها في أربع كلمات هي "كل هذي الوجوهِ .. أنا".
ولنكمل القراءة:
"كل هذه الوجوه .. أنا
التي الحلم بأعماقها لا يموت
والتي دفننت حلمَها في البيوت
والتي تتأرجحُ 
بين الحقيقة والحلمِ
دون زمن"
ولعلنا نقترب أكثر من مغزى لوحة بيكاسو حين تقول الشاعرة:
"مَنْ يعاتبُ مَنْ
مَن يحاربُ مَن
كلّهن أنا!"
ويقوى لدينا عمق المأساة البشرية التي جسدها بيكاسو في لوحته، وجسدتها ثريا العريض في قولها:
مَنْ يحاسبُ مَن؟
مَن يعاقبُ من؟
ولأي جريمة؟
الصراخ
السكوت 
قبول الهزيمة ..
.. الخ النص"
وأنا أدرك أن القضية التي تعالجها الشاعرة في قصيدتها غير القضية التي عالجها بيكاسو في لوحته الشهيرة، فثريا العريض تلامس قضايا المرأة المقموعة في قصيدتها، وبيكاسو يلامس فكرة الديكتاتورية المطلقة التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية عام 1937، ولكني – في الحقيقة - لا أجد فروقا كثيرة بين القمع والديكتاتورية والاستبداد، فكلها تؤدي إلى نتائج كارثية شديدة الوقع على الإنسان بعامة، وليس المرأة فحسب.
النقوش
ومن لوحات الرعب والإبادة والصراخ والسكوت والهزيمة، إلى لوحات التراث الشعبي أو العادات والتقاليد الشعبية مثل النقش بالحناء حيث تقول الشاعرة عن الأم، في إحدى لوحاتها الشعبية:
ليلا تناديني
لِتنقشَ راحة الكفّين بالحنّاء
والنقش نوع من أنواع الرسوم التي تتكئ عليها الشاعرة، ويعرَّف النقش بأنه تصميم على سطح صلب ومسطح عادة، من خلال القيام بالحفر أو النحت عليه. وتتنوع نقوش الحنّاء ما بين نقوش متوسطة الطول، أي تصل إلى المعصم، ونقوش على الذراع فقط ونقوش على الأيدي والأرجل.
ونقشُ الحنّاء من العادات العربية الأصيلة التي اعتاد على اتباعها الكثير من النساء للتزين في الأعياد والمناسبات المختلفة كالأعراس وحفلات الزفاف. وتستخدم الحنّاء لتزيين اليدين والقدمين، كما تستخدم لرسم بعض النقوش الجذابة والمثيرة في مناطق متفرقة من الجسم للعروس.
أيضا النقوش تستخدم لتخليد الإنسان، مثلما نرى النقوش الفرعونية على الأعمدة والأحجار، ولكن الشاعرة تقول:
هيرودُ منذورٌ لنِسيان الفناء
ما خلَّدته نقوشُ لمعٍ في الرداء
ولا بريق الصولجان
فإلى جانب النقوش نرى اللمع الذي تحدثنا عنه من قبل في قول الشاعرة "التماعات البحار". وإذا تأملنا النقش نفسه سنجده غالبا ذا ألوان قاتمة مثل البني الكستنائي أو البني المحمَر أو الأسود، أو درجات أخرى من لون الحنّاء، ولكن الشاعرة أعطت لمعانا لهذا النقش تأكيدا على لعبتها التأثيرية، فإذا بها ترسم لوحة عبقرية للرداء العربي الذي يحتوي على تلك النقوش اللامعة، على الرغم من أنها تنفي هذه النقوش اللامعة عن رداء هيرود الذي قدم رأس المعمدان هدية لسالومي.
وتتوسل الشاعرة إلى أمها أن تدعو كفّها بلا نقش – رغم ما عرفناه من قيمة النقش للمرأة العربية وأهميته وجمالياته – ولكن تتوسل للأم قائلة:
أمي ..
دعي كفّي بلا نقشٍ وخليني
حلمي أنا الإبحار
لا نقشا على كفي 
ولا اسما بمولِده يُدان.
هنا تعلن الشاعرة رفضها للتقاليد والأعراف المتوارثة، وتثور عليها، فقد أحست أن تلك العادات والتقاليد تكبلنا وتحد من انطلاقنا وإبحارنا (حلمي أنا الإبحار) والأم ترمز هنا إلى الأمة العربية التي لا تزال ترفل في تقاليد وعادات بالية، تشدها إلى الوراء ولا تمنحها قوة الانطلاق أو الإبحار نحو آفاق المستقبل.
وتلح الشاعرة على رمزية "النقش" فتقول:
أنضو تفاصيلي وأسماءَ النساء
على الشواطئ والقفار
نقشا تجادله الرياح على رمال الإمتهان
ويلوح وجه الأم ثانية، ولكن ترسمه الشاعرة في بورتريه من النشيج والحنان، فتقول:
يا وجه أمي
في نشيج حنانها
لقد شاهدت مئات البورتريهات لفنانين عالميين من أمثال دافنشي ورامبرانت وفان جوخ وبيكاسو ومحمود سعيد وحسن سليمان وغيرهم، ولكني لم أر بورتريها يتشح بنشيج الحنان. في أربع كلمات فقط تقدم لنا ثريا العريض بورتريها جديدا لوجه الأم في قولها السابق: يا وجه أمي / في نشيج حنانها.
كيف لرسام ما، مهما كانت عبقريته في الرسم والتلوين والتعبير والتأثير أن يرسم وجها بشريا مكسوا بنشيج الحنان، مثل وجه تلك الأم في قصيدة ثريا العريض؟
وتؤكد الشاعرة مرة أخرى على رفضها لمنطق النقش الذي يحد من انطلاقاتها ويشدها لجذور عقيمة، في قولها:
حلمي أنا كونٌ تراقصه الحياة
لا نقشَ يحصره
ولا اسمًا هواه
وكأن النقش العربي أو النقش بالحنّاء هنا هو الخيوط أو الخطوط أو العالم القديم العقيم المتوارث الموشومة به أمتنا العربية على ذراعها أو على عقلها فلا يدعها للإبحار إلى عالم جديد نراقص فيه الحياة ونحاورها كي ننطلق إلى الأمام.
ظلال الزوايا المعتمة
ومن قضية "النقش" إلى قضية "الظل" الذي يرقى إلى مفهوم الشاعرة للنقش، وكأن الظلَّ والنقشَ وجهان لعملة واحدة، هي قضية المرأة وتحررها في عالمنا العربي. تقول الشاعرة في قصيدة "الرواية":
وأنتَ تطاردُ ظلا يماريك حقَّك في البوح؟
وكما نعرف فإن فن الرسم يعتمد على الخطوط والزوايا والألوان وهندسة اللوحة، وشاعرتنا يبدو أنها دارسة لفن هندسة اللوحة المسندية، لذا نلاحظ اعتمادها على "الزوايا" في قولها:
"كل الفضاءاتِ عند خطاكِ استحالتْ زوايا
وتجفل بين الزوايا خطاكِ
تحار
وتلتاثُ في هاجس العنكبوت"
لوحة متكاملة الأركان والزوايا، بطلتها الخطى التي تجفل عند تلك الزوايا، ومن خلال رؤية تشكيلية أرى أن تلك اللوحة هي لوحة تكعيبية، تعتمد على المثلثات المختلفة التي تشكل عالم الزوايا الحادة والقائمة والمنفرجة، ففضاء اللوحة هنا هو فضاء الزوايا المعتمة التي تعشش فيها خيوط العنكبوت. 
ولعلنا نتذكر مرة أخرى جورنيكا بيكاسو ذات الأبعاد 3 أمتار و49 سم × 7 أمتار و77 سم والتي تتميز بزواياها المتنوعة من خلال فن التكعيب أو التكعيبية والتي استطاعت أن تعلن عن مآسي الإنسان والكوارث المحيطة به.
وتعلن الشاعرة عن انطفاء اللمعان الذي سبق أن تغنت به في "التماعات البحار" وكان يشكل ومضة أمل أو ومضة حلم أو ومضة في العيون، ولكنه سرعان ما خبا وانطفا حيث تقول: 
"رغبةٌ وانطفا لمعُها الآن
واستسلمت للغبار" 
وبعد هذا الانطفاء تتحول لوحات الشاعرة إلى السواد التام الذي يعلوه الغبار فلا نرى الطريق واضحة، ولا نرى الأمل أو الحلم أو المستقبل، فيعلو صوت الهاوية، ولا وجود للنجمة الغافرة، وليس أمامنا سوى التخبط في الكوابيس في منحنى اللوعة العاتية.
ولكن بريق الأمل يعود فيخاتلها من جديد، وهكذا هو الإنسان يعيش بين أمل ويأس، بين حب وبغض، بين حياة وموت، ولكنه على أية حال بريق ضعيف أو بريق حذر لا يرقى إلى اللمعان الذي كان عليه البحر في التماعاته، حيث نرى في قصيدة "دون اسم" امرأة: 
رأت في سراب الصحراء بريقَ وجودٍ حنونٍ بوعد وطن
أمل واهٍ في سراب الصحراء، ولكنه لى أية حال "أمل" موشى بالتماع الخيال.
هذا الأمل الضعيف أو الواهي يرقى لمستوى "النمنمة" في مجال التشكيل، وليس لمستوى "اللمعان" أو المساحات الضوئية الشاسعة"، ومن هنا رأينا صعود "النمنمات" في شعر ثريا العريض، في مثل قولها عن امرأة القصيدة:
"فمن سيعيد صياغة أحلامها
يُنمنمها في المكان؟
الزمان؟"
ونمْنمَ الشيءَ: زَخْرَفَهُ، أو زَيَّنَهُ، أو نَقَشَهُ دَقِيقاً، ونمنم رسمًا: أي رسمَه بالنُّقط الصَّغيرة، ونمنم الكتابَ: أي صَغّر خطّه. ونحن في جميع الأحوال في مجال التشكيل البصري الذي يرقى لفن الأرابيسك، وهو فن إسلامي بالدرجة الأولى. 
كما رأينا تلك المرأة "مرسومة بغبار القوافل".
ويبدو أن فكرة الفن والفنان تلح على الشاعرة فتفرد قصيدة بعنوان "الفنان" توضح فيها علاقة هذا الفنان بالمرأة، تقول فيها:
كان يجمعُ أصدافه هانئا
يرصِّعها في القلائد
يطرِّزها في الوسائد
ينظمُها في القصائد
يجمِّعُها قطعةً قطعة
يشيِّد منها خيال امرأة
كان مكتفيا لاهيا
يهيمُ بشطآن أحلامِه
يلوِّن أصدافَ أيامِه
غريب المكان
غريب الزمان
يهوم منتشيا راضيا
يخالُ السعادةَ لمعتَها المطفأة
حتى بيومٍ تراءت له
وتسمَّر 
حين رأى
روعة اللؤلؤة.
هذه هي نظرة الفنان للأشياء وللكون من حوله، قبل أن يلتقي حواء، وقبل أن يرى روعة اللؤلؤة، وحين رآها تسمّر في مكانه وهو في موقف الدهشة والفرحة والحب الكبير.
هكذا مررت لنا ثريا العريض موقف الفنان من العالم ومن ذاته ومن المرأة من خلال تلك القصيدة الرائعة الرائقة المكتفية بذاتها شعرا وإبداعا وبوحا وألقا.
ويبدو أن فكرة البورتريه الشعري تلح على الشاعرة فتقول:
"كان وجهك .. وجهي
وعيناك عيني"
ثم تسأل: 
أترسم وجهي
ملامحه تترامى
على الأفق باحثة عن وطن؟
ولكن الحبيب ينسى ملامح وجهه فكيف سيرسم ملامح وجه الحبيبة، تقول:
ووجهك ينسى تقاسيمه
في وجيب الغياب
إن تأثر الشاعرة ثريا العريض بعالم الفن التشكيلي ومفرداته ومدارسه المختلفة يتضج جليا في أعمالها الشعرية، ومن خلال ما طرحناه وجدنا أن التأثيرية والتكعيبية هم الأكثر تأثيرا، ولعل أعمالا أخرى لها تفصح عن المزيد من تأثير الفن التشكيلي في شعرها، وهو ما يحقق مقولة "إن الشعر يقع في منطقة وسطى بين الموسيقى والتشكيل".