"مغلق".. كتاب مفتوح على عالم مرضى السرطان

كل شيء حولها أصبح مغلقا، ولم تعد حواسها تعمل، وأغلقت الدنيا أبوابها ثم أغلقت هي على نفسها ألف باب وباب. 
قررت أن أبقى سعيدة، رغم أنف الظروف ورغم أنف الألم
الكتابة عن الألم من أصعب أنواع الكتابة

الكتابة عن الألم من أصعب أنواع الكتابة برأيي، خاصة عندما يكون الألم الذي يُكتب عنه هو ألم الكاتب نفسه، فمن منا لم يمر بألم سواء كان نفسيا أو جسديا أو لفراق حبيب أو ألم عام عن أوضاع سيئة.
"مع سبق الإصرار قررت أن أبقى سعيدة، رغم أنف الظروف ورغم أنف الألم.. أنا على قيد السعادة".. تأملت كثيرا هذه الجملة العبقرية وأنا اقرأ كتاب "مغلق" للكاتبة الإماراتية هند الخالدي، فالسعادة هي قرار دائما رغم أي معاناة وأي ظروف نمر بها.
الكتاب مختلف بكل ما تعني الكلمة، فطريقة عرض فصوله، وغلافه وصياغته بالعامية وتعبيرات الكاتبة كلها جعلت الكتاب مختلفا، وتجعل القارئ عندما يقرأ الكتاب ينسى أنه يقرأ كتابا ويشعر أنه في جلسة دردشة مع الكاتبة، بل ويرد عليها وهو يقرأ كأنها معه.
والاختلاف جاء من البداية، حيث تعرض قبل الإهداء تفسير لمصممة الغلاف، الفنانة خولة شريف الحواي، لاختيار عناصر وألوان الغلاف، وهي أول مرة - على حد معلوماتي - يتم وضع شرح للغلاف في كتاب على لسان المصممة، وذلك لتجسيد معاناة المؤلفة مع المرض.
ثم تعرض المؤلفة لبطاقة أطلقت عليها "بطاقة حياتية" وهي بديل للبطاقة الشخصية، ووضعت بنود البطاقة بدقة شديدة، فأمام الوظيفة كتبت "أم"، وأمام تاريخ الميلاد كتبت "اللحظة التي تعلمت فيها معنى الحب الحقيقي"، وأمام التشخيص الطبي (وهو البند الأهم) كتبت "مريضة سرطان"، وأمام الأملاك كتبت "عائلة محبة، ابنة جميلة، أصدقاء رائعون".

كتاب مفتوح على عالم يجهله الكثيرون، تعرفنا فيه على تفاصيل ومشاعر خاصة جدا لمريضة سرطان هي في نفس الوقت أديبة، وهذا من حسن حظنا

وتعتقد الكاتبة – وأعتقد معها - أنها نادرة ومميزة، إلا أن اعتقادها بسبب إصابتها بمرض نادر لا يصيب كثيرا من الناس، بينما اعتقادي لأنها استطاعت نقل معاناتها لنا بكل هذه البساطة والتلقائية.
توقفت كثيرا أمام جملة تحدثت عنها الخالدي وهي "تاريخ صلاحية الإنسان المريض"، فهل يمكن أن نضع تاريخ صلاحية للإنسان؟ جملة أوجعتني جدا، وألقت بظلالها عليّ وأرجعت إليّ كثيرا من الذكريات المؤلمة لي ولأحبائي، وأوافقها الرأي أن المرض لا يمكن أبدا أن يكتب تاريخ صلاحية الإنسان، فالإنسان أقوى من المرض بطموحاته وعطائه وحبه لمن حوله.
الكتاب كما تقول هند هو مجموعة من الأفكار والمشاعر التي مرت بها خلال إصابتها وعلاجها، وكان لها بمثابة ملاذ اختبأت به من نظرات الشفقة والدموع وأنها حالة ميئوس منها.
وخلال هذا الملاذ عرضت هند لكثير من المشاعر وألقت بظلالها على كثير من العادات الاجتماعية الخاصة بالمريض ومن حوله مثل اهتمام الناس المبالغ فيه والذي قد يسبب الضيق للمريض ويضطره للابتعاد، وكيف أن الجميع يصبحون أطباء يقدمون الوصفات، الأدوية، النصائح، تجاربهم الحياتية تحت عنوان "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، وطبعا المريض يحاول إرضاء من حوله، ولكن كما تقول هند "إرضاء الناس ليس مهمة سهلة، وليست مهمة أيضا، أن تكون راضيا عن نفسك هذا هو الأهم".
وتضيف "إن التداوي بالعطاء والمحبة وصفة سحرية لشفاء الروح، واعتلال الجسد بشرط أن تتبع الإرشادات المرفقة وهي أن تعطي وتحب دون مقابل".
وتحكي الخالدي تفاصيل دقيقية لملاحظات قلما يلاحظها مريض أثناء مرضه، ويرصدها ويكتب عنها مثل الممرضة ذات الأوشام التي تسجل عليها تواريخ مهمة في حياتها، وحجرتها والأجهزة الدقيقة التي حولها، وغيرها.
كما تعرض هند لنا شكلا جديدا من أشكال الغربة، وهو مصطلح من ضمن اهتماماتي في الكتابة بشكل كبير، فهي تحب السفر ولكن جاءت رحلاتها للعلاج بدلا من السياحة، فعاشت غربة جديدة وغريبة من نوعها، وأصبحت بمفردها مع مرضها كأنها حبيسة مع عدو أو قاتل شرس أو وحش في مكان واحد، هذا ما شعرت به عندما عرفت أن مرضها مزمن وسيقى معها للأبد.
تقول هند أنها أطلقت اسم "مغلق" على الكتاب لأنه بعد تشخيص مرضها أصبح كل شيء حولها مغلقا، ولم يعد حواسها تعمل، وأغلقت الدنيا أبوابها ثم أغلقت هي على نفسها ألف باب وباب. 
وبعد قراءتي للكتاب رأيت أنه كتاب مفتوح على عالم يجهله الكثيرون، تعرفنا فيه على تفاصيل ومشاعر خاصة جدا لمريضة سرطان هي في نفس الوقت أديبة، وهذا من حسن حظنا، لأن هناك آلاف من البشر مرضى بالسرطان، ولكن ليس لديهم الملكة للتعبير عن معاناتهم لنحصل على كتاب مميز مثل "مغلق".