ملامح الانفراج ومسارات الحوار بين اربيل وبغداد

يمكن للحوار بين بغداد واربيل أن يخرج من حلقته المفرغة ويتحرك في مسارات واضحة ومعبّدة، نحو افاق مفتوحة فيما لو استند إلى معطيات عملية وواقعية وابرزها الدستور.

خلال الشهور الخمسة الماضية، زار رئيس اقليم كردستان العراق نيجرفان البارزاني بغداد ثلاث مرات، واجرى لقاءات ومباحثات طويلة ومعمقة مع كبار المسؤولين في الحكومة الاتحادية والزعامات السياسية المختلفة، من اجل التوصل الى حلول ومعالجات للقضايا الخلافية بين بغداد واربيل، والمتمثلة بملفات مالية وامنية وسياسية، في مقدمتها رواتب موظفي الاقليم، واستحقاقات الاخير، والالتزامات المترتبة عليه، وسبل استئناف تصدير النفط من الاقليم عبر الاراضي التركية بعد توقفه منذ اذار/مارس من العام الماضي على ضوء قرارات صادرة من غرفة التحكيم الدولية في العاصمة الفرنسية باريس.

والى جانب زيارات رئيس الاقليم، فان رئيس حكومة الاقليم مسرور البارزاني، زار هو الاخر بغداد اكثر من مرة خلال الشهور القلائل الماضية، وكان اخرها زيارته في الثلاثين من شهر أيار/مايو الماضي، التي التقى خلالها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ومختلف الزعامات والشخصيات السياسية الفاعلة والمؤثرة من مختلف التوجهات.

وكذلك فان تواصل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني مع القيادات في بغداد لم ينقطع، سواء بصورة مباشرة او عبر مستشاريه والمقربين منه.

هذا الحراك النوعي، أشر الى وجود توجهات جادة لحلحة الامور واخراجها من الدائرة المفرغة، رغم ان بعض القرارات القضائية وتفاصيل الاجراءات الفنية، تبدو على قدر كبير من التعقيد والتشابك، وبالتالي الانطلاق بمسارات جديدة بعد عقود من التقاطعات والصدامات والخلافات والاختلافات. حيث مرت العلاقات بين السلطات المركزية الحاكمة في بغداد من جهة، والقوى السياسية الكردية في شمال العراق من جهة أخرى، بالكثير من المحطات والمنعطفات الحرجة والخطيرة، التي طغت وهيمنت عليها الصراعات والمواجهات العسكرية المسلحة أكثر من اي شيء اخر، والتي حكمتها واثرت عليها ووجهتها بمقدار كبير، الاجندات والمصالح والحسابات الاقليمية والدولية، التي كانت في اغلب الاحيان تتقاطع مع الأجندات والمصالح والحسابات الداخلية.

ولا شك ان مشهد الصراع والمواجهة بين الطرفين، اخذ منحى مختلفا إلى حد ما بعد حرب الخليج الثانية والانتفاضة الشعبية في ربيع عام 1991، حيث تهيأت الظروف الملائمة للاكراد لكي يؤسسوا لهم وجودا سياسيا مستقلا بقدر معين، بعيدا عن هيمنة وسطوة المركز الدموية الاجرامية في حينه، وقريبا جدا من مجمل العمل السياسي المعارض لنظام صدام، بشتى عناوينه ومسمياته وتوجهاته، وبالتالي ليكون الاقليم الكردي احد ابرز ساحات النشاط السياسي والعسكري والاعلامي العلني المعارض، حيث مثل ذلك تحولا نوعيا مهما بالنسبة للمعارضة العراقية عموما، والقوى الكردية على وجه الخصوص.

وما ان حلّ عام 2003، وتمت الاطاحة بنظام صدام، حتى دخل العراق مرحلة بات فيها الاكراد شركاء حقيقيين وفاعلين ومؤثرين في الحكم وادارة شؤون البلاد، وطويت صفحات الصراعات العسكرية المسلحة، لتنفتح صفحات الصراعات السياسية بين الاكراد وشركائهم في الوطن من السنة والشيعة، والتي كانت في واقع الامر جزءا من عموم مشهد الصراعات السياسية المزمنة والمتواصلة بين الجميع. بيد ان المختلف فيها، كان في جانب منه مرتبطا بتراكمات الماضي الطويل.

ولعل ضعف الثقة، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها "ازمة الثقة"، كان العامل الابرز في بقاء الكثير من الملفات مفتوحة، والقضايا عالقة، والخطوط متشابكة، والعقد مستعصية بين المركز والاقليم، مما ساهم في تكريس مظاهر "التغالب" والاستقواء بهذا الطرف الاقليمي-الدولي أو ذاك لفرض الأمر الواقع، وتحقيق أكبر قدر من الامتيازات والمكاسب.

ومن المهم الاشارة إلى حقيقة أن الإبقاء على نفس آليات الحوار وأدوات الصراع السياسي، يعني فيما يعنيه استمرار الدوران في حلقة مفرغة، وبقاء الامور متأرجحة بين فترات هدوء وتهدئة، وفترات تصعيد وتأزيم، قد تؤثر بها- سلبا أو ايجابا- ظروف البلد الداخلية، وظروف المحيط الاقليمي والفضاء الدولي إلى حد ما.

يمكن للحوار بين بغداد واربيل أن يخرج من حلقته المفرغة ويتحرك في مسارات واضحة ومعبّدة، نحو افاق مفتوحة فيما لو استند إلى معطيات عملية وواقعية، لعل ابرزها، الدستور، الذي يعد الوثيقة الاهم للعقد السياسي والاجتماعي الذي تبانى عليه العراقيون، وهم يؤسسون لدولتهم الرشيدة ونظامهم الصالح، بعد تأريخ طويل من ويلات ومآسي الانظمة والحكومات الديكتاتورية الاستبدادية الظالمة. هذا الدستور الذي كان للاغلبية الشيعية والمكون الكردي الدور الاكبر في ايجاده. لا شك أن فيه الكثير من المخارج والحلول والمعالجات المناسبة للمشكلات القائمة واللاحقة.

وقد يقول البعض، ان عموم الدساتير، تتضمن نصوصا قانونية جامدة، ربما لا تصلح وحدها لأن تكون حلا للازمات، وسبيلا لمعالجة الخلافات، اذا لم تكن الابعاد والجوانب الانسانية حاضرة في بعض الاحيان، كما هو الحال بالنسبة لقضية رواتب موطني اقليم كردستان، التي اقحمت بقصد أو من دون قصد في لجّة الصراعات والتقاطعات السياسية، ولتلقي بظلالها الثقيلة على اعداد كبيرة جدا من الناس البسطاء، علما ان الحكومة الاتحادية الحالية، بادرت إلى اتخاذ خطوات ايجابية، والمبادرة إلى حلول جزئية وقتية للتقليل من اسقاطات تلك الازمة، على أمل أن تفضي الحوارات المتواصلة إلى نتائج ملموسة ومثمرة.

ومع وجود الدستور، وما يتضمنه من حلول ومعالجات، ومع استمرار الحوارات، فأن غياب الثقة، يبقى هو العائق والعقبة الكأداء امام اي افق جيد ونافع. بعبارة اخرى، ما لم تتوفر النوايا الحسنة والارادات الصادقة من كلا الطرفين، فان الحوار لن يغادر حلقته او دائرته المفرغة.

ولان القضايا متداخلة ومتشابكة، والملفات كثيرة، والرؤى والقناعات والتقديرات متباينة، فانه لابد من التركيز على اكبر قدر من نقاط التوافق والالتقاء، وتجنب نقاط الافتراق، مع التأكيد على ان المؤشرات والمعطيات الراهنة في هذا الجانب مشجعة نوعا ما.

والمسألة الاخرى، تتمثل في انه مثلما يراد ان تكون للحكومة الاتحادية رؤية موحدة وواضحة، لا تتجاذبها الحسابات الفئوية والحزبية الضيقة، فإن على حكومة الاقليم أن تبلور مواقف وتوجهات ورؤى موحدة ومنسجمة، تأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي الكردي، ومدى تأثير تباين مواقف بعض قواه السياسية على مسارات ومعطيات واتجاهات الحوار مع بغداد.