ملامح البسط الفني في "تراتيل وحكاوي"

مطالعة عنوان المجموعة القصصية "تراتيل وحكاوي أخرى قصيرة للغاية"، لأحمد الباسوسي، يضعنا مباشرة على عتبة قضية الحكاية والقصة بشكل عام.
مفردة "حكاوي" في عتبة المجموعة ترمى إلي إيمان القاص بوظيفة القصة في التفاعل مع هموم الناس
قضية النص الأدبي القصير أصبحت قضية في المتن لطبيعة العصر وتسارعه، وبزوغ الحاجة للتركيز والتكثيف والتلخيص

إن مطالعة عنوان المجموعة القصصية "تراتيل وحكاوي أخرى قصيرة للغاية"، للقاص د. أحمد الباسوسي، يضعنا مباشرة على عتبة قضية الحكاية والقصة بشكل عام، وقضية النوع الأدبي الجديد الذي يطرق الباب بقوة ويتشكل في منطقة تماس أدبية جديدة، ويتدارسه النقاد والدراسون ليتم تأطيره ووضع المفهوم الفني المتعلق بأدائه، إنها القصة القصيرة جداً، ودون ولوج كبير في أنحاء القضيتين أشير لمفهومي حولهما: من حيث إن الحكاية أو بالتعبير الشعبي "الحدوتة" هي المادة الخام والعمود الفقري للقصة القصيرة الفنية بصيغتها التقليدية، والتي بدأت من قديم بقصة "القوس" التي تعتمد علي تفريغ الذروة الدرامية فى الرحلة من لحظة الإنتقاء القصصي، حتى تصل للحظة التنوير "الشهيرة"، ومن حينها أصبحت القصة القصيرة من أكثر ألوان الأدب قربا من المشكلات الحياتية، وأزماتها الاجتماعية، باعتبارها صيحة الطبقات المسحوقة. وفي المجموعة بين أيدينا نجد عنصر القصة الحديثة والتي تركن أكثر للتجريد، ورعاية حالة كاملة وليس شرطاً لحظة فنية واحدة.
والمجموعة لا تمنح نفسها بيسر لقارئها إذ أنها تثق فى ذكاء القارئ وتستفزه للولوج في مدارات التأويل ليصبح مشتركاً مع القاص في إنتاج القصص، فعلي سبيل المثال القصة رقم 20 والمعنونه "عاد ومضى"، عن العجوز الذي يحكى ذكرياته مع الرجل صاحب القامة الطويلة، قصة مفتوحة للتأويل، فرمزيتها عريضة تفسرها نافذة القصة المضيئة الكاشفة لقصديتها في العبارة "إنه يحقق انتصارات خيالية" (ص 107)، فالقاص لا يترك قارئه في هذه القصة وغيرها دون أن يفتح له نوافذ مضيئة كاشفة لداخل نصه، لكنه يدع له لذة التأويل واستحلاب النص.
بالتالى مفردة "حكاوي" في عتبة المجموعة ترمى إلي إيمان القاص بوظيفة القصة في التفاعل مع هموم الناس، وأنها يجب أن تُحكى لهم ليقفوا فيها علي مواضعات الواقع المر، أما "تراتيل" فتشير للقصة المعنونة بهذا العنوان والتي تحتوي أجزاء مرقمة، وتشتمل فكره ساخرة، وتدرس طبيعة المجتمع حين يفقد كرامته حباً في الكسل، ويستسلم للأجلاف، ويهمش بائع الحواديت - صاحب التنوير في مجتمعه - حتى يقضي نحبه في خاتمة القصة.

للقصص نافذة مضيئة نطل بها لتفسير دوافع القاص للكتابة، ونشرق بها على نصوصه القصيرة

أما قضية النص الأدبي القصير فأصبحت قضية في المتن لطبيعة العصر وتسارعه، وبزوغ الحاجة للتركيز والتكثيف والتلخيص، وهو ما يتفاعل مع الوسائط الحديثة أكثر من سواه من النصوص وفنون التشكيل، حيث أصبح قارئ الإنترنت يحتفي بالنص والتدوينة القصيرة، وضمير المجموعة القصصية الشكلى المضمر، يرى القصر نافذة لبث الحكاوي. 
إهداء المجموعة عنصر مبدئي للرحلة في عالمها، تشكل موضعياً قيمة "الأمل"، فالقاص مشغول بها، ويقدم تنويعات لها في الإهداء، ويبذر بها بذرتها فالقصص ليست يائسه: "وإلى ضحى وهي تطالع الأفق غير المستحيل"، وهنا نرى الميزان الدقيق باستعمال مفردة "غير مستحيل" فهي تحمل معنى الأمل الذي يقتضي جهداً وعرقاً، ويتعامل مع الواقع الشرس بدون تهوين أو تهويل، فالواقع الذي عبر عنه بالبقية، وفقدان البراءة، والحسرة على الفائت، وعدم العودة، يقول في قصة "3x 3" (صفحة 49): "ما عادت الأشجار تثمر .. وما عاد الشتاء يجيء ... وما عادت سلوى تتابع .."، والمساحات المغتصبة من العقل في قصة "إغتصاب" (ص 41)، لا يزال يحمل الأمل غير المستحيل تحقيقه: "الضوء الباهت يكافح جحافل الظلام"، صحيح أنه ظلام دامس لكن هناك ضوء مقدر ولو كان باهتًا.
ورغم التكثيف في القصص نجد التنوع بالبسط من خلال أدوات فنية، تبدأ من استعمال أدوات الترقيم (النقاط)، وهي كما قيل "ثروة القاص" يجب أن يقتصد في إنفاقها، والنقاط تمثل فجوات للنص يستطيع القارئ - الحاضر دائمًا - أن يشتغل بها بالخيال والتأويل، كما نجد وسيلة أخرى للبسط في القصص من خلال تقنية "التكرار"، وهي براعة تحسب للقاص أن يقوم بالتكرار في حيز ضئيل، بل جعلها مفتاحاً فنياً لقصة بكاملها، وهي قصة "نافذة مطلة على البحر" (ص 37)، والمشكلة من سطور قليلة، لعب فيها جغرافيا المكان كصورة بصرية دور البطولة، بتكرار "نافذة مطلة على البحر" فوق وتحت وأمام وخلف، وظاهرة التكرار ظاهرة فنية لا تخفى على القارئ في طول القصص وعرضها، لذلك شواهدها كثر فلا تكاد تمر صفحة دون أن نطالعها سواء بالتكرار اللفظي أو تكرار المعنى، أو حتى استعمال مفردات متماثلة "عقلها / نافوخها" في قصة اغتصاب (ص 41)، كما نجد الإهتمام بالتفاصيل في الحيز المحدود كذكر الأسماء والألوان وماركات السيارات والوصف ... إلى آخره.
يقدم القاص تشريحه الفني للواقع، ويهتم بقضية شيئية الإنسان، وعدم اهتمام هذا الإنسان العصري بالغوص في الأعماق أو صقل الروح والتزود بالثقافة، ففي قصة "مؤتمر" يختار بدقة مفردة كاشفة معبرة: "حشد المتأنقين الملتمعين"، والتأنق المفتعل يعطي معنى السطحية والتكلف، وعليه مدار القصة.
وفي مقابل الشيئية يقدم أنسنة الأشياء في بلاغة قصصية تعبر عن المفارقة الجسيمة، ففي قصة وفاة كنموذج يصف الواقع بالطقس العاصف البارد، وتنتقل البروده لكل شيء: "في الغرفة المرتعشة ... طفق المرتعشون يضحكون ..." (ص 33)، كما يقدم أنسنة الأشياء أيضا في إطار وصف الواقع وقسوته "والشوارع التي تدهس" (ص 49)، أو تعاطف الجماد مع الإنسان المقهور "المحطة الودودة" (ص 111)، رغم أن هذا القطار في المحطة يتقيأ ركابه علي الدوام.
كما يحتفي القاص في القصص بقيمة "العدالة الإجتماعية" وتشغله بقوة، ويعبر عنها بأدوات واحدة، نعطي منها مثالاً بالمعادل الموضوعي باستخدام الشوارع / الطرق، ووسائل المواصلات بأنواعها باعتبارها معبرة عن حظوظ الإنسان وتباين الطبقات، حيث نجد تعدد ماركات السيارات، وأنواع المواصلات وأقدار وتفاعل الناس بها، وشواهدة كثر في القصص، فالحارات تعبر عن الضيق والضياع، والسلام ليس سلاماً إنما استسلاماً لذلك كانت حارة السلام وليس شارع السلام، وممر الحارة الضيق تكرر ثلاث مرات في قصة "كلام" المشكلة في عدد 13 سطراً، والشارع ملئ بالحجارة والحفر في قصة "غضب" (ص 21) ليس وصفاً للحالة المادية وفقط ولكنه رمزيه معبرة للحالة النفسية "الخمول وفقدان إرادة التغيير بالفعل".
وشخوص المجموعة القصصية تلتقي وتفترق في طرق الحياة، لتنتج تقاطعات بين رؤاهم وأوضاعهم، بما يخلق حيوية القصص، ففي قصة "أجازة" (ص 57)، والتي تحمل متن "العدالة الإجتماعية" بصورة واضحة تتفاعل شخوص القصة وتتقاطع ليشمل مشهدها الكلي تفاعل "صبية حفاة صغار"، والسائس "الشبح الفقير" وتأمل مفردة الشبح وتوظيفها فنياً في إطار متن القصة، في مقابل "أسرة أنيقة مكونة من رجل وسيدة وطفل مرفه"، وحضرت مفردة "الحمام" باعتباره رمزاً للحرية وقيمتها اللصيقة العدالة الإجتماعية، لتكون خاتمة القصة المعبرة: "والحمام الذي ضرب الهواء بجناحيه واختفى في الضباب"، والضباب مفردة موحية ومعبرة، باعتبار أن افتقاد العدالة الاجتماعية ُيفقد السلام المجتمعي، ورمزه الحمام.  

The very short story
ضحك كالبكاء 

ويحاول القاص تفسير ظواهر المجتمع المرضية ويقف على أسبابها، ويدعو للقيمة الطاردة لتلك الأوبئة، فيعتني عنايه خاصة بالفعل باعتباره العنصر الناجز في المعادلة الحياتية، ففي قصة "كلام" يسرد مخاطباً المروي عليه: "تمضى دون أن تقول لا" (ص 17)، ومصمصة الشفاة واللعب والكلام اللاذع والمقهى يدل علي سقوط الفعل وتدهور حالته، وفي قصة "غضب" (ص 21) والمشكلة فقط من أربعة أسطر، حيث الخاتمة تشكل المفارقة - علامة دالة لقصة ناجحة - في التناقض بين الرجل الوسيم الغاضب "يفرد صحيفته" ويتلقي الأخبار ولا يكترث بمرور الراوي المتكرر ولا يغضب، لأن الفعل مصاب بالجزام.
ولا يكتفي في مدارسة قضية "الفعل" فقط من قبل الجمهور، لكن يشير إلى إثم الإعلام والنخبة الفاسدة في تدهور حالة "الفعل"، في قصة "دعوة" (ص 53)، عن مشكلات الشباب والعنوسة والاغتراب من خلال شخصية الفتاة التي تريد أن تصل لفرحها ولكن العقبة كؤود "حيث اغترب الخطيب طلباً للرزق منهكاً ومتوترًا"، يقول مفتتح القصة "عند نهاية الشارع رصدت حجارة وكهارب وعيون وأشياء أخرى ... جنحت يميناً تزاحم حشود الناموس والأخبار وركام الأحداث العالي .."، ويقف مقابلأ لتلك الشخصية المقهورة مهدورة الحلم والطموح، متآكلة الكعب - في تعبير القاص السائد كمعادل لكفاح الفقراء والمهمشين - شخصية الصحفي صاحب القلم الذي يموه على الواقع ويكتب أعلي الصفحة في عموده اليومى: "ما أجمل الآن"، وتذكرني القصة بقول القائل: "ولا يرون البندقية حتى يروا الشفاة مستديرة، ولا يرون المشنقة حتى يروا الضفيرة".
كما نجد ملامح السخرية مبطنة ببعض القصص، لكنها السخرية النابعة من مزاج الكوميديا الداكنة - ضحك كالبكاء - ففي قصة "وفاة": "وقد غطوه لتوه بلحاف مهترئ محسوب عليه في قائمة الزواج" (ص 33)، ومثل إدمان عادة الضرب على القفا في قصة "تراتيل". 
ويظل للقصص نافذة مضيئة نطل بها لتفسير دوافع القاص للكتابة، ونشرق بها على نصوصه القصيرة، وأجدها في عبارة (ص 114) من قصة "عيون": (... كل شخص تلاشى عن الآخر ... وتلاشى المجموع ... لم يبق سوى ضوء باهت ما زال يكافح جحافل الظلام ..."، لكن الضوء الباهت أفضل جداً، يقول مدون صيني: "عندما تجلس في غرفة مظلمة فإن ضوء الشمعة سيشكل فرقاً كبيراً"، فضوء الشمعة أفضل جدًا".