ملتقى الرواية يؤكد أن الروائي ليس مؤرخا

جمال القيسي يوضح أن للجوانب النفسية النصيب الحاضر في الشهادة الإبداعية.
ربعي المدهون: جئت إلى الرواية متأخرا. دخلتها من أبوابها المفتوحة على الحداثة وما بعدها، وعلى تجريب يتمرد على السرد الخاضع لمتطلبات الخطاب السياسي العام.
سمير الفيل: استعانتي بالصحف كانت ضرورية لتوثيق تحولات المجتمع في تلك الفترة المتقلبة من تاريخ الوطن
الدافع للكتابة وعنوانها الأساسي العاطفة العارمة، هو المحرك الأول لأي نتاج أدبي

جاءت شهادة الكاتب الأردني جمال القيسي حول روايته الأخيرة "قسم البنفسج" وأوضح مدى تأثر الأسلوب فيها بعدة نزعات روائية لدى أدباء كبار مثل امبرتو إيكو ودستويفسكي ونجيب محفوظ من حيث الميول نحو إدخال الحكاية في الحكاية، وكذلك من جانب الاستفادة من المونولوج كصوت غير منقطع عن الأصوات الأخرى في رواية "تعدد الأصوات".
وتطرق في شهادته الأدبية التي شارك بها في ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي، إلى الجهود البحثية المضنية التي كابدها على مدار كتابة الرواية حيث تطلب موضوعها وأحداثها وشخصياتها المركبة الكثير من التدقيق في المعلومات الطبية النفسية والقانونية الجنائية والعودة باستمرار إلى التاريخ السياسي للمنطقة العربية، واستلزم لقاءات متعددة بمتخصصين من الأطباء والقضاة.
وفي الجلسة التي ترأسها الناقد الأردني د. محمد شاهين تحدث القيسي عن اختيارات لنوع دون آخر من مستويات السرد واللغة في الرواية، وما جعله يلجم في ذاته الروائية شهوة قطع السرد بالتأمل، التي حلم بالسطو عليها من كنوز  تولستوي وفوكنر. وقال: لم تسعفني ضرورة التدفق بالسرد أي مهلة من الوقت لممارسة متعة تقليد الكبار!  
كما تطرقت شهادته إلى زمن انبثاق الفكرة الأولى للرواية، والمتمثلة في انهيار أمل التغيير نحو الأفضل، إذ بدأت بعد صدمته بأحوال العرب والمسلمين في الولايات المتحدة على أرض الواقع، والتي توجت صباح أحد الأيام بتظاهرة دينية كبيرة مارست طقوس لطميات الندم الفظيعة على مدار ساعات في قلب (الداون تاون) في شيكاغو فأرعبت البشر والشجر والنهر والطير والسناجب!  

Cairo forum for creative fiction
زمن انبثاق الفكرة الأولى للرواية

وقرأ من الرواية: "لأول مرة وجدتني عاجزا عن تبرير الضياع والتردي؛ التبرير كأحد وسائل الدفاع عن النفس الأولية، كما يعرفه علم النفس الاجتماعي. لم أستطع إنكار هويتي، وفشلت في دفع التهمة عن جذور مرجعيات تدين منبتي؛ فبؤت بالألم الممض، وصدمة التراكمات التاريخية الجارحة".
وأوضح أن للجوانب النفسية النصيب الحاضر في الشهادة الإبداعية ذلك أن الدافع للكتابة وعنوانها الأساسي العاطفة العارمة، هو المحرك الأول لأي نتاج أدبي.
وفي الجلسة نفسها تحدث الكاتب حجاج أدول عن تعدُّدية عزبة توماس، فأوضح أن   توماس هي قريته النوبية التي غرقت بعد تعلية خزان أسوان، وقال: والداي هاجرا إلى الإسكندرية. كانا في حنين شجي إلى قريتهما، الغريب أنهما مثل غيرهما من النوبيين، تعاملا مع غيرهم في سلاسة ورضا، فلم يتحوَّل شجنهما الضاغط إلى مشاعر كراهية! ولدت في عزبة توماس، منطقة شعبية تحوي غالبية نوبيين، مع آتين من الصعيد وبحري وعائلات مسيحية. الجميل أن هذا التنوع الثقافي، أقول الثقافي ولا أقول العرقي أو العقائدي الديني، تآلف وتكامل في تفاعل إنساني راقٍ، فصارت عزبة توماس حوض أزهار ثقافية، كل وردة لها شخصيتها، وفي نفس الوقت هي زهرة من ضمن زهر الحوض كله. ببساطة تم تفعيل ما يقول عنه المثقفون "التعددية في الوحدة".
وأضاف أدول: بعد حرب 1956، في شوارع العزبة، وعلى إيقاع الدفوف خلال حفلات الزيجات النوبية، يتشارك مائة راقص وراقصة في وقت واحد، ونحن فتية يافعون نرقص صفوفًا نوبيين وغير نوبيين. المطرب يغني بالنوبية نشيدًا عن عبدالناصر الذي رفض أن تعبر سفن إسرائيل قناة السويس، والراقصون يردِّدون بعده، نشيدًا وطنيًّا مصريًّا في حفل زفاف نوبي! أنا وسط صفوف الفتية وذراعي في ذراع فتى نوبي من ناحية، والذراع الأخرى في ذراع فتى من قرى بحري. أيوجد أجمل وأبسط من هذا؟ 
بدا كل هذا في كتاباتي الأدبية، ففي قصة "أديلا يا جدتي" تتكامل وتتحاب الجدة العجوز مع زوجة ابنها السكندرية، وفي رواية "الكُشَر" نجد معبد أبو سنبل الثنائي يجمع الشمال والجنوب في معبد واحد. إنها ثنائية الجنوب والشمال في مصر الواحدة. 
وأشار حجاج أدول إلى روايته "كَديسَة (القطة بالنوبية)" وقال: نجد تجميع جنوب البحر الأبيض مع شماله! فنشأتي الحياتية في عزبة توماس، كانت النبع الذي حببني في عشق التعدد الوطني الإنساني، واليقين بأنه هو الأساس الذي خُلقنا عليه.
وعن "مروض المنافي المتمرد على السرد العام" تحدث الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون فقال: جئت إلى الرواية متأخرا. دخلتها من أبوابها المفتوحة على الحداثة وما بعدها، وعلى تجريب يتمرد على السرد الخاضع لمتطلبات الخطاب السياسي العام.
وأضاف: أطلقتني مجموعتي "أبله خان يونس" عام 1977، قاصًّا واعدًا على ما تردَّد، ولم أفِ بالوعد. التهمتني السياسة والصحافة والإعلام، والمنافي التي أوجعتني، ولكي أروِّضها فتحت أبواب السرد. تدفَّقت وقائع خمسين عامًا من حياتي، في "طعم الفراق". كتاب عدّه الشاعر أمجد ناصر "أوذيسا فلسطينية"، ووصفه بـ "رواية الحقيقة"، واعتبرته أنا، مدخلي إلى عالم الرواية. 
وأوضح المدهون أن انعطافته الكبرى، جاءت مع عودته الى غزة بعد 38 عامًا، بما انطوت عليه من دراما ومخاوف وفرح ودهشة، وأسئلة حملتها روايته الأولى "السيدة من تل أبيب" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ "البوكر" عام 2010. وقال: فيها أخذتُ "الحكايات الغزاوية" الواقعية إلى مراحل متقدمة من التخييل، لأختبر ما تبقى من فلسطينية المغترب "وليد دهمان"، وأعيد طرح أسئلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خارج مألوفها. 

وبيّن أنه في "مصائر"، التي نالت البوكر عام 2016، شغلته هوية إسماعيل المدهون، أو "باقي هناك" في الرواية، فلسطيني لم يهاجر عام النكبة. صار مواطنًا في إسرائيل ويحمل جنسيتها. لعنه أقرباؤه "لأنه عاش مع اليهود"، وحسدوه "لأنه بقي في البلاد" ولم "يتمرمط" و"يتشحطط" في الغربة والمخيمات. وقال: فككتُ هذا "الالتباس"، وتعاملت مع تفاصيله بجرأة، وحين تحقق لي النجاح، شعرت بالمنافي تتلاشى، وبي فلسطيني "باقٍ هناك" مثل إميل حبيبي، بلا جواز سفر إسرائيلي ولا التباس.
في مسيرته الأدبية كلها، كانت أمه منبع السرد المحكي. لغتها مخزون أدهشني. أمية تصر على أنها ألفت "السيدة من تل أبيب". حين "أعرتها" لوليد دهمان، رأى فيها كل فلسطيني قرأ "مصائر" أمَّه. 
ولأن السرد لا يموت، استعدت في "طعم الفراق" والدي الذي رحل مبكرًا، وعيَّشته بين السطور، وفي سرديتي الأخيرة "سوبر نميمة"، استدعيت أمي من رحيلها الأبدي. دعوتها إلى حفل البوكر في أبريل/نيسان 2016، فحضرت إلى "أبوظبي"، وتدخَّلت في عمل لجنة التحكيم لكي تضمن الفوز لابنها. 
الكاتب المصري سمير الفيل يرى – في شهادته الأدبية - أن الخبرة الحياتية لا تناقض الوثائق بل تكشف عن صدقها من زيفها!" وقال: حين كنت في سبيلي لإعداد مادة وثائقية حول حرب أكتوبر 1973، لم تكن هناك مراجع أو كتب عمدة في هذا المجال، وقد وجدت طريقة بسيطة وميسرة للحصول على المادة الملائمة للكتابة، وهي الإنصات لعدد كبير من المحاربين في صفوف الجيش، وبالأخص الكتيبة 16 مشاة التي خاضت غمار العمليات في منطقتي سرابيوم والدفراسوار، وقد كان انخراطي في صفوف سرية الهاون 82 مم فرصة لأختبر فرضياتي السردية، وكان هذا بعد انتهاء الحرب بعام حيث دفع بي في أكثر المناطق التي تعرضت لقصف مباشر من نيران مدفعية إسرائيل ودباباتها.
وحاول في روايته الثانية "ظل الحجرة" أن يتحرر من موضوع الحرب الذي ألحَّ عليه كثيرًا فاقتربت من تجربة شاب مهتم بالثقافة، يعيش محنة فقد الأب، والمعاملة الفظة التي تلقاها من الأم التي تزوجت بعد موت رجلها تاجر فاكهة. وقال الفيل: وجدت المادة السردية من تصفح مئات الكتب التي عالجت فكرة الموت والفقد والشعور بالإثم عبر محكَّات واقعية خاصة في سنوات التحولات العنيفة بعد فك الارتباط في الكيلو 101 كانت قد بدأت بسفر الشباب إلى دول الخليج بعد ظهور سياسة الانفتاح وامتلاء الأسواق الحرة ببضائع استهلاكية.
لاحظت أن استعانتي بصحف تلك الفترة كانت ضرورية لتوثيق تحولات المجتمع في تلك الفترة المتقلبة من تاريخ الوطن حيث كانت شقيقته الأخرى منيرة تحاول ترميم روحه المتشظية لذلك صحبته مرات إلى اللسان الصخري عند لقاء البحر مع النيل (رأس البر)، وهنا كانت الجغرافيا حاكمة، وقادرة على تشكيل صورة غير نمطية لتحولات المكان.

Cairo forum for creative fiction
همهمات مكتومة 

وفي روايته الثالثة "وميض تلك الجبهة" كانت الحرب قد ابتعدت تمامًا عن الذهن والوجدان، ولم يعُد هناك غير الهمهمات المكتومة في صدور المحاربين القدامى الذين عكفوا على توفير لقمة العيش لأبنائهم الصغار، لذلك استعان سمير الفيل بما كتب في "المرجعيات العسكرية" عن الحرب خلال عمليات حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، ووضع المؤلف في مقدمة الرواية تلك العبارة: "عن وقائع حقيقية للكتيبة 18 مشاة، خلال حرب أكتوبر والسنوات التالية في القطاع الأوسط. 
وتحدث الفيل عن روايتين قيد النشر، وهما "نظارة ميدان"، و"ابتسامة يناير الحزينة". كلتاهما تتناول ثورة 25 يناير 2011 بقدر من التحليل، والتفسير، ومحاولة تفهم ما حدث بشيء من الشفافية والوضوح.
تقدم "نظارة ميدان" رؤية شديدة القرب لتفاعلات الواقع السياسي الذي أدى إلى تنامي الأحداث، وعلى الرغم من أنني قد عاصرت الوقائع عن قرب، فإنني لم أجد مفرًّا من استخدام شبكة "الإنترنت"، فوجدت مادة ضخمة جدًّا، وهذا أمر طبيعي غير أن هناك تناقضًا واضحًا في الطرح، وبالتالي للوصول إلى إجابات لم تكن مستساغة بالنسبة إليَّ.
أما الرواية الثانية "ابتسامة يناير الحزينة"، التي نجد فيها نفس الأشخاص وشخصيات أخرى مستحدثة، حدث أنهم قطعوا شوطًا في الثورة، فقد أتيحت لهم الفرصة لتقديم الأحداث عبر احتكاك مباشر بالواقع، وقد رأيت أن أعرض وجهات النظر على تباينها بشكل موضوعي عبر تقنية "الأصوات".
ويرى الفيل أن الروائي المعاصر سوف يجد نفسه في مهب الريح، تجاه الأحداث المعاصرة، ولن ينقذه سوى رؤيته الناصعة، وامتلاكه الموضوعية، وصدقه الفني، فهو لا يقف موقف المؤرخ، بل موقف الكاتب الذي يحمل وجهة نظر ولديه أدواته الجمالية، ومعماره الفني الذي يجب عليه أن يبسطه بكل وضوح وشفافية.