منصة زوم أو ترويض الجنون

مثلما سيكون تأثير العمل من البيت سيئا على آلية العودة إلى السياقات الطبيعية للعمل، فإن الحوار عن بعد سيقف حائلا دون عودة البشر إلى سابق عهدهم في الحوار المباشر المفعم بالأخوة الإنسانية.
ضاعت الكثير من المكتسبات الجمالية في خضم التداول التقني للمعرفة
التواصل الاجتماعي الافتراضي فخ سقطنا فيه كي لا يكون التواصل قائما
بدائل تنسجم مع رغبة غامضة تدفع الإنسان للتخلي عن شرط حميميته حين يستعمل حواسه المباشرة

غير مرة اعتذرت ولم الب دعوة وصلتني لكي ألقي محاضرة أو أشارك بمداخلة عبر منصة "زوم" التي لا أعرف ما هي ولكني على الأقل أعرف أنني لن أغادر بيتي إذا ما لبيت تلك الدعوة.

اعتذرت لأني أخشى أن أجد نفسي في مأزق من يكلم نفسه.

فالجمهور هو الآخر سيكون أفراده جالسين في بيوتهم. وهم حين يتكلمون فإنما يفعلون ذلك وهم في حالة من العزلة المنزلية. أي أن كل واحد منهم سيكلم نفسه. فالتواصل لن يكون كاملا إذا لم أقل إنه غائب تماما.

أليس الأمر شبيها بالحوار مع النفس لكن بصوت عال؟

لقد وجدت المؤسسات الثقافية في ذلك الاجراء نوعا من الحل في ظل حالة العزل التي يعيشها العالم بسبب انتشار الوباء الغامض. فاللقاء الجماعي صار خطرا كما أن الأماكن المغلقة صارت أشبه بالثقوب السوداء التي يمكنها إذا ما استعلمت من قبل الجماعات أن تكون ممرا إلى الغياب النهائي.

لقد تمكن العلم من العثور على بدائل عن اللقاء البشري المباشر. وهي بدائل تنسجم مع رغبة غامضة في دفع الإنسان إلى أن يتخلى عن شرط حميميته حين يستعمل حواسه المباشرة. فهو يكلم آخرين من غير أن يتبين من تأثير كلامه عليهم. وهو أيضا يستمع إليهم من غير أن يكون متأكدا إن كانت تعبيرات وجوههم توحي بأنهم جادون أو ساخرون.

قدر هائل من التفاعل سيكون مفقودا بالرغم من أن تلك المواقع المستعملة من أجل اجراء تلك الفعاليات تنتمي إلى ما صار يُسمى بالتواصل الاجتماعي الذي أعتقد أنه اسم مضلل، بل هو فخ سقطنا فيه من أجل أن لا يكون ذلك التواصل قائما.

البشر اليوم يتواصلون غير أنهم عن طريق ذلك النوع الجديد من التواصل انما يقيمون جدرانا تحيط بفرديتهم وتؤسس لعزلة إنسانية لا يمكن الإفلات منها بغض النظر عن النتيجة التي سيصل إليها الأطباء والتي يُعتقد أنها صارت جاهزة وسيتم طرحها في لأسواق في القريب العاجل.

كانت التقنيات الحديثة قد هيأت العالم للقبول بما فرضه الوباء من اجراءات احترازية. فالناس، كثير منهم كان يقضي جل وقته وهو بنظر إلى شاشة هاتفه المحمول أو ينصت إلى الأصوات المخزونة في ذلك الهاتف. لا ينظر إلى ما يقع من حوله ولا ينصت إلى أصوات الناس والطبيعة.

حلت المتعة الاصطناعية محل المتعة الطبيعة.

في متاحف الفن كنت أرى حشودا وهي تتنقل بين مقتنيات تلك المتاحف من غير أن تنظر إليها بمتعة الاكتشاف الشخصي بل تكتفي بالإنصات إلى الصوت القادم من الأجهزة التي توزع عليهم ليعرفوا كل شيء عن تلك المقتنيات من غير أن تتاح لهم فرصة التماس بها من خلال حواسهم.

إنهم كمَن يقرأ في كتاب عن شيء لم يره.

لقد ضاعت الكثير من المكتسبات الجمالية في خضم التداول التقني للمعرفة في إطار ذلك التباعد الذي صار الفرد يحصن نفسه به معتقدا أنه سيكون وسيلته للتفوق على آخرين لن تتاح له فرصة اللقاء بهم.  

عالمنا اليوم ليس قرية صغيرة كما كنا نأمل أن يكون بل هو عبارة عن عدد لا يُحصى من الجزر. كل واحدة منها هي عبارة عن محطتي بث واستقبال.  

صرنا نقيم في هواتفنا بدلا من أن نضع تلك الهواتف في جيوبنا.

أعود إلى منصة زوم التي استهوت الكثيرين وصاروا يلقون محاضراتهم من خلالها. تلك الوسيلة لا أظنها ستكون مؤقتة. لن يتخلى عنها أحد حين يرفع الوباء الرايات البيضاء معلنا هزيمته أمام الارادة البشرية. 

المستقبل لها بعد أن تمكنت من الحاضر ولن تكون العودة إلى ماضي العلاقات البشرية مقبولة وإلا سيضحك الإنسان على ما فعل طوال المرحلة العصيبة التي تمكن الوباء الغامض فيها من حصد أرواح مئات الالاف من البشر. وهو ما لن يفعله لأنه يعرضه للندم.

ومثلما سيكون تأثير العمل من البيت سيئا على آلية العودة إلى السياقات الطبيعية للعمل فإن الحوار عن بعد سيقف حائلا دون عودة البشر إلى سابق عهدهم في الحوار المباشر المفعم بالأخوة الإنسانية.

سيكون كل طرف مغلق على شجرته لينظر من هناك إلى الآخرين في أشجارهم لتي لن يحتاج المرء قيها إلى ارتداء كمامة. فالمستقبل سيكون أيضا حافلا بالكمامات.