من غوايات المتفرد 'ولد مراكش'

الأديب المغربي محمد بوعابد يعد ويترجم ويقدم كتابا عن الاسباني خوان غويتيصولو في محاولة لرد بعض أفضال أديب قلّ نظيره التقط روح ساحة جامع الفنا ونقلها إلى المحافل العالمية.

عن دار الوطن للطباعة والنشر في الرباط، صدر كتاب جديد بعنوان "من غوايات المتفرد خوان غويتيصولو" وهو من إعداد وترجمة وتقديم الأديب المغربي محمد بوعابد.

والمقدمة التي كتبها تُغري القارئ، وتمنحه جرعة معرفية عن أديب إسباني قلّ نظيره، حيث يتجلى تفرده من خلال الثقل المعرفي الذي ينوء بحمولته والذي جعله يتصدّى لمرحلة الدكتاتورية في عهد فرانكو الذي حكم إسبانيا بقبضة حديدية، ذهب ضحيّتَها الكثير من مناصري الرأي الحر مفكرين وأدباء وشعراء وفنانين، لذلك فقد وجد خوان غواتيسولو في باريس ملاذه، فبدأ يكتب ويفضح نظام بلاده،ولم يكتف بذلك، فقد ناصر الشعوب المغلوبة على أمرها من شراسة المد الكولونيالي،وحتى نلاذه فرنسا لم تسلم من نقده فيما يخص موقفها من فرنسة الجزائر،كما انشغل في قضايا التحرر عبر العالم وتصدى للتطهير العرقي في كوسوفو.

ويبدو أن هذا "المراكشي الشرفي" كما كان يسمي نفسه قد عشق المغرب بعمق، حتى أنّه توسّد ساحة جامع الفنا، فأسكرته بسحر رحيقها وبشدو حلقاتها الحكائية، وبقدرة دراويشها على الشد القصصي، والقدرة التمثيلية، وهم يستنبطون من موروثهم القصص الشفاهية التي تتسلل من أفواههم لتلامس المشاعر المصغية، في نسيج محكم، تتجلى فيه الحكمة والموعظة والمثل السائر، وتمتزج بالقدرة على المتابعة من خلال استيفاء شروط الحكاية.  كل هذا يأتي من خلال حركات مسرحية، تتظافر فيها قوّة الصوت ورخامته، والدقة في اصطياد المتفرج من خلال مباغتته بعناصر تشويق، في إطار نصوص مهجنة وملمعة ما بين فصيح اللغة ودارجها، لتستوفي كلّ عناصر المتعة، من خلال إشاعة روح النكتة، بين الجمهور أو إبهاره بالحكمة والموعظة، أو جعله يغرق في لجة الحبور.

وقد التقط غويتيصولو روح ساحة جامع الفنا التي تّعَد من أكبر المسارح الشعبية في العالم، ونقلها إلى المحافل العالمية، ليجعل الاعتراف بها من قبل اليونسكو الفن الشفاهي الإنساني، وهكذا تنتقل ساحة جامع الفنا من محليتها، لتصبح تراثا إنسانيا شفهيا.

لقد أفاض الأستاذ محمد بوعابد في الحديث عن هذا الأديب، وعلاقته بالحلايقية والحكواتية، ومساعدته لهم ماديا ومعنويا، وعن مقهى "ماطيش" التي أصبحت قبلة لمن يريد التزود من معين هذا الأديب الذي استطاع أن يتحدث اللهجة المراكشية، فكسر الحواجز بينه وبين محبيه. ولاسيما وهو الذي طالما ارتدى قميصه الذي كُتب عليه "أنا ولد مراكش"، كما أنه عايش هذه الساحة حسيّا حينما اختار سكنه في إحدى دورها التقليدية في حي "القنّارية"، وتبنى بعض أطفال العوائل المعوزة.

ومن خلال هذه المقدمة ندرك الكثير من حياة غويتيسولو وحياته، كما نستشف الدوافع التي دفعت الكاتب بوعابد لترجمة وإعداد الكثير من الحوارات والمقابلات والآراء والانطباعات التي صاغها بيده أو كُتبت عنه، وكأن المترجم الأديب بوعابد أراد من خلال هذا المُؤَلف أن يرد بعض أفضال "ولد" مراكش الأبدي، الذي لفظ أنفاسه قريبا من ساحة جامع الفنا، ودُفن قرب صديقه الفرنسي جان جينيه في مدينة العرائش المغربية.

في مقالة غويتيسولو عن زوجته الكاتبة الفرنسية مونيك لانج، والتي تعرّف عليها في مرحلة نفيه من إسبانيا، نلمس وصفا متنوعا، يجمع بين عواطف العاشق والزوج والصديق، وشغف القارئ بأعمالها الأدبية، فيصف دقة حدسها حينما وصفته في أول لقاء بأنه "ذو طموح" دلالة قدرتها على قراءة أفكار الناس، ومعرفة توجهاتهم، كما يصف حنكتها في إدراك مقاييس الكتابة الأكثر تأثيرا، وتشديدها على مقاطعة الجوائز الأدبية، وقد رمز لها بـ"هي" لما لهذا الضمير الغائب من سطوة عاطفية عليه. حيث يعترف بأنها وراء بناء شخصيته، وذلك لقدرتها الكبيرة في إشاعة المحبة، وإيمانها بالدفاع عن المهمشين في العالم، ومساندتها لكل الحركات المناهضة للعنصرية.

في مقالة أخرى لغواتيسولو، يكتبُ عن بورخيس، متحدثاعن تعلق الأخير بتراث الأدب العربي، حتى أنه يرى بان سيرفاناس في كتابته لمؤلفه الشهير دون كيخوت قد وقع تحت تأثيرات مختلفة، ومنها الزمن المعكوس، لقراءة الأدب الحديث وفق مفهوم الأقدم زمنيا، ويرى بأن سيرفاناس قد تأثر بالآداب العربية والإسلامية، وإن سنوات الأسر في أرض الإسلام قد تركت بصماتها في خياله القصصي المشبع "بألف ليلة وليلة"، كما يتحدث عن تأثيرات بعض الشعراء العرب والمسلمين من خلال ترجمة بعض أشعارهم إلى القشتالية.

ويستطيع القارئ من خلال المقال أعلاه، أن يستشف عمق انشغالات غويتيسولو بالتراث العربي والإسلامي.

يبدو لي أحيانا يا عزيزي غويتسولو بأننا معا نمثل ديناصورا تخلف عن زمنه البائد

تناول غويتيسولو في مقالة أخرى الإرث الأندلسي برؤية علمية محايدة، معتبرا إيّاه كنزا إنسانيا،رغم محاولات المتطرفين الإسبان عبر التاريخ، بلافتات دينية أو قومية محوَ هذا الأثر الإنساني الكبير،  ولكنهم عجزوا عن ذلك، وذلك لأن الحضارة الأندلسية قد امتلكت إشعاعا لا يمكن أن يختفي بسهولة، لذلك فكان يدعو إلى إدماج هذا التراث الأندلسي في مختلف حقوله ووضعه في المكانة التي يستحقها من خلال قوله"ينبغي أن ننظر بتقدير إلى الإنجازات العظيمة التي خلفها بنو أمية والمرابطون والموحدون وبنو نصر،إذ هي ثمرات للتلاقحات التفاعلية بين شبه الجزيرة الإيبرية والمملكة المغربية".

وفي نفس الإطار، تناول القضية المورسكية من خلال بحثه في آراء وطروحات الكثير من الأقلام التي تناولت محنة المورسكيين الذين تعرضوا إلى الاضطهاد والقمع وكبت الحريات، ثم اقتلاعهم من بلدهم الأندلس. ثم تناول موقف المورسكيين اليهود والمسلمين الذين وجدوا أن الاندماج في المجتمع الإسباني ومكوثهم هناك، هو ما يدمر مبدأ "نقاء الدم" الذي انتهجته الكنيسة والقوى المتطرفة. مما يجعل المتتبع يُدرك حرارة القضية المورسكية التي شكّلت نقطة سوداء في التاريخ البشري.

ومن خلال كل ذلك، ندرك بأن غويتيسولو الإسباني الأصل ولكنهكوني الشمائل والأهواء والمواقف، مما أزعج المتعصبين من أبناء جلدته، واتهموه بأنه يسيء إلى تاريخ اسبانيا، ولم يدركوا أنها حاول أن يزيل الغبار عن الحقائق التي انطمرت تحت غبار التعصب الديني والعرقي.

في حوار غويتيسولو مع الأديب الفرنسي جان جينيه حول قضية الفهود السود، تّبرز لنا مدى اهتمام الأخير بقضايا التمييز العنصري في أمريكا،ومن خلال الحوار نتعرف على جينيه بطريقة أخرى تختلف عما كان مألوفا عنه كلص سابق ومثلي،كما ورد في دراسة الفيلسوف سارتر عنه، ولكن الحوار بينهما يُظهر عمق ثقافة جينيه واهتماماته بقيم حقوق الإنسان، وبحثه العميق عن مفهوم الحرية الذي دفعه إلى الدخول بشكل غير شرعي إلى أمريكا، عبر الحدود الكندية، وذلك للدفاع عن حقوق السود، ومساندته لقضاياهم وهم يواجهون العنصرية وذلك من خلال قضية جاكسون التي تمخضت عن هزات عنيفة في المجتمع الأمريكي من أجل حقوق السود.

أما حوار غويتيسولو مع الكاتب الألماني غونتر غراس فقد اكتسب منحى فكري، فقد تدرج الحوار حول مسائل عديدة تشغل العالم آنذاك، تمحورت حول دور المثقفين إزاء الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، ومن ثم الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، والاصطفافات الجديدة في بلدان مختلفة، ويعقد الأديبان المقارنات أزاء السياسات الأوربية في كل من إسبانيا وألمانيا. ولعل غونتر كان واضحا في المقارنة بين عهدي الدكتاتورية بالعراق وألمانيا، وكيف أن الأمة الألمانية تحملت تبعات ومسؤولية الحرب لأنها انتخبت حكومة هتلر، بعكس الشعب العراقي الذي لم يختر حكومة صدام، لذلك فأن العقوبات التي تحملها الشعب العراقي ليست شرعية.

لقد تناولا الكثير من من القضايا العالمية الشائكة، حتى قال غونتر مخاطبا محاوره قائلا "ويبدو لي أحيانا يا عزيزي غويتسولو بأننا معا نمثل ديناصورا تخلف عن زمنه البائد".

بعد ذلك يختار المترجم بوعابد نصين للسيدة لوسيت غولدنبرغ التي تشتغل بجامعة كولونيا بألمانيا، والنصان يتحدثان عن ساحة جامع الفنا في كونها فضاءً ثقافيا،يجمع بين السياحة والثقافة الشفوية، مما جعل الساحة حاضنة للإبداع في كل أنواعه، وتتحدث عن حرص غويتيسولو على الساحة وخشيته أن تزول، لذلك أفلح في إقناع منظمة اليونسكو بوجوب صيانة هذا الفضاء.

وقد استعرضت الكاتبة في مقالها الكثير من الأدباء والمستشرقين عن هذا الفضاء، وكل أقوالهم تنم عن انبهارهم بهذا المَعْلَم الذي ينقلهم إلى سحر الشرق وعمق موروثه.

رغم أن الأستاذ بوعابد قد ترجم هذا الكتاب عن اللغة الفرنسية، وليس عن اللغة الإسبانية، ولكنّ هذا لم يقلل من قيمته العلمية، وذلك لأن المترجم صاغ ترجمته بلغة عربية أنيقة وشفافة، تُغري القارئ وتجعله يبحث عن الكثير من القيم الجمالية والإنسانية في المواضيع التي وردت في صفحاته.