من قناديل الأدب والثقافة والتراث الصومالي

الأدب الصومالي فلكلور ثقافي، ونضال تاريخي، وديوان كرامة وقداسة.

(1) ديباجة: من قناديل الأدب والثقافة والتراث الصومالي: العودة إلى بقايا الأطلال والآثار القديمة، وإلى أبواب التواريخ والسجلّات والمدونات، وإلى منابع التراث والتقاليد والأعراف والعادات والثقافات فوحدها الفكر الآمن، الذي يحمي لهذا الشعب الصومالي من قصور التمدد الثقافي وفقدان للهوية وذوبان للشخصية. والفكر الآمن.. حياة آمنة، وقد عرف بعض من أهل الشأن والاختصاص أن الأمن الفكري هو "أن يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية".

ومن قناديل الأدب والثقافة والتراث الصومالي: تأتي أهمية التراث الحيّ للمجتمع الصومالي من كونه ينمي لدى الجماعات والأفـراد الإحساس بالهوية والشعور بالاستمرارية. ويؤكد كثير من المؤلفين والكتاب والباحثين أهمية دراسة التراث باعتباره عنصرا أساسيا لفهم طبيعة التطور وكيفية تشكل بنية المجتمع. ومن هذا المنطلق، فالتراث مدخل مناسب لدراسة الماضي المجيد، وفهم الحاضر واستشراف المستقبل المشرق القادم.

(2) هندسة الأديب: جوهر الأدب خلجات وهواجس خواطر وخيالات، فالأدب الهام يودعه الله كلاسيكية الإنسان منذ نعومة أظفاره، ومن مبدأ نشأته. ولا تزال هذه الفطرة في خواطره لحظة من ردح، بل تحركه وتنشطه في كل لحظة من أنفاسه. فمن أحسّ منكم بهذه الروح، فهو مبدع وشاعر محظوظ، وأديب مختار، ولبيب مرهف، لأن الشعر متعة وتسلية، ورحلة سياحية، وضيف غير غادر، كما أنه أنيس يُشتكي، وقريب يُروى، ومنهل يُرتوي، ومنبع فياض، ودوحة في روضة مزهرة، وحديقة ذات أبهاج وجمال.

ومن الجمال أنّ الأديب الكلاسيكي يصور مالا يصوره الإنسان العادي، كما يسطر الشاعر ما يختلج في فؤاده من أحاسيس موجعة، وتعابير مفزعة، وإنشاءات روحية، وموجات غزلية، وشحنات هجائية، وشذرات وصفية، فيعبر شعره بالروعة والديباجة، ثم يصور أيضا، بالجمال والفصاحة الأدبية من خلال تجوله في الأسواق العادية والمقاهي الشعبية، وكذلك تفقده في الأحوال الاجتماعية والسياسية. تراه أحيانا يشير ما حوله من هضاب مرتفعة، وتلال عالية وجبال شاهقة، وأثار وأطلال منسية، وأودية ساحقة من هنا وهناك، وأشجار مورقات وشديدة الخضرة، ومناظر جميلة ذات أشكال متنوعة، وفنون مختلفة بصبغة جنونية، فيرسم الشاعر صورة خيالية ولوحة في السماء كالكواكب الشاسعة، والأقمار المضيئة، والنجوم المزهرة في هذا السقف المرتفع.

(3) معدنية الإنسان: وفي الحديث، النَّاسُ مَعَادِن كَمَعَادِن الذَّهَب وَالفِضَّة، خِيَارُهُم فِي الجَاهِلِيَّة خِيَارُهُم فِي الإِسْلاَم إِذَا فَقُهُوا، والأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ. نعم، هل الإنسان ظاهرة اجتماعية بكونه بشرا؟ أم الأدب أو الشعر ظاهرة اجتماعية؟ وهل الأنظمة والقوانين نفسها ظاهرة اجتماعية؟  يُقال: الدّامسُ يتحوّل إلى إشراق وأنوار وضياء، والهزيل يتحول إلى قوة وشوكة وعزة، والجهالة تضحي معرفة وبصيـرة وحكمة بالغة، والفوضى تتحوّل إلى وئام ونظام، والمهانة تصبح عظمة وشرفا وكرامة وقداسة، والضياع يتحول إلى منعة وحصنة مكنونة. الأمر كله بيد الله. ولكل حركة لها بركة وزبدة لامعة.

كما يقولون:- (فإن الشاعر لا يصور الأمر كما هو وإنما كما يبدو له). والطرح هنا، هل الهداية ظاهرة اجتماعية قياسية أم الضلال غواية معيارية؟ وما فكلية الخير عند الإنسان؟ وما جذور الشر عنده؟ فخلق الله الإنسان وألهمه نحو دنياه، وأرشده وهداه تجاه سبيل النجاة والحياة، وكفّل أرزاقهم وأمرهم بالكفاح والعمل، الحائر فيهم ضال من نظر زاوية الداعية، والغني فيهم مترف من نظر زاوية الزاهد، والفقير فيهم متعب من نظر مخالب الصحافة والإعلام، والعالم شعلة مشتركة ونجم يهتدى لمن كان له وعي يدرك، والجاهل جسد بلا روح، مع أنه إنسان فعّال مكّرم من نظر زاوية الإنسان الإنسان، والهادي مقيم في مكانه من نظر زاوية الصحوة العسكرية، الشاعر فيهم، شهير بنطقه الخلاّب وأسلوبه الشاعري، وبإنشائه الرواق من نظر زاوية الفلاسفة والعقلاء. وفي هذه الحالة، ففيهم مبتكر بصير، ومبدع موجه، وصانع محترف، وخطيب متفوه والعكس كذلك.

أهمية التراث الحيّ للمجتمع الصومالي تأتي من كونه ينمي لدى الجماعات والأفـراد الإحساس بالهوية والشعور بالاستمرارية

(4) كُناشة الأدب: وإذا أمعنا النظر إلى الأدب العربي والأدب الصومالي وغيرهما، ندرك أولاً أنه مقسم إلى عصور أدبيــة ومراحل تاريخية، وهذا التقسيم مرتبط بحسب الأحداث السياسية على الأغلب، والاجتماعية، والاقتصادية، والأيديولوجية. فذكّرَ كتّابُ الأقـلام، واعتاد مؤرخو الأدب العربي— سابقا وحاليا — أن يقسموا الأدب إلى عصور أبرزها: العصر الجاهلي، وعصر صدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي، والأدب الأندلسي، والعصور الوسطى، والعصر الحديث. أما الدّارس والباحث في الشعر الصومالي العريق فيجده أنه يأتي بعدة من مراحل وعصور أدبية عند الكتّاب والمؤلفين والأدباء الصوماليين، ومن أّهّم العصور الأدبية في شعرنا: المرحلة الأدبية في أيام المستعمر والمرحلة الثانية، هي، أيام محاربة المستعمر الغازي— الإيطالي في الجنوب والبريطاني في الشمال—، والمرحلة الثالثة هي المرحلة الأدبـية في أيـام الثورة المجيـدة (الحكومة العسكرية)، والرابعة هي ما بعد انهــيار الحكومة المركزية حتّى الآن.

في كل مرحلة من هذه المراحل المذكورة سنشير بقدر جلالتها الأدبية والتاريخية والثقافية، ومكانتها الاجتماعية المرموقة، وما ورد فيها من أحداث جسيمة، ووقائع تاريخية، ما يترع الفوائد ويغذي القلب الصافي، لكي يتيح الدّارس فرصة تمهيدية وتوطئة تاريخية، ولمحة مشرقة من رفوف الأدب الصومالي وبحوره الزاخرة البالية في السجّلات الضائعة أو الأشرطة الكلاسيكية، وكذلك كل ما يتعلق به من تقاليد وأعراف وعادات في حلقات قادمة إن شاء الله. الحديث في هذا المجال محظوظ وسعيـد جدّا لمن أراد البحث والدراسة والزيادة فنون الأدب الصومالي وتدويناته التاريخية. والجدير بالذكر أنّ نشير أن كُتبَ الأدب الصومالي — المكتوبة باللغة الصومالية — "لغة الأم" أفضل وأحرى وأجدر من الكتب المكتوبة بالعربية عند المؤلفين الصوماليين وجهة نظري. والسبب هذا، ثروة اللغة الصومالية وغزارتها الأدبية والفنية مع سهولة جمع المعلومات الأساسية باللغة الصومالية، لأن مراجعها موجودة ومصادرها موثوقة، وصاحبها لا يتعب كثيرا مما يكتب بل يتذوق ويتبحر إلى حدّ ملموس.

أما الباحث الصومالي الذي يعتمد دراسته باللغات الأخـرى مثل اللغة العربية واللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية فيصعب عليه البحث والكتابة والتّأليف بعدة من المشاكل منها، المشاكل اللغوية، والبيئية الجغرافية، والتركيبة الأدبيـة، والحركة الاقتصادية، والقيادة الاجتماعية، والثقافة النوعية، كقلة المراجع والمصادر، وكذلك ضعف الترجمة ونقص التحليلات والمقاربات الفنّية والحضارية وتفكيك الأحداث التاريخية حسب وقوعها. فالكاتب الصومالي الذي يهتم بدراسة الأدب والفنون الإبداعية والفلكلوريات الاجتماعية والأسطورات الشعبية فينبغي عليه أن يُدوّن ويُفكّر بلغته الأولى (لغة الأم) لأنها تقرّب ما في الأذهان وتنظم ما في العقول الراقية.

اللغة الأم، هي الطريق المثلى للوصول إلى العالم الداخلي للإنسان، ولأفكاره ومشاعره. وتتميز اللغة الصومالية بتنوع مفردات كلماتها ومعانيها الكامنة، وقد قيل (الإنسان ابن بيئته). فالشاعر الرعوي لا شك أنه يميل إلى بيئة الأبقـار ورائحة الإبل، وفرسانية الخيل والبقـــال، وحظيرة الماشية والأنعام. وهذا موجود في الأدب الصومالي خاصة الأغاني الغرامية، والروايات المسرحية، والسلسلات الشعرية المعروفة لدى الشعب الصومالي. أما الأديب المدنيّ الذي يعتاد ويغذي بثقافة البناء والعمران، وهندسة الأزقات والديكورات الساحرية، والطرق المعبّدة والمرافق الحكومية، والجزر الشواطئ، والمنتجعات السياحية، وخلود الملاهي والشوارع العامة، فلا مخيلة ولا التباس أنه سيُعبُّر ما يخطر في باله وبوصلة فكره متشبعا ومتسلحا بثقـافـته المدنية – المبنية بطغيان الحداثة— والتي يعرفُ مهارتها، ويجيد آلياتها ويستحسن فنونها بعيدا عن البيـئة الأولى والعكس كذلك.

فالمؤلف الصومالي لا بد أن يدرك نفسه أولا، ويعرف جوهرة حياته الإنسانية، هل هو كائن أم لا؟ هل الإبداع في ذاته؟ أم في جوانبه؟ متى يمسك القلم؟ ومتى يأمر اليراع ليسطَّر ما يراه حسنا أو قبيحا؟ وما الحب الذي يتعاطف معه من خلال تجوله بين حدائق الغنّاء والصحراء الجرداء؟ وما هالة الشوق التي يحنّ إليها، إذا أراد أن يقول شعرا أو نثرا؟ فكيف يتقن مهارة الكتابة بعيدا عن ثقافة الإشهار والتفاهة؟ أكبر كارثة عاشها الإنسان في هذا العصر هي، "صراع الحضارات والمثاقفة" فالأمن ضروري عند ولادة الأفكار، كما أن الحرب محرك كبير عند ولادة الآراء وصناعة الأشعار. يقول فايز فرح: "الأمن الحضاري ضروري لكل إنسان، ويجب على كل مواطن أن يساهم في تطبيقه حتى نستحق أن نكون أبناء أعظم حضارة في التاريخ". لهذا، فالأمن اللغوي "Language Security" مرتبط بالأمن الفكري "Intellectual Security"، كما أن الأمن الفكري مرتبط بالأمن القومي "National Security".

وفي الختام، اللغة الصومالية فكر وشعور كغيرها من اللغات المحلية والإقليمية والدولية عند أصحابها، وثروة وهوية وحضارة، والأدب الصومالي فلكلور ثقافي، ونضال تاريخي، كما أنه قلادة شرف وعزة، وديوان كرامة وقداسة. والحياة عقيدة وكفاح، ورؤية وأصالة. ومن وحي الفن الأدبي والتراث تسود بهذه الأمة الصومالية كما ترتقي برائحة أدبها العريق، وتاريخيها المجيد، وشرفها الموصون في الأيام السالفات.