من يعثر لنا على مصنع سياسي في العراق


التاريخ سيشعر بالقرف السياسي لمجرد أن تناط به مهمة كتابة فصل عن المفاهيم السياسية التي سيتركها أولئك الذين يرتدون ربطات العنق في المنطقة الخضراء.
لدينا نماذج سياسية أخرى من هذا المصنع الرديء. رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الذي يجسد بامتياز الفكرة الطائفية في إدارة الدولة بغية الذهاب المتعمد إلى اللادولة
يبدو من قبيل المهزلة الاعتقاد بسلطة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، فهو غير قادر على الاستفادة من المصانع السياسية كمصدر للحوكمة الرشيدة

وقف صباح مرزا محمود المرافق الشخصي للرئيس العراقي الراحل صدام حسين حائرا أمام سؤال أطلقه الرئيس من دون أن يرفع رأسه عن الأوراق التي أمامه "هل يوجد رئيس غيري في العراق لا أعرفه يا صباح؟".

قيمة السؤال ليست بالإرباك الذي سببه الرئيس لمرافقة المخلص، بل لأنه متعلق بأحد أفراد أسرته الذي بدا وكأنه يزاحمه على تسمية مجردة تشير إلى "السيد الرئيس".

كان برزان إبراهيم الحسن التكريتي الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي آنذاك يتقلد منصب رئيس جهاز المخابرات العراقي، وعادة ما تتم مخاطبته من قبل الكوادر العاملين معه بالسيد رئيس الجهاز، واختصرت التسمية لاحقا إلى السيد الرئيس بين العاملين في الجهاز ويميزون ذلك عن رئيس الدولة باستخدام السيد الرئيس القائد (صدام حسين)! ومع أن هذا الخطاب محصور للغاية داخل أروقة المخابرات، إلا أنه وصل إلى مسامع الرئيس الحقيقي، لذلك سأل مرافقه مستهجنا عن ذلك الرئيس الذي ينافسه.

كانت الإشارة حاسمة لتنتهي بعدها تلك المخاطبة وإن كانت محصورة داخل جهاز المخابرات، وإن كان المخاطب الأخ غير الشقيق للرئيس. فدكتاتورية الرئيس الصارمة لا تسمح بمثل هذا التجاوز وإن كان افتراضيا وبلا دلالة.

لم يكن صدام حسين مصنعا سياسيا عميقا يمكن الاستشهاد به في التاريخ السياسي الذي سيدون لاحقا. لكنه كان مصدر قرار يمكن للتاريخ أن يتخذه مثالا، كان القرار الذي يتخذه كرئيس للدولة يكتفي بمواصفاته الكاملة كي ينفذ، بغض النظر عن صحة أو قبول هذا القرار أو قسوته أو ظلمه.

أما إذا أراد العراقيون استخراج ما يجعلهم يتحدثون عن مصنع سياسي من تاريخهم المعاصر، فلديهم قائمة جيدة نسبيا تبدأ بنوري السعيد ومحمد فاضل الجمالي، وقد تنتهي بسعدون حمادي وطارق عزيز.

بينما اليوم، العراقيون برمتهم يبحثون عن مصنع سياسي أو مصدر قرار حكومي أو قضائي يثقون به للتعويل عليه في مدونتهم التاريخية، لكنهم لا يجدون غير ما وصفته في يوم ما بالعمائم الطائفية والغربان التي ترتدي ربطات العنق وتتجول في المنطقة الخضراء.

السياسيون ومن ضمنهم رجال الدين في مصنع اللاسياسة العراقي، أشبه بطفل يلصق كل شيء يحدث بشكل خاطئ وفاسد بالنظام السابق "لا تنس هنا أن أثر ذلك النظام صار في العربات المتأخرة من قطار التاريخ ونحن نقترب من عقدين على سقوطه"، بينما لم يعد أحد من العراقيين لا يدرك أن الرثاثة السياسية القائمة منذ عام 2003 سببها تراجع منسوب الوطنية وجهل سياسيي اليوم وفسادهم وخضوعهم.

عندما اجتاحت عمليات النهب مدن العراق بعد الاحتلال الأميركي أضاف وزير الدفاع الأميركي سيء الذكر دونالد رامسفيلد إلى مدونة مصنع الكذب السياسي ذريعة قيمتها بجماليتها الكاذبة عندما كان رده "الحرية غير مرتبة" و"الأشياء تحدث". بينما أكثر ما استطاع أن يصل إليه ذهن باقر جبر صولاغ بوصفه منظّر المجلس الأعلى الإسلامي القادم من إيران لحكم العراق، والذي تقلد مناصب وزارات الإسكان والداخلية والمالية، إلى دعوة "امنحونا بعض الوقت لنجعل من العراق جنة"!

أكتشف العراقيون بعد أشهر قليلة ماذا تعني تلك الجنة وفق مفهوم صولاغ عندما تقلد منصب وزير الداخلية وكشف عن سجونه السرية المخصصة للانتهاكات والتعذيب الشنيع.

اليوم "الجنة" نفسها مستمرة بمفاهيم واقعية يديرها سياسيو الرثاثة القائمة والمستمرة.

في حقيقة الأمر، إن جميع المسؤولين الذين يتقلدون مناصب حكومية عليا، يشعرون بضعفهم أمام أنفسهم، ويريدون أن يصدقوا أنهم يتقلدون فعلا هذا المنصب الرفيع في إدارة الدولة، الأكثر من ذلك أنا لا أشك أن من يمتلك منهم وعيا مقبولا يتساءل مع نفسه عمّا إذا كانت هناك دولة بالفعل في العراق، وأين هي إن لم تكن دولة افتراضية تختصرها المنطقة الخضراء المحمية.

لست متطرفا في التوصيف عندما أعوّل على الوعي هنا، هل تتذكرون محمد عباس العريبي وزير السياحة والآثار في حكومة نوري المالكي الذي كان لا يفرّق بين ضخامة الرئيس وفخامة الرئيس؟ مازال مصنع اللاسياسة في العراق يخّرج مثل تلك النماذج ضحلة الوعي.

إذا كان رئيس الجمهورية برهم صالح يحسب على نخبة السياسيين هناك، فإن كل الذين يعرفون صالح عن قرب يؤكدون أن كلامه في المجالس الخاصة، تهكم على ما يعلنه في مجالسه السياسية المعلنة، لأنه يدرك أن قيمة ما يصدره على الورق ينتهي بمجرد نشره. فهو رئيس سلطة افتراضية غير قادرة على مصادرة بندقية من ميليشيا خارجة عن القانون. ماذا عن القانون أصلا، فكلمة اللاقانون تتردّد أكثر بكثير في العراق.

وعلى نحوٍ مشابه، يبدو من قبيل المهزلة الاعتقاد بسلطة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. فهو غير قادر على الاستفادة من المصانع السياسية كمصدر للحوكمة الرشيدة. ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأن لا سياسة في العراق أصلا بوجود اللادولة وسلطة الميليشيات ورجال الدين.

ربما أعاد عليه أحد المقربين منه تحذير وينستون تشرشل بوصفه درسا سياسيا في غاية الأهمية عن مخاطر استرضاء المعتدي. لكنه - لسوء حظ العراقيين - طالما انصاع لذلك المعتدي حتى عندما وصل إلى أطراف منزله بعد اعتقال الميليشياوي المحترف قاسم مصلح.

لدينا نماذج سياسية أخرى من هذا المصنع الرديء. رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الذي يجسد بامتياز الفكرة الطائفية في إدارة الدولة بغية الذهاب المتعمد إلى اللادولة.

يتباهى أنصاره في ترويج تسجيل مصور له رافضا استخدام مفردتي السنة والشيعة في قرارات البرلمان، وتلك كوميديا صلفة تسخر من عقول العراقيين، بمجرد أن نعرف أن الحلبوسي لم يوضع في منصبه هذا إلا وفق طائفته. بينما يخون وعي أولئك المروّجين له الالتفات باتجاه ليس بعيدا عن مبنى مجلس النواب كي يروا مباني الوقفين السني والشيعي في العراق!

في الواقع إن التاريخ سيشعر بالقرف السياسي لمجرد أن تناط به مهمة كتابة فصل عن المفاهيم السياسية التي سيتركها أولئك الذين يرتدون ربطات العنق في المنطقة الخضراء.

هل ينبغي إلقاء المسؤولية على الغربان المتجولة في المنطقة الخضراء وحدهم؟ ماذا عن مسؤولية العراقيين برمّتهم؟

ربما يوفر عليّ عناء الإجابة المريرة ما كتبه الزميل فاروق يوسف قبل أيام هنا في ميدل ايست اونلاين "قد فشل الخونة في تطبيع خيانتهم؟ ما هذا الحكم المتفائل. ولكنّ عراقا جديدا لم يولد بعد أكثر من ثماني عشرة سنة من اللعب بالأوراق وخلطها. حتى بعد أن تم تحطيم آثار النمرود وسرقة آثار أور واللعب بمحتويات المتحف العراقي وإهانة شارع الرشيد من خلال تحويله إلى مزبلة وقطع رأس أبي جعفر المنصور لا يزال هناك عراق صعب. يُخيّل إلينا أنه لم يمت".