مهرجان القيروان للشعر العربي .. ريادة وإنعاش لزمن الشعر

الأمسيات الشعرية توهّجت بقراءات فاخرة ومتنوّعة في مضمونها وتيّاراتها، مترجمة للهويّة، ومعبّرة عن البيئة وتلك الرؤى الجمالية والحسيّة لكل شاعر.
وصلات موسيقية طربيّة صدحت في الفضاء، لتضفي مزيدا من السحر والعبق بشذى الأغاني التونسية والعربية
ندوة أدبيّة وفكريّة استقطبت اهتمام الحاضرين بما تطرّقت إليه من تحليل ومناقشة فلسفية ونقديّة تحت عنوان "الشعر والموقف"

كان ولا يزال بيت الشعر بالقيروان نافذة للإبداع والأدب، خوّله تصدّر الواجهة الثقافية، فمضى يتشكّل بملامح ملفتة وجذّابة عبر مسيرة عرّج من خلالها ثلّة من شعراء تونس والوطن العربي إلى أروقة مزدانة بالعطاء وسخاء التجربة الشعرية، تحت رعاية دائرة الثقافة بحكومة الشارقة وباعث بيوت الشعر الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وذلك تجسيما لمشروع ثقافي عربي يؤتي أطروحة الإبداع على مدى عقود متتالية من العمل الدؤوب في بيوتها السبعة.
وقد افتتح فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان الشعر العربي بالقيروان وزير الثقافة الدكتور محمد زين العابدين ورئيس دائرة الثقافة بالشارقة عبدالله محمد العويس والوفد المصاحب له محمد القصير رئيس الشؤون الثقافية والشاعر محمد البريكي مدير بيت الشعر بالشارقة، بإدارة الشاعرة جميلة الماجري. مثلما تمّ توجيه الدعوة لبلدان أفريقية، الأمر الذي جعل من هذه الدورة متفرّدة بفسيفساء إبداعية وتدفق شعري منقطع النظير، بتجمّع أكبر عدد من شعراء تونس وليبيا والجزائر وسوريا وموريتانيا والسينغال.
بدأ المهرجان يوم 5 إلى غاية يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 2019 ، نظّم خلالها أمسياته الشعرية التي شارك فيها العديد من الشعراء من مختلف أنحاء تونس بدءا بالشاعر الكبير منصف الوهايبي، رحيّم الجماعي، فوزية العلوي، منى الرزقي، سمية اليعقوبي، صابر العبسي، عبدالحميد بريّك، التهامي الجوادي، فاضل المهري، ناجي العجبوني، سالم الشرفي، محمد عادل الهمّامي، نجوى الدوزي، جهاد المثناني، سارة السلطاني، أحمد العجة من سوريا، وهارون عمري من الجزائر، ومحمد المزوغي وهود الأماني من ليبيا، وسيدي ولد أمجاد من موريتانيا، ومحمد امبي الندقاري وشيخ أحمد بوسو من السينغال. 
وتوهّجت الأمسيات بقراءات فاخرة ومتنوّعة في مضمونها وتيّاراتها، مترجمة للهويّة، ومعبّرة عن البيئة وتلك الرؤى الجمالية والحسيّة لكل شاعر. فتغزّل الشاعر التونسي تهامي ناجي الجوادي بمدينته القيروان قائلا فيها :

القيروان حبيبتي
 بل أكثرُ
عشقي لها
 مع كلّ يوم يكبرُ
مازلتَ مثل الطفل
 تطلبُ حضنها
منذ الطفولة
 حبها هل تذكرُ؟ 
القيروان
 أميرة صوّرتها
مثل العروس
 بحسنها تتبخترُ
وحفظتها أيقونة
 في مهجتي
وبها أرى
 كل الوجود وأبصرُ
وبها أحلّق طائرا
 في جوّها 
وأشقُّ 
عالمها الجميل وأعبرُ 
وبها أسافر عاشقا 
في سحرها 
وأغوص
 في بحر الجمال وأبحرُ
فهي العروبة 
والأصالة دائما
والكون
 دونكِ قيرواني مقفرُ
القيروان
 كَعبْلةٍ أدْمنْتُها
وأنا 
كأنّي في هواها عنْترُ 
ومدينتي كالأمّ تحنو دائما 
وتضمني
 بحنينها أتعطّرَُ
مثل العجوز
 ترتب الليل الطويل
تسامر القمر الحزين وتسهرُ.. 
كل الأزقة 
والدروب عشقتها 
حتى جننت
بسحرها لا أنكرُ! 
لون المآذن والقباب
 مزجته بدمي
 فهل دميَ المعتّق أخضرُ؟ 
القيروان
 كغيمة أحتاجها
إن جف حبري
 فهي وحي ممطرُ 
القيروان 
كزهرة خبأتها 
إن مت يوما 
فوق قبري تزهرُ.
أما الشاعرة نجوى الدوزي فتأنقت بقصيدة "الوطن الصليب" معتقة بهواجس الوطن ومترعة بالانتماء إلى الأرض لتقول فيها :

tunis
تفعيل المشروع الثقافي

آمِنْ بِشَمِسِكَ كَيْ تَرَى
سِرْ مِنْ هُنَا نَحْوَ الهُنَاكَ
فَخَلْف ظَهْرِكَ مُدْبِرُ ..
وَبِلا أَمَامٍ مَنْ تَقَدَّمَ للوَرَا .. 
خَطْوٌ ثَنَى خَطْوًا، يَمُدُّ فَيَعْثُرُ
وَالذُلُّ وَشْمٌ وَالخِيَانَةُ وَاشِمٌ 
لَكِنَّ قَلْبًا مَيِّتًا لَا يَشْعُرُ 
إِنْ أَنْكَرَتْ طِينًا عَرَائِشُ رُؤْيَةٍ،
تَلِفَتْ عُيُونٌ ثُمَّ يَتْلَفُ مِحْجَرُ 
وَالثُّقْبُ فِي لُغَةِ المَجَازِ تَلَعْثُمٌ .. 
وَسَدَاةُ حَرْفٍ لَمْ يُحَكْ سَتُبَعْثَرُ
اضْرِبْ عَدُوَكً فِيكَ  
بَعْضُكَ مِخْلَبٌ .. 
فالجِذْعُ يُصْقَلُ والزَّوائِدُ تُنْشَرُ ..
اضْرِبْ بِكَفَّيْ تُرْبَةٍ عَذْرَاءَ 
وَاعْشَقْ طِينَهَا فَبِكُلِّ كَفٍّ بَيْدَرُ ..
اضْرِبْ بِلَوْنِكَ لَا تَذُبْ  
لَا لَوْنُهُمْ فَوْضَى خُطَاكَ ..
وَلَوْنُ قَلْبِكَ أَطْهَرُ
وكان للفنّ الأصيل حيزا وافر من خلال الوصلات الموسيقية الطربيّة التي صدحت في الفضاء، لتضفي مزيدا من السحر والعبق بشذى الأغاني التونسية والعربية، بقيادة العازف والفنان د.سميح محجوبي. إضافة إلى ندوة أدبيّة وفكريّة استقطبت اهتمام الحاضرين بما تطرّقت إليه من تحليل ومناقشة فلسفية ونقديّة تحت عنوان "الشعر والموقف" بمشاركة الأساتذة الجامعيين د.حاتم بن عثمان ود.محمد هاشم محجوب وبادارة د.حاتم الفطناسي، إضافة إلى تغطية إعلامية محليّة وعربية.
ومن أهمّ وقائع هذا المهرجان، تنوّع التجارب الشعرية وإتاحة الفرصة لأسماء جديدة وواعدة، بدءا من براعم بيت الشعر، ومن بينهم سليم الهداجي وسارة فطناسي، تحت اشراف الشاعر القيرواني التهامي الجوادي من خلال نادي الشعر والعروض، الذي بدأ يؤتي أكله في تكوين واحتضان جيل جديد من الشعراء، ليغدو منبع معرفة وإبداع في حضرة التجلّى والشغف مما أثمر إصدار لأعمالهم الفردية والجماعية ضمن منشورات بيت الشعر.
وتمّ الاحتفاء بالشعراء المشاركين بباقة من التكريمات، الشيء الذي عزّز قيمة الشعر في هذه الدورة، كجذوة لا تنطفىء، ليشكّل ديوان العرب على الدوام، مع إنعاشه بزخم الأنشطة وتنويعها لاسترجاع وهجه ومجده. 
لم يكتف المهرجان بذلك، بل أماط اللثام عن مواهب وتجارب جديدة في إطار المواكبة والتواصل، وتمكينهم من المشاركة، حتى تصل أصواتهم ونصوصهم الإبداعية في خضم هذه التظاهرة الحاضرة بقوّة في المشهد الثقافي.
واختتم المهرجان بحضور والي القيروان محمد بورقيبة لتكريم بقية المشاركين، إضافة إلى تسليط الضوء على منشورات بيت الشعر والاحتفاء بالديوانين الصادرين عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة للشاعر حسين الجبيلي والشاعرة أماني الزعيبي. 
وقد شهدت هذه الدورة إقبالا نوعيّا من حيث الأداء، واكتست بحلّة جديدة في خضم عمل ديناميكي، ونسق متطور لكامل فريق بيت الشعر، ممّا أثمر ذلك الحراك التفاعلي المبهر في صفوف الحاضرين، ترافقه إشادة وتقدير للجهود المبذولة في سياق هذا الحدث المتفرّد بالريادة، والذي ارتسمت فيه أصالة القيروان وثقلها في الشأن الابداعي، من خلال ما يستأثر به بيت الشعر من إنجازات، لتفعيل المشروع الثقافي، وتأكيد مكانتها في إثراء الساحة الشعرية المحليّة والعربية.