'موسوعة السرد العربي' سيرة ثقافية لكتاب

الناقد العراقي عبدالله إبراهيم يقدم تجربة جديدة في وقوف الكتاب شاهدا على تجربة مؤلِّفه، ووقوف المؤلِّف شاهدا على تجربة كتابه.

ينفرد كتاب "موسوعة السرد العربي: سيرة كتاب"، للناقد العراقي المتخصص في السرديات الدكتور عبدالله إبراهيم، بكونه أول كتاب يصدر في اللغة العربية يقدّم سيرة ثقافيّة لكتاب سبق للكاتب نفسه أن أصدره، بهدف وضعه في سياق عصره. 
يتألف الكتاب، الصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، من مدخل وخمسة فصول: الأول "كتاب ينمو عبر الزمن"، الثاني "الإعداد المنهجي"، الثالث "المتن النقدي"، الرابع "نماذج من اليوميات الشخصية حول كتابة الموسوعة: 1988- 2018" والخامس"ملحق وثائقي: تقارير، رسائل، جوائز، يوميات".
ينهج الناقد عبدالله إبراهيم في تدوين سيرة كتابه السابق الموسوم بـ"موسوعة السرد العربي"، والمؤلف من 9 أجزاء، نهجه في تدوين سيرته الذاتية "أمواج"؛ مستندا فيهما إلى اليوميّات الشخصيّة التي غطّت الحقبة شبه الكاملة لكليهما، وقد نافت على أربعين عامًا. ولم يكتف بما دونه في متنه، بل عاد إلى الوثائق، والمستندات، فرأب الصدوع، وأصلح الثغرات بما أوفتنه به الذاكرة من أحداث. وراع في ذلك الانتقال بالكتابة من مستوى التوثيق الرتيب إلى مستوى التوثيق الحيّ. 
ورغم أنه لا ينفي، في مدخل الكتاب، أنّ للذاكرة  دورا لا يُستهان به في صياغة هذه السيرة، فقد درأ إبراهيم باليوميات والوثائق أي ادعاء قد تخلعه على تزوير عملية تأليف الموسوعة، فغرضه إنزالها في سياق تطور وعيه الفكري، وهو يجادل نفسه وعالمه؛ فتولى كل طرف ضبط الآخر من الوقوع في الشطط المحتمل، وهو من دأب الذاكرة، ومن أخص عاداتها.
وتطلّع بتدوين سيرة الموسوعة، فضلًا عن ذلك، إلى اختبار فرضية طالما راودته، ومؤدّاها وقوف الكتاب شاهدا على تجربة مؤلِّفه، ووقوف المؤلِّف شاهدا على تجربة كتابه: شاهدان يُقدّمان أدلة الإثبات في مرافعة غايتها الإقرار بأهمية دور تاريخ الأدب في إبراز تطور الأفكار النقدية بما يلابسها من مفاهيم، ومناهج.

قضية إعادة بناء حياة كتاب ربّما تكُون أعسر من قضية إعادة بناء حياة إنسان

ويرى إبراهيم أن قضية إعادة بناء حياة كتاب ربّما تكُون أعسر من قضية إعادة بناء حياة إنسان، وإذ يستقيم الأمر في الحالة الثانية بالوقوف على نشأة الكاتب، وتجاربه، وخبراته، وأفكاره، وشهادته على عصره، فالبحث عما يُناظر ذلك في الحالة الأولى شبه متعذّر، ومع ذلك، فللكتاب الموسوعي عناصر بناء توفِّر إمكان تدوين سيرته، ومن ذلك تطور المفاهيم المدرجة فيه، وكيفية استخدامها في سياقه، وتنامي الرؤى المنهجية المتّبعة في مقاربة موضوعاته، والقضايا التي أثارها، والحصيلة التي جناها؛ والأهمّ، من كل هذا، هويته المتحوّلة بفعل استيعاب الجديد، ولفظ القديم، ومداومته على الاهتمام بالحيوية والاستمرارية. 
بذرة الموسوعة
يبين الناقد إبراهيم أنه زرع بذرة "موسوعة السرد العربيّ" في ثمانينيّات القرن العشرين، وما استقامت شجرتها إلا قبيل خاتمة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وعلى امتداد ذلك الزمان الطويل، سلك، في رعايتها، مسلكَ الفلّاح في تهيئة أرضها، وسقيها من دون انقطاع، حتّى استوت وارفة الظلال، وأضحت ثمارها في عُهدة القرّاء. 
وتجنّبا لأي سوء فهم، يبادر إلى القول بأن النظر إلى الموسوعة بنشرتها الوافية في عام 2016 هو غير النظر إليها إبّان الانكباب على تأليف أجزائها سنة بعد سنة؛ وهو، بالقطع، يختلف عن نشوء فكرتها في العقد ما قبل الأخير من القرن العشرين، ويعود الاختلاف إلى طول أمد تأليفها، وكثرة مصادرها، وتعدّد مراجعها، وتغطيتها لطيْف كبير من الأنواع السرديّة القديمة والحديثة، وظهور أكثر من صيغة تجريبيّة لها. على أنّ أهمّ ما طرأ عليها من تغيير هو توسّع الرؤية النقديّة الحاملة لها؛ وهي رؤية استجابت لمقاصد المؤلّف، وعبّرت عن تطوّر تجربته المعرفيّة، وأفضى ذلك إلى وضوح قواعد المنهج المتّبع في تأليفها.
المفهوم المعجمي للسرد
يعترف إبراهيم بأنه ما غاب عنه، في أثناء تأليف الموسوعة، المفهوم المعجمي للسرد، أي المفهوم المدرسي له الذي يدعي ضبط حقيقة السرد، وتقنينها، غير أنه تجاوزه إلى الدلالة التي صاغها له الإرث الأدبي القديم، وفيه تمدّد مفهوم السرد على بساط التاريخ الثقافي، فهو الحامل الأول لجملة المظاهر الحكائية والأخبارية التي ظهرت بأنواع متعدّدة. وبذلك يكون تحاشى الوقوع في فخ التعريف الضيّق الذي ينزع عن الظاهرة السردية روحها، وتجرّأ على الخوض في ثنايا الإرث السردي، وهو إرث أغنى المفهوم بدلالات إيحائية دارت في الأفق العام للمفهوم، لكنّها وسّعت فيه من هذه الناحية أو من تلك.

يبين الناقد إبراهيم أنه زرع بذرة "موسوعة السرد العربيّ" في ثمانينيّات القرن العشرين وما استقامت شجرتها إلا قبيل خاتمة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين

ويؤكد في هذا السياق أن من المغالطة القول بأن الأخذ بالمفهوم الذي صاغه الإرث السردي قد نشأ معه منذ استهلال عمله باحثا، فقد أخذه، في سنواته الأولى، بالتصنيف المعجمي، ثم خرج عليه حينما انفتحت له بوابة الظاهرة السردية، فانتعشت لديه رؤية ذهبت إلى أنّ الانشغال بتضييق المفاهيم، واختيار ما يوافق هوى الباحث، سوف يُرغمه على الابتعاد خطوة، وربما خطوات، عن الظاهرة السردية، ويبطل الغاية المرادة من بحثه فيها، باعتبارها ظاهرة ثقافية. 
الرؤية التوسيعية للسرد
كما يؤكد إبراهيم أن الانتقال من الرؤية الاختزالية إلى الرؤية التوسيعية للسرد جلب فائدة جليلة له، فلم يذهب إلى الظاهرة السردية مقيّدا بأصفاد جاهزة، بل ترحّل فيها بهدي ما زودته به من مفهوم استوى في محضنها خلال تاريخ طويل؛ ذلك لأن الظاهرة السردية لم تنبثق عن فراغ، وما نبعت فجأة من عين، إنما ترعرعت في سياق ثقافي زاد عمره على ألف عام، وخلال تلك الرحلة المتقلّبة تعرّض مفهوم السرد إلى التهذيب، والإصلاح، والترميم، وبات من غير الممكن مطابقة دلالته الموروثة مع الدلالة المعجمية المستعارة من سرود لا توافقه في سياق نشأته، ولا في أنواعه، ولا وفِي وظائفه؛ فالمطابقة قد تمحو الاختلاف، وتزيل الفروق، وربما تسهّل تقديم وصف عام، وإصدار حكم سريع، ولكنها لا تفلح في الإلمام بالظاهرة السردية على اختلاف أنواعها. ولم يكن الانتقال ميسورا.
ولم يحرص إبراهيم على ذكر المشاقّ المصاحبة لتأليف الموسوعة، فكلّ عمل جادّ، في رأيه، لا بدّ له من أن يكُون شاقًّا، بقدر ما حرص على الحديث عن المُتع العقلية والنفسيّة التي صاحبت تأليفها؛ وتمثّلت المتع العقليّة في الحوار المثمر الذي عقده مع العالم من حوله، ومطارحة المعارف الإنسانيّة، وهذا، حسبما يقول، منتهى طلب كلّ ذي عقل سليم، وتمثّلت المتع النفسيّة في شعوره بالرضا والامتلاء، وإحساسه بالارتياح والبهجة.
يوميات ووثائق
أقدم إبراهيم على تحرير هذا الكتاب معتمدا على يومياته، التي غطّت جانبا كبيرا من تاريخ تأليفه، ومستعينا بالوثائق المتوفرة لديه عنه، وجاوزت ذلك إلى النهل من متن الموسوعة، بما حواه من قضايا نهضت دليلا على نموها المتدرج عاما بعد عام، وفي طليعة ذلك: التوسع في موضوعاتها، واستدراج المفاهيم الإجرائية، واستخلاص التراكيب السردية من المادة المدروسة، وليس خلعها عليها من مواد أخرى مستعارة من خارج محضنها، والإصرار على ربطها بسياقاتها المتحوِّلة بفعل تقادم الأزمان. ولم يكتف باعتماد التوثيق ومتن الموسوعة، في تشييد بنيان هذا الكتاب، بل توسّل بمخزون الذاكرة الذي أغنى حيثيات تأليفه على الرغم من مخاطر هذا الإجراء؛ ولهذا جعل من وظيفة الذاكرة مماثلة لوظيفة الأرشيف، لكن بتحوّط منهجي.
سؤال الحقيقة 
لفد جعل وضوح القصد الناقد، كما يقول، يتخذ السرد العربي موضوعا لبحثه، فأقبل عليه بعقل منفتح، وأراده أن يكون وافيا يحيط به، فدرج على تأليف أجزاء الموسوعة بسِفر يوفيها حقها في معظم جوانبه. وألهمته الأسفار التي تتطور عبر الزمن، ولا تكتسب شرعيتها إلّا بعد اكتمالها. وهدفَ البحث الذي اختاره إلى إثارة سؤال "الحقيقة" بوصفها ركنا ثابتا لا بدّ من العثور عليه بعد العناء؛ فلا معنى لبحث لا يروم إظهار الحقيقة إثر مشقّة الانكباب عليه، ومع ذلك، فحيثما ينبغي اقتفاء أثر الحقيقة، فلا بدّ من لجم أي تهوّر في الادّعاء باكتشافها؛ فالحقيقة قرينة الفهم، وهي نسبيّة طبقًا لشروط فهمها، ولا هوية للحقيقة بمعزل عن الفهم. 
وما كانت قراءة الناقد إبراهيم للسرد العربي باردة، وما جاء تحليله له آليّا، فقد راعى السمات الأدبية، والخصال المجازية؛ فمبتغاه استخلاص ملامح السردية العربية التي تعاقبت عليها الأحقاب. وبين انضباط منهجي في التحليل، وملاطفة النصوص، تراوحت قراءته بين صعود وهبوط، كتقاذف الأمواج المتلاطمة، ترتقي به النصوص الرفيعة إلى الأعالي، وتهبط بي الواهنة إلى القيعان.
تقارير ضدية
من بين ما يحتويه الفصل الأخير من الكتاب، تقريران ضد مخطوط كتاب الناقد عبدالله إبراهيم "السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي"، وهو أطروحته للدكتوراه، وكان قد قدمه للنشر في دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، التقرير الأول بقلم الشاعر سامي مهدي شدّد فيه على إحالته إلى خبير ديني للبتّ في أمره، والثاني بقلم الدكتور هاشم جميل عبدالله، الأستاذ في قسم الشريعة بكلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد كفّر فيه المؤلّف في خمس عشرة قضية دينية بذريعة مخالفته إجماع المسلمين، وأرفق تقريره برسالة رسمية شدّد فيها على ضرورة التغيير الجذري لمحتويات نحو سبعين صفحة من المخطوط كشرط لا بدّ منه لنشره. وكلا التقريران يعبّر بصراحة متناهية عن مناهضة حرية البحث والتعبير. وقد استبق إبراهيم منع نشر الكتاب بإرساله إلى الخارج، فنُشر بطبعة فاخرة في بيروت، ولم يتأتّ له، أبدا، أن يُنشر في بلاد الرافدين. 
أخيرا، أجدني أتساءل: ألا تشبه مثل هذه التقارير وشاية مناوئي الفيلسوف ابن رشد، تلك الوشاية التي أدت إلى حرق كتبه بذريعة أن أفكارها زندقة وكفر؟ لكنّ فعلتهم لم تستطع أن تمنع كتب أبي الوليد من الوصول إلى الناس، لأن للأفكار أجنحة تطير بها على حد تعبيره.