مو جيو يو: منغوليا الأرض الأولى لفجر الحضارة الصينية

420 تدوينة صغيرة رسم بها الكاتب الصيني مو جيو يو صورة حية ومتحركة وناضحة بالتفاصيل لمنغوليا الداخلية على المستوى الحضاري والثقافي والاقتصادي.
منغوليا الداخلية تضم البقايا الأكثر عددًا واكتمالًا من سور الصين العظيم على مستوى الصين
أول عملية جراحية للأسنان تمت على يد الصينيين الأوائل قبل التاريخ

أربعمئة وعشرون تدوينة صغيرة رسم بها الكاتب الصيني مو جيو يو صورة حية ومتحركة وناضحة بالتفاصيل لمنغوليا الداخلية على المستوى الحضاري والثقافي والاقتصادي وغيره، وذلك في كتابه "رحلة إلى منغوليا الداخلية" الصادر ضمن سلسلة قراءات صينية عن دار صفصافة. وتقع منغوليا في الجزء الشمالي من برّ الصين، وتمتد في ثلاثة قطاعات جغرافية باتجاه الشرق والغرب بما فيه شمال شرقي الصين وشمال الصين وشمال غربي الصين باعتبارها أرضًا تتميز بقوة جذابة للسياح ورجال الأعمال من داخل الصين وخارجها. 
ووفقا للمؤلف شكلت التغيرات العديدة في مساحات الماء واليابسة خلال العصور الجيولوجية المختلفة بالإضافة للتغيرات المناخية تضاريس الأرض في منغوليا الداخلية، وتركت وراءها مناظر طبيعية خلابة. ففيها المراعي الواسعة، الصحاري المترامية الأطراف، الحقول المفتوحة على مدى البصر، الغابات الممتدة، السماء الزرقاء الصافية، والبحيرات المنتشرة كما النجوم في السماء، إلى جانب سكانها الذين يستقبلون الضيوف بمنتهى الحرارة، وكل هذا يُكَوّن "قطاعًا من المشاهد الجميلة" على "الحدود الشمالية للصين". حيث تقع منغوليا الداخلية على الحدود، وتشترك في الحدود مع روسيا ودولة منغوليا، ويبلغ طول خط الحدود في منغوليا الداخلية أكثر من 4000 كيلومتر. ولا تعني الحدود الجغرافية الحدود الثقافية أو الحضارية.

ثنايا ضفتي نهر سارا أوسو الرملية حفظت التغيرات المناخية والتحولات الجيولوجية التي طرأت على هضبة أوردس طيلة خمسمئة ألف عام بشكل أمين

وأكد مو جيو في كتابه الذي ترجمه محمد عبدالحميد بإشراف د. حسانين فهمي حسين أن منطقة منغوليا الداخلية تعد واحدة من منابع الحضارة الصينية. وقد سبق أن كان بها بقاء إنسان قديم قبل قرابة خمسمائة إلى ستمائة ألف عام، حيث عاش بها إنسان "خه تاو" في وادي نهر "سارا أوسو بآه أر دو سه"، وذلك قبل حوالي سبعمائة إلى ثمانمائة ألف عام، وكانت حقبة فارقة في تكوين الإنسان الحديث في شرق آسيا. ومنذ أربعة آلاف عام إلى ثمانية آلاف عام انتشرت الثقافة الحجرية في جميع مناطق منغوليا الداخلية، وانتشرت تجمعات زراعية للسكان الأوائل في بقايا المواقع الثقافية التي ترجع للعصر الحجري الحديث (نيوليتيك) وأبرزها ثقافة خونغ شان في وادي نهر شي لياو، واحتوت كذلك على بعض المعلومات المهمة التي كونتها الحضارة الصينية القديمة، وكانت أول أرض سطع عليها "فجر الحضارة الصينية". 
وأوضح أنه بحلول عصر الحضارة، ابتكرت القوميات التي عاشت في مناطق منغوليا الداخلية مثل شيون نو، شيان باي، راو ران، تو جيا، تشي دان، والمنغوليين اقتصادًا رعويًّا واسعًا، وترك نشاطهم التاريخي بصمات عميقة في عملية تكوين دولة الصين التي تضم عدة قوميات. 
ولفت إلى أن منغوليا الداخلية تضم البقايا الأكثر عددًا واكتمالًا من سور الصين العظيم على مستوى الصين، بداية من السور العظيم في عصور دول تشين وجاو ويان في عصر الدول المتحاربة، وحتى السور العظيم في عهد أسرة مينغ، تلك البقايا التي تشبه نهرًا طويلًا بلا مسار محدد، ويمتد من مناطق الغرب الأوسط في منغوليا الداخلية إلى الشمال والجنوب. وهذا النطاق من "السور العظيم" والذي كان يصلح للرعي والزراعة معًا كان أكثر الأماكن التي شهدت تواصلًا بين القوميات التي تعمل في الزراعة والقوميات الرعوية.  
وتباعًا مع تغير المناخ وتغير البيئة، شهدت المعالم الثقافية تبادلًا بين المراعي والحقول عدة مرات، وكانت حلقة مهمة في سلسلة التواصل بين المناطق الداخلية في الصين وبين المناطق الحدودية، ولم تجعل تطور التاريخ الصيني أكثر تميزًا فحسب، بل ربطت بين المراعي الواسعة والغابات المترامية وبين المناطق الأساسية في البلاد بشكل وثيق، وأصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من التاريخ الصيني. 
إن الأسرات الثلاث لياو، يوان، وواي الشمالية والتي كونتها قوميات شيان باي، تشي دان، ومنغوليا والتي ترجع أصولها إلى منطقة جبال أن لينغ الكبرى (جبال خين جان) قد أثرت تأثيرًا عميقًا في مسار تطور التاريخ الصيني. وقبل ظهور الحضارة الصناعية ووسائل المواصلات الحديثة كانت القوميات الشمالية التي تتنقل على نطاق واسع بمثابة جسر ووسيط طبيعي للتبادل الثقافي بين الشرق والغرب. وكانت القوميات القديمة في منغوليا الداخلية هي أول المطورين وأول المشاركين في "طريق حرير المراعي" هو الجزء الذي يصل بين مراعي منغوليا الداخلية وبين أوراسيا.
وكشف مو جيو أن مناطق منغوليا الداخلية نقطة محورية في عملية فتح "طريق الشاي" في العصر الحديث، طريق تجاري يبدأ من جنوب الصين، ويخترق ثماني مقاطعات ثم يمتد لدولة منغوليا ومنها إلى مدينة سان بطرسبرج في روسيا، وكان طريقًا تجاريًّا مهمًّا ربط بين روسيا والصين بداية من أواخر القرن السابع عشر حتى أوائل القرن العشرين، وأهم السلع المتداولة خلاله كان الشاي، ومنه جاء الاسم. 
وأرى إن الاقتصاد الرعوي التقليدي وأسلوب الحياة الذي يعتمد على صيد الحيوانات والأسماك قد أوجد علاقة اعتمادية خاصة بين القوميات التي تعيش هناك وبين الطبيعة، وانتشرت بين القوميات الديانة الشامانية لفترة طويلة، وبرغم أن أسلوب الحياة قد تغير مبكرًا، إلا أن التقاليد الشامانية التي بقيت في حياة العديد من القوميات مثل منغوليا، داو وو آر، أه وين كه، وأه لون تشون وغيرها من القوميات كانت بارزة. فهم يبجلون السماء الزرقاء، ويوقرون الأرض، ويبجلون كذلك كل ما في الطبيعة وكل الموجودات. إن الوعي الذي يتجلى في العادات الحياتية والسلوكيات اليومية التي تعكس حب الطبيعة وتقدير البيئة هي إرث قيّم وثمين لثقافة قوميات منغوليا الداخلية، وهذا المفهوم الإيكولوجي البسيط الذي شكله تاريخ تلك القوميات هو واحد من القيم الجوهرية "لثقافة المراعي".
وقال مو جيو أنه خلال فترات تاريخية طويلة كانت منغوليا الداخلية مسرحًا لأنشطة قوميات الشمال، ولكن في العصور الحديثة ظهرت موجتان للهجرة، الأولى موجة "الاندفاع للشمال" والتي قامت بها جماعات من شاندونغ وخه بيي، والثانية موجة "الذهاب للبوابة الغربية" والتي قامت بها جماعات من شانشي وشنشي، وهذا بالإضافة إلى الهجرات التي تلت تأسيس جمهورية الصين الشعبية مع الاتجاه نحو بناء وتعمير المناطق الحدودية وتنمية الغابات، الأمر الذي غير بالتدريج من التركيبة السكانية والعرقية لمنغوليا الداخلية، ويبلغ حاليًا عدد السكان الدائمين في منغوليا الداخلية قرابة 25 مليون و200 ألف نسمة، ويتشكل الهيكل الأساسي من المنغوليين، بينما تشكل قومية الخان الأغلبية، وتعيش العديد من القوميات في سلام وتناغم مثل قوميات أه وين كه، دا وو آر، أه لون تشون، مان، وخوي، وكذلك قوميات الروس والكوريين وغيرهم. 

إن التغيرات في التركيبة السكانية قد أحدثت تفاعلًا عميقًا بين الثقافة الزراعية من ناحيةٍ وبين الثقافة الرعوية التقليدية وثقافة الصيد من ناحية أخرى، كما أن الهجرات التي استمرت لمئات السنين قد حملت معها الجينات الثقافية للمناطق الداخلية المختلفة، تلك الجينات التي امتزجت وأثرت وتأثرت بالفنون والثقافات والعادات الحياتية والعادات اللغوية للقوميات المختلفة والقبائل المنغولية المتباينة، ونتجت عنها بعض الأشكال الحضارية الجديدة، الأمر الذي جعل الثقافة الإقليمية والفلكلور المحلي لجميع مناطق منغوليا الداخلية تتميز بالتنوع والغنى والتألق.
أشار إن منغوليا هي أول منطقة حكم ذاتي عرقي إقليمي في الصين، وظهرت منطقة الحكم الذاتي في فترة حرب التحرير. كما أن تأسيس تلك المنطقة كان له أبلغ الأثر في تكامل مراعي منغوليا الداخلية مترامية الأطراف مع مناطق الشمال الشرقي التي تم تحريرها، لتصبح حدودًا جنبية داعمة للحزب الشيوعي الصيني وللجيش في بناء "قاعدة شمالية شرقية صلبة". 
كما أن وحدات سلاح الفرسان في منغوليا الداخلية والتي نظمتها حكومة منغوليا الداخلية ذاتية الحكم قد شاركت بشكل مباشر في المعارك الاستراتيجية الفاصلة في الشمال وفي الشمال الشرقي، وقدم أبناء منغوليا الداخلية من كل القوميات إسهامات بارزة في تأسيس الجمهورية. ومنذ الإصلاح والانفتاح ولا سيّما مع حلول القرن الجديد، استغلت منغوليا الداخلية الفرص الاستراتيجية ومنها تطبيق الدولة لتطوير الأجزاء الغربية وتنشيط الأجزاء الشمالية الشرقية وغيرها، وحقق الاقتصاد نموًّا سريعًا، كما أن معدلات سرعة التنمية بها استمرت لسنوات عديدة في مقدمة معدلات التنمية في الصين. 
وفي عام 2016 بلغ الناتج القومي الإجمالي لمنغوليا الداخلية تريليون و863 مليار و260 مليون يوان، وبلغ متوسط نصيب الفرد 74 ألف يوان. إن عائدات الميزانية العامة والزيادة في دخول سكان الريف والحضر بها تزيد على المعدلات القومية العامة. وفي السنوات الأخيرة أتاح تأسيس مبادرة "الحزام والطريق" التي تتبناها الصين وكذلك استراتيجية التنمية المنسقة لمنطقة بكين - تيانجين - خه بيي فرصًا تاريخية جديدة للمنطقة ذاتية الحكم. 
نماذج من المدوينات المختصرة:
متحف منغوليا الداخلية: 
أول متحف تم بناؤه في منطقة عرقية صينيّة، وتزيد معروضاته عن 120 ألف قطعة (مجموعة، ويضم عينات حفرية يتراوح تاريخها بين 250 مليون عام ومليون عام، وتغطي الحفريات تلك الفترة بشكل كامل بلا انقطاع يذكر، أما حفريات ديناصور نايروسورس تشاجينيسيس الموجودة في المتحف فهي أضخم حفرية لديناصور من العصر الطباشيري في آسيا، ومن أنفس المجموعات التي يشملها المتحف مجموعة التحف التي ترجع لقوميات البدو الرحل في الأجزاء الشمالية من الصين القديمة، أما مجموعة التحف التي تخص القومية المنغولية والمعروضة في هذا المتحف فلا يوجد مثلها في الكمية أو النوعية في أي من المتاحف المشابهة، ولكي تعرف منغوليا الداخلية فلا بدَّ وأن تبدأ من هنا. 
إنسان خه تاو: 
حفظت ثنايا ضفتي نهر سارا أوسو الرملية التغيرات المناخية والتحولات الجيولوجية التي طرأت على هضبة أوردس طيلة خمسمئة ألف عام بشكل أمين. وفي عام 1922 وجد الراهب الفرنسي إميل ليسينت والباحث البلجيكي تايلهارد دو تشارديان أحد الأسنان القاطعة المتحجرة على شكل المجرفة، وبالفحص وجد أنها تنتمي إلى جنس الإنسان الحديث "هومو سابينس"، ويقدر عمرها بحوالي سبعين ألف عام، وهي الفترة الحاسمة في وجود الإنسان الحديث في قارة آسيا. إن تلك السِنَّة القاطعة لهي دليل دامغ على تفرد وخصوصية الإنسان الصيني، وفي ما بعد أطلق الأثري الصيني باي وين جونغ على صاحب تلك السنة "إنسان خه تاو".
التنين الصيني الأول:
في عام 1971 عثر أحد الرعاة ويدعى جانغ فينغ شيانغ في لواء وينغ نيو ته (أونج نيود) على "خطاف حديدي" فوق الجبل وأعطاه لابنه ليلعب به، وبعد أن قام بتلميعه اكتشف أنه تنينٌ من الجاد (اليشم). وهذا التنّين اشتراه مركز اللواء الثقافي بثلاثين يوان، وتم وضعه في مكان غير بارز، وفي عام 1984 تم اختيار هذه القطعة وأُرسلت للعرض في بكين، وصنفها كل من شين تشونغ وين وسو بينغ تشي باعتبارها "تنينًا صينيًّا يعود لعصور ما قبل التاريخ"، واشتهرت بكونها "التنين الصيني الأول". والآن تعدى تأمين العرض الخاص بها مليار يوان صيني. 
أقدم جراحة أسنان:
في عام 2003 وبعد انتهاء أعمال الحفر والتنقيب في بقايا موقع شين لونغ قاو الذي ينتمي لحضارة شين لونغ وا في مدينة تشي فينغ، لاحظ الباحثون وجود فتحات تم حفرها في سنتين في الجهة اليُمنى من جمجمة صاحب المقبرة رقم M24، وتم إحداث الثقوب بواسطة مثقاب بدائي وبشكل خشن، ويمكن أن يكون الغرض من تلك الثقوب هو تخفيف ألم الأسنان، ويدل هذا على أن طب الأسنان قد تمت ممارسته في تلك الأنحاء قبل ثمانية آلاف عام، وتلك هي أول عملية جراحية للأسنان تمت على يد الصينيين الأوائل قبل التاريخ.