ميسرة هاشم.. أنثى تزاول الشعر بلغة الجنون في 'عربدة شفاه'

المشهد الشعري لميسرة هاشم يتميز بثيمة التمرد لكن بدون فوضى أو إخلال بالموازين الثقافية الراقية، والتعبير العاطفي لديها يتضح في قصيدة 'خطوط شهوانية' التي تفيض بصور شعرية ثرية بالوله والهيام والولع الصوفي.
ميسرة تعيش التصوف في حضرة الوطن، تناغي به عمقه وتاريخه

لا يرتقي العمل الفني بنفسه ما لم يرتق بمتلقيه الذي حرص على التوغل بداخله عبر قراءة أو رؤية أو أية وسيلة أخرى للتلقي، وفي الشعر تحديدا يتفق النقاد على أن القصيدة التي لا تؤثر بالمتلقي ولا تمنحه أفقا آخر هي قصيدة ميتة منذ ولادتها، وبتعبير أدق هي خالية من الروح أصلا، والحس الصادق هو الذي يمنح النص الشعري العلاقة المطلوبة بين الشاعر والمتلقي، لذلك يجب أن يحرص الشاعر على توظيف كل أحاسيسه بداخل نصه الشعري دون الالتفات الى جوانب مجتمعية قد تقيد شعريته أو شاعريته.
 فالأدب ليس تجربة حسية فحسب، بل هو اتحاد تجارب إن لم تدون كاملة فإنها في وقت آخر ستكون محض مذكرات غير مرتبة، وحتما يبقى أسلوب الشاعر مرتهن بشخصيته، لذلك فهو يعكس داخله ويمثله تمثيلا صادقا.
معي الآن مجموعة شعرية بعنوان "عربدة شفاه" تعود للشاعرة ميسرة هاشم، وجدت فيها الكثير من الأحاسيس الصادقة واللغة المشبعة بالشعر، ومن خلال تلك النصوص تعرفت على شخصية الشاعرة عبر الأسلوب المثير والراقي الذي منحني حق الاحتفاظ بالنصوص في العمق، كونها اقتحمت داخلي وداعبت ذائقتي التي طالما بحثت عن هكذا أحاسيس متمردة.

ألم تختزل أغلب هواجس الأنثى عبر هذا التمرد على المتداول؟
ألم تختزل أغلب هواجس الأنثى عبر هذا التمرد على المتداول؟

مرة قرأت عبارة لـشوبنهاور يقول فيها "الأسلوب هو تقاطيع الذهن وملامحه" وأنا أقول: اني ومن خلال نصوص هذه الشاعرة وصلت الى اغلب ملامحها ووجدتها تحتوي فعلاً إبداعياً كبيراً وحاسة جمالية غير تقليدية، وحين توغلت بها أكثر وجدت ثيمة التمرد تعتلي مشهدها الشعري لكن بدون فوضى أو إخلال بالموازين الثقافية الراقية، بل وجدتها فنانة تزاول الشعر بحرفة وذائقة تليق بالكبار فكانت كبيرة، ولعل هذا المقطع الشعري الذي اخترته من قصيدة "خطوط شهوانية" والذي تقول فيه:
"السلام على الذين يبحثون بين خطوط يدي/ ليغريهم الملمس الناعم/ يفسرون الحب لآلاف القصص/ ويبرمون معاهداتهم مع الفرح/ لتكون الرؤية غبارية/ تصارع ثيران حدبثهم بمساحة الرأس".
يمنحكم صورة أولى عن التقنية الشعرية التي تمتلكها شاعرتنا الراقية والتي تبدع فيها من خلال التعبير العاطفي، وقد صادفتها في أكثر من صورة شعرية وقد اعتلاها سيل من الوله والهيام والولع الصوفي، رتبته وفق اندلاق الذات على طاولة الأنوثة الحقّة، لذلك لم يكن من الصعب على المتلقي لشعر ميسرة أن يعثر على ذاتها وهواجسها اللامتخفية كما يفعلن بعض الشاعرات اللوات يشفّرن حوارات العمق خشية ثورة القبيلة.
كما إن هذه الشاعرة تمتاز بكونها قادرة على اخذ المتلقي الى أكثر من عالم من خلال تكوينها لانطولوجيا تترجم كل انفعالاتها بدون أن تجد تكرارا أو تشابها في الصور الشعرية، فهي قادرة على التلاعب بالمفردة وجعل منظومة البث عندها غير مستقرة على ثيمة أو لغة معينة، بل إنها وربما لست مبالغاً حين أقول إنها الوحيدة بين بنات جيلها القادرة على نقل الرائي الى أزمنة مختلفة عنه، ومحيطات لم يمر بها مركبه، كونها مجموعة تجارب رصّت نفسها دون أن تتقولب.
ولعل قصيدتها الموسومة والتي اخترت منها هذا المقطع ليدلنا على ثيمة مغايرة تماماً للسائد، تكفي لإثبات قدرتها على التلاعب بالمفردة وتحقيق أكثر من إزاحة بضربة شعرية واحدة.
وها هي هنا تقول:
"أتناولك وحدي دون شريك/فأنا أنثى النار/عاشقة / وديعة / مطيعة / كافرة /بكل مفاهيم الجهل/ لاالتزم القواعد الجسدية / فلامفر من حبي اليك/ زمقام الرغبة يفتك بي / يخترقني كرصاية رحمة / حين يطلبها العليل".
ألم تكن ميسرة هاشم هنا متفوقة على السائد من خلال التصعيد الدلالي للنص؟ ألم تختزل اغلب هواجس الأنثى عبر هذا التمرد على المتداول في الأحاسيس المختنقة؟ لعمري إنها كانت أكثر من متفوقة.
في تجربة أخرى للشاعرة، وهي تجربة وجدانية خالصة، وجدتها تعيش التصوف في حضرة الوطن، تناغي به عمقه وتاريخه، وتبتهل إليه بحوار قدّاسي اعتلاه عتاب حنون، ومناجاة لا تفسد للود المتبادل أية قضية، فرقّة ميسرة هاشم بدت اكبر بكثير من المعتاد، كيف لا والمتلقي هنا (الوطن) الذي تخشى عليه من نفسها والآخرين، لقد عاشت شاعرتنا في قصيدة "صوت الطوفان" طقوساً خالية من البكاء، لكنها لم تخل من الشجن والألم الذي كفكفت دواخله وقلمت أظفار تساقطه، خوفاً من كشف وجعها على الآخرين حيث قالت:
"أوصدوا الأبواب / هناك أشلاء تحدق / جثامين قريبة الإبتعاد / تنسج بينها خيوط الوداع / عائمة فوق رصيف الوطن والوطن ليس منهم / مدان بدمي / مدان بعطش عمري/ إسقي يا كهرمانة أرض وطني/ أحرقت لأجله آلاف الأحداق/ فلا تسألي أمي عن النواح / لم يبق لها غير حكايات الجدران".
لقد كانت الشاعرة هنا وبعيداً عن الحوار مع وطنها، تمتلك بيان اتجاهات الرؤى الخاصة بها، وترسمها عبر تسربل شفيف وراء قلبها الذي تواجد بداخل النص عاشقاً / ثائراً / متمرداً .. لذلك أنتجت نصاً غير متكلف، وخال من شوائب النواح او الصراخ الجنائزي، بل جعلته عتاب موجوعين فقط.
وفي الشجن العاطفي لم تتخلف شاعرتنا كثيراً عن ركب الأنثى الشرقية المواظبة على وضع نفسها بصفة الاستثناء عن باقي النسوة، فهي تنظر نفسها مكتملة وغير قابلة للاستبدال، وان حصل فإنها حتما ستكون تلك الناقمة الفاضحة لوجعها عبر منظومة البث الشعري الذي تجيده كثيراً شاعرتنا التي نحتفي بها هنا. وقد وجدت ذلك جلياً في قصيدة "لست عاشقة" التي استعرت منها هذا المقطع الذي تقول فيه:
"أنا دائرة عطر فوق عنق الشفاه / ثرثرة الأقدام على الجسد / غطاء اليسر عند الغرق/ إضاءات الشموع فوق جفن السهر / لوعة الآه والخدر/ باسطة/ قابضة / والنازلة عوماً وسط البحر / أكسر جسارة الخجل".
لقد تجنبت الشاعرة هنا الاستعارات والأنماط القديمة في النشيج الكتابي، بل خلقت لنفسها مجازات أوسع وتوغلت بعيداً حيث روحها التي تعيش اللهفة والعشق الصادق لذلك مررت لنا وبكل سهولة عاطفة وانفعال حقيقيين، فكان لزاماً علينا ان نقرّ بإبداعها الشعري الذي كان حاضرا في قصائد أخرى تحتويها مجموعة النصوص التي حصلت عليها من الشاعرة ذاتها، فهناك أكثر من نص يشير الى انها شاعرة متمكنة قادرة على أن تخلق لها عالماً خاصاً وطريقاً متفرداً في المشهد الشعري.