مينا راضي تقدم تأملات في الحياة والغربة بـ'قلمُ مغترب'

الكاتبة العراقية الشابة والمقيمة في كندا تتحدث في نصوص كتابها عن معنى الانتماء إلى الأوطان.

عن دار "ببلومانيا للنشر والتوزيع- مصر" صدرت للكاتبة العراقية الشابة والمقيمة في كندا مينا راضي نصوصٌ، بعنوان "قلمٌ مغترب"، وهذه النصوص الصادرة عام 2022 تشكّل عملها الإبداعي الأول في عالم الكتابة، ولعل المشكلة التي تعترض الناقد، وهو بصدد قراءة تلكم النصوص، هي تصنيفها وفق الأجناس الأدبية المعروفة. هل تنتمي للخاطرة أو السيرة الذاتية أو القصة القصيرة أو قصيدة النثر؟

لقد تركت الكاتبة ذلك التجنيس والتوصيف للقارئ، واكتفت بمنحها له، وهي منهمكة في سِفْرها التأملي الجميل، متخذة من لغتها الأنيقة والمنتقاة مدخلا فسيحا لفضاء نصوصها.

"تعلمتُ أن أصنع لنفسي أوطانا، كأسقف النخيل، تحميني من وابل الغربة"، هذه العبارة المعبأة بهمس شعري، تجعلنا نستشعر القيمة المضافة لهذه النصوص التي تحفل بالحزن والاغتراب، ولعل الدهشة ترافقنا إذا علمنا بأن هجرتها عن الوطن قد تمت في بواكير طفولتها، مما يثير الاستغراب عن هذا التوهج والحزن، ولماذا يبقى الوطن في الهواء الأول الذي استنشقته منذ ولادتها، وبقي محبوسا في أعماقها، مع أنها غادرت العراقَ طفلةً صغيرة، لم يمنحها الزمن فرصة لترى بعض أوجاعه، ففي هذه النصوص تتحدث عن أغراض البيت التي أصبحت يتيمة بدون أصحابها الذين هاجروا، فقد أيقظت الأحاسيس في لُبّ الأشياء التي فقدت قيمتها في غياب الأهل، وكأنها ترى فيها صور الفردوس الأمومي المفقود، وذلك: "لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها، نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة" كما يرى الفيلسوف الفرنسي باشلر.

تتحدث في نصوصها عن بغداد من خلال نهر دجلة والشوارع والبيوت والوجوه، عن ملامح الجدة التي تغدقها بالعطاء العاطفي، عن استعادتها للوطن من خلال تقمّص همومه، حينما تغلق باب غرفتها في المهجر، وتُطفئ المصابيح الكهربائية، كيف تعيش عملية الانقطاع الكهربائي الشائع في العراق، وكي تجرب ما يعانيه الناس هناك وهم يواجهون الحرّ والقرّ. تتحدث عن روحها التي تتسلق قصائد الجواهري والسياب، من خلال تلك القوافي التي تحملها نحو عذوق النخل، وكأنها تهفو إلى الجمال الروحي من خلال إبداع الشعر الذي يتحدث عن عمق هموم الوطن ووصف جماله وروحه المبدعة.

كما تحدثت في نص آخر عن معنى الانتماء إلى الأوطان، والتي وصفتها بشكل دقيق، حيث البهاء في الغنى والثراء الروحي والحضاري من ناحية، وحيث الوجه القبيح للوطن والذي يتمثل بالفقر الذي وصفته "بأنه يفتح توافذ صغيرة في جلود الأحذية".

أسهبت في الحديث عن انتفاضة تشرين، وكأنها تعيش مع الشباب الذين قدموا أرواحهم في سبيل تحرير الوطن من الجهل والفساد والظلم، وكيف أن انتفاضتهم قد قُمعت. لقد عبّرت عن هؤلاء الأبطال بمجد الأمة، ونعتتهم بأنهم الذين رفعوا صوتهم عاليا للوطن، وبأنهم "دفعوا فاتورة هجرتي"، بمعنى أن هجرتها لم تكن سوى نتيجة لهذا التدهور المُريع الذي شهده البلد.

تناولت في نصوصها مفهوم الغربة والتي وصفتها بأنها عملية تخدير جماعي لذاتها، وكأنها تعقد صفقة مع الحياة، حيث أن شرط التغرب هو عدم صلاحية الوطن للعيش، لذلك تجعل من ال (أين) أقصى حالات العزلة واليأس، هذا السؤال المتفجع، وذو الدلالات السائبة، يجعل الأمكنة القادمة في اللاوعي دون سقف التوقع.

تناولت في نصوصها مسائل كثيرة، ومنها الحب والنسيان والصدف في الحياة، ورغم رومانسية الطرح ومثاليته، غير أنها تجعل ما تتناوله مقنعا، من حيث إحاطته بجمالية التشبيه، فقد تعرضت لظواهر مختلفة وعادات غير محمودة، تغرق فيها المجتمعات، ومنها العلاقات الاجتماعية المزيفة، والسلوكيات الحادة، كما تطرقت للانكسارات الحادة في شخصية الفرد وهو يجابه سلطة الآخر، بحيث أنه لا بدّ للتغافل والتغابي عن آراء الناس. وفي كل تلك الظواهر تبدو لنا وهي متسلحة بحكمة وبصيرة قد لا يتوفران لمثل أقرانها حديثي السن، بحيث أن القارئ يشعر بأنه أمام كاتبة عركتها الحياة، فهي تُشَبّه الحياة بالطفلة التي لا يجوز أن نرسم لها مساراتٍ مُحَدَدة، بل نتركها تسير بعفوية، وتعتبر أن الخوف هالةٌ من السراب وإجهاض للفكرة وردعٌ لانتصارات مؤجلة، وتعرّف الصُدفة بأنها "مَطبٌّ من الورد يتوسط شوارعنا المرصوفة بالكآبة"، كما تُعرّف النجاح بأنه ثأر من الظروف المُحبطة للإنسان ففي نجاحه انتصار لتلك العوائق، كما تعبر عن الغربة بأنها راهبة متعبدة، بدلالة العُزلة الطوعية. وحينما تنظر الكاتبة إلى أجهزة الهواتف المنتشرة في هذا الزمن، فتراها مجرد أجهزة منافقة تصل البشر ببعضهم البعض، ولكنها تتحول إلى أداة استئصال لروح الإلفة الإنسانية.

 وفي كل ذلك فقد ازدحمت نصوصها بحمولة من الأفكار المتصارعة والتي تدلّ على تأملٍ وحكمةٍ.

لقد تعاملت الكاتبة مع اللغة كعازفة للموسيقى، فتأتي العبارات زاخرة بالجمال، بحيث أنها تجعل من قواعد اللغة مجالا للوقائع الحياتية، فحينما تصدت لمسألة المبتدأ والذي يكون مرفوعا وفق قواعد اللغة، فتحاول أن تلوي عنقه في الحياة وليس في الكتب، حيث ترى بأن البدايات -وهي من الجذر اللغوي للمبتدأ- تكون مكسورة، أي متعثرة، ومن هنا فقد استعارت من اللغة نهجا معرفيا عماده الفلسفة، والتي تسير بخط عكسي مع القواعد اللغوية التي (ترفع) من شأن البدايات، ومن هنا تأتي القدرة على المعالجة والمقارنة والاستنتاج.

كما تكللت نصوصها بالهمس الشعري، حيث تأتي الكثير من الجمل وكأنها تنأى عن النثر وتقترب من الشعر من حيث قوتها التعبيرية، والجمال الكامن في التركيب، فهي تحتسي الحياةَ قطرة قطرة، كما جعلت من الحروف سفنا تُبحر في محيطات الحبر، ووصفت الخيبة وهي تتدلى من الأهداب، والأحلام تلتصق بالوسائد.

ومع أن الكاتبة قد استخدمت مفردات قاموسية، وجاءت نصوصها حافلة بقوة تعبيرية وبمفردات لا غبار على فصاحتها، مما يوحي بمَلَكَتها اللغوية، ولكنّ النص النثري يبقى عائما ما لم يتناول موضوعا أو فكرة أو قصة، وواقعنا زاخر بالأمثلة، وبإمكان الكاتبة الشابة المبدعة مينا راضي أن تقتبس منه ما تشاء، فلا ينبغي أن نعتمد على النصوص المفتوحة، بل نحتاج إلى المضامين التي بدورها ستساهم في إغناء النص وإعطائه ملامحه، وبعكس ذلك ستكون الكتابة مجرد قدرات لغوية عائمة في محيطها الإنشائي.