مَن لم يوّقع بعد صفقة الشيطان مع الإعلام الرقمي


ليست هناك حاجة إلى "الأخ الأكبر" لحرمان الناس من استقلاليتهم ونضجهم وتاريخهم. بل سيحب الناس اضطهاد أنفسهم، وسيهيمون ولعا بالتقنيات التي تبطل قدرتهم على التفكير.
منصات التواصل الاجتماعي تقوم على نموذج أعمال قائم على المراقبة ومصمم على التحكم بخبراتنا البشرية والتلاعب بها واستخراجها بأي ثمن

يستخدم المخرج جيف أورلوفسكي مصطلح “صفقة الشيطان” وهو يتحدث عن نموذج العمل الذي غيّر طريقة تفكير وسلوك الإنسان المعاصر، عندما صار يعيش واقعا افتراضيا متخلّيا عن الطبيعة التاريخية السليمة لتواصل المجتمع.

عندما يتصور الناس المرتبطون بشغف قاتل أن التكنولوجيا ستتفوق على فكرة المجتمع السوي، فإنهم يتحدثون عن السهولة التي يقضون بها أمورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وعندما يعتقدون بتفوق التكنولوجيا على المجتمع، يفكرون كثيرا في “ذا تيرميناتور” فيلم المخرج الذكي جيمس كاميرون، الذي عالج بوضوح صراع الإنسان مع الآلة والروبوتات المضادة للرصاص “برمجتني كي أحميك!” على مستوى مقابل يستعيدون “الأخ الأكبر” ثيمة رواية جورج أورويل 1984، بوصفها رمزا معبرا بامتياز عن القمع الخارجي المطلق.

لكن أورلوفسكي الذي قدم لنا مؤخرا فيلما وثائقيا على درجة من الأهمية كشف فيه أسرار ومصائب فيسبوك وتويتر، يحذرنا بثقة من استمرارية الانتقال بلا هوادة إلى تكنولوجيا تتحكم بنا، بينما نعتقد أنها تربطنا ببعضنا البعض.

ويكتب “في جميع الاحتمالات، لن تقوينا التكنولوجيا. بدلا من ذلك سنخضع أنفسنا لصفقة الشيطان عندما نكشف خصوصياتنا وأهواءنا وأمزجتنا بلا وعي، ونفرط بتماسكنا الاجتماعي تحت ضغط تلبية رغباتنا في الاتصالات السريعة”.

في الواقع أن حياتنا مع غوغل وتويتر وفيسبوك وأمازون وإنستغرام ويوتيوب، معضلة اجتماعية أكثر من كونها تواصلا، لأننا نعيش بالفعل في نسخة من عالم جديد سبق وأن شخصه الكاتب البريطاني ألدوس هكسلي في رواية “العالم الطريف” عندما نستمر بتسلية أنفسنا بينما نحن ندفع أدمغتنا إلى الموت!

في رؤية هكسلي القصصية ليست هناك حاجة إلى “الأخ الأكبر” لحرمان الناس من استقلاليتهم ونضجهم وتاريخهم. بل سيحب الناس اضطهاد أنفسهم، وسيهيمون ولعا بالتقنيات التي تبطل قدرتهم على التفكير.

فالتكنولوجيا تهدد مجتمعنا الإنساني مثلما تؤثر على الديمقراطية والحكومات الرشيدة، لأنها أصلا تمكث في غرف نومنا وأحيانا تشاركنا الاستلقاء على وسائدنا لتكون أقرب إلى التأثير على صحتنا العقلية. ننام ونستيقظ على المكالمات الهاتفية، ونأتي بالرسائل والتنبيهات الرنانة إلى طاولة الطعام، وبذلك نفسد عن سبق الإصرار والترصد متعة تذوقنا، نثق بشكل أعمى في المكان الذي يرشدنا إليه الهاتف، فغوغل رب العالم الجديد، بغض النظر عن التفكير “أنا أنظر إلى هاتفي، إذن أنا موجود”!

إنها مشكلة أساسية في عصرنا، تكمن وراء العديد من النزاعات المجتمعية الأخرى التي تتطلب حلا وسطا وفهما مشتركا لإصلاحها.

فمنصات التواصل الاجتماعي تقوم على نموذج أعمال قائم على المراقبة ومصمم على التحكم بخبراتنا البشرية والتلاعب بها واستخراجها بأي ثمن، مما يتسبب في انهيار نظام المعلومات لدينا والاتفاق الإنساني المشترك على الحقيقة. بينما لا يبنى هذا النموذج التجاري إلا على استغلاله للبشر، والنكبة تكمن في قبول الإنسان له والإدمان عليه والدفاع عنه وتشجيع الآخر على التفاعل معه.

هناك واقع تكنولوجي ينظر عادة إلى الجزء المفيد فيه، وهو لا يشكل إلا نسبة مما يلحق من أضرار بطريقة تفكير الإنسان، فنصف سكان الدول المستقرة تقريبا لديهم اتصال دائم بالإنترنت، وهذا أمر يبدو للوهلة الأولى رائعا لأنه يسهّل عليهم مجريات حياتهم، لكننا مع ذلك نعجز عن الإجابة على سؤال لماذا يزداد الإنسان كآبة ويفتقد إلى جودة النوم السابقة ويقدم الشباب على الانتحار أكثر مما كان، في عالم جديد تديره بسيطرة هائلة إمبراطوريات فيسبوك وغوغل وأمازون.

عندما سأل عالم الاجتماع الشهير يوفال نوح هراري عن حال الإنسان اليوم، رد بقوله إنه أفضل من إنسان الأمس، فقد كان يقتل بالحروب واليوم يقتل الإنسان نفسه بالانتحار، وكان يموت من الجوع واليوم يموت بسبب البدانة المفرطة، كان الإنسان يحتاج أشهرا لمعرفة أخبار دولة مجاورة، واليوم يعرف أحداث العالم برمته في لحظة حدوثها، لكنه لا يميز بالكاد بين الأخبار الصحيحة عن المزيفة.

ببساطة، لأن وسائل التواصل الاجتماعي تعرقل العمل الجماعي المشترك، فخوارزميات فيسبوك على سبيل المثال، تستغل انجذاب الدماغ البشري إلى الانقسام. وبالاستمرارية تغذي المستخدمين بالمزيد من أفكار الفرقة عبر المحتوى المثير للانقسام في محاولة لجذب انتباه المستخدم وزيادة الوقت الذي يقضيه على المنصة.

كذلك وجدت دراسة سابقة لمركز بيو للأبحاث أن الكراهية والانقسام الحزبي في الولايات المتحدة “أعمق وأوسع من أي وقت مضى خلال العقدين الماضيين”. والمثال الأميركي البعيد فقط للتذكير بأن عالمنا العربي يعيش أسوأ أزمة تفرقة طائفية ودينية على مدار التاريخ على مواقع التواصل تحولت بشكل سريع إلى خطاب السياسيين ورجال الدين.

لذلك ينبه تريستان هاريس المؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية، إلى أنه قبل أن تتغلب التكنولوجيا على نقاط القوة البشرية فإنها ستطغى على نقاط الضعف البشرية. وهكذا تتعلم الخوارزميات المتطورة نقاط ضعفنا العاطفية وتستغلها من أجل الربح بطرق خبيثة.

ويقول هاريس الذي سبق وأن عمل في منصب خبير أخلاقيات صناعة المحتوى في غوغل “من خلال مراقبة جميع أنشطتنا على الإنترنت، يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي التنبؤ بمشاعرنا وسلوكياتنا. لقد استفادوا من هذه الأفكار وأقاموا مزادا علنيا للحصول على أعلى أسعار للإعلانات، وبالتالي أصبحوا من أغنى الشركات في تاريخ العالم”.

أجهزتنا الذكية لا تبيعنا أحذية فقط، بل تعمل بجد لاستهداف الأشخاص الذين لديهم قدرة عالية للدفع للتأثير عليهم بثمن بخس وبسهولة إغراء استثنائية. وهذا يفسر لنا لماذا تتضاعف حملات التضليل في كل بلدان العالم عما كانت عليه من قبل، الهواتف الذكية تعطيك الإجابة بسهولة!

وبعد ثلاث سنوات من العمل المثمر للمخرج جيف أورلوفسكي على فيلمه The Social Dilemma  “معضلة السوشيال ميديا” يرى أن تلك محنة أساسية ومعاصرة لمجتمعاتنا وتكمن خلفها غالبية الصراعات الإثنية والطائفية والقومية والتي تتطلب فهما مشتركا لعلاجها. إلا إذا بقيت المجتمعات تصر على تغذية انعكاسات الأيديولوجيات واختلاف الأديان والطوائف، وتكتفي بالاستماع إلى أولئك الفظيعين من السياسيين ورجال الدين ذوي الآراء المتعارضة، فإنها لن تتمكن أبدا من بناء الجسور ومعالجة التحديات التي ابتليت بها البشرية.

في غياب الهروب عبر الزمن، تحتاج البشرية اليوم إلى جمع شمل أصوات المنظمات والعلماء المتفانين وأولئك الذين عانوا من أضرار التكنولوجيا الاستغلالية، من أجل الوقوف بوجه الشركات العملاقة التي لا يمكن الوثوق بوعودها في تغيير نموذج أعمالها من أجل مصلحة المجتمعات، فمن أوجد تلك المعضلة لا يريد أن يحلها، الإنسان ابتكر التكنولوجيا، وعليه مسؤولية تغييرها.