نبيل الشاهد: النص العجائبي يستعصي على التقيد بأزمنة محددة

النصوص العجائبية تعادل متعة قراءتها متعة ما أنتجته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجهزة حديثة، مثل التليفزيون والفيديو والكمبيوتر والإنترنت.
الاعتماد على الحذف والإيجاز والخلاصة من أهم التقنيات التي اعتمدها الراوي الشعبي لتكثيف الحدث الحكائي
النص العجائبي نص إنساني الوجود عالمي المعنى
النصوص السردية العربية تمتاز بأنها نصوص مفتوحة

أكد د. نبيل الشاهد أستاذ البلاغة والنقد والأدب المقارن أن النص العجائبي يستعصي على التقيد بأزمنة محددة، فهو نص إنساني الوجود عالمي المعنى، ومع ذلك فالأمر لا يخلو من وجود بعض التحديدات الزمنية والتي من خلالها أمكن تحديد صورة عامة عن زمن النص، وأضاف في كتابه "الحكاية العجائبية في السرد العربي القديم" الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب: "ولأن النصين هما صورة سردية لروح القصة القصيرة التي تنحو نحو الإيجاز والتكثيف، لذلك كان الاعتماد على الحذف والإيجاز والخلاصة من أهم التقنيات التي اعتمدها الراوي الشعبي لتكثيف الحدث الحكائي، وذلك في مقابل غياب شبه عام لتقنية الوقفة، وقد ظل النص العجائبي في عمومه وفيا لحالة المطابقة بين زمن الحكاية وزمن الخطاب، رافضا لحالة الخروج على السواء، والتي هي من أهم مظاهر الزمن في النصوص الروائية والقصصية الحداثية".
وقال الشاهد: إن الحكاية الخرافية ليست بثرثرة فارغة من المعنى والدلالة، تحكيها العجائز للأطفال في ليالي الشتاء البارد. إنها خلاصة حكمة وبقايا معتقدات ظلت تسيطر على عقل الإنسان لعدة قرون، إنها الحس الشاعري للإيقاع الجمالي في الإنسان. ولذلك فالحكاية لم تكن أبدا وليدة إبداع فردي، ولا هي قاصرة في وجودها على حضارة بعينها، إنها نتاج عقل جمعي، كما أنها من أقدم الفنون ـ إن لم تكن أقدمها ـ التي عرفها الإنسان؛ فالحكي الخالص في حد ذاته فطرة بذرها الله في كينونة الإنسان الناطق، ولذلك لا يخلو تاريخ شعب من الشعوب من وجود حكايات تتشابه موضوعاتها مثلما تتشابه في هيكل بنائها، وإذا كان هذا الأمر يعني انتقال هذه الحكايات من حضارة لأخرى فإنه يعني أيضا تشابه الفطرة الإنسانية في ظروف معيشتها وطرق تفكيرها، الأمر الذي جعلها تنتج هذه الحكايات. 
وأشار إلى أنه في التراث العربي اكتملت القريحة الأدبية ببزوغ النصوص السردية كتقسيم شرعي للشعر الغنائي، وإذا كان الشعر مفخرة العرب وديوانها الأول ومنبع بلاغتها على المستوى الرسمي ـ إذا هو لا يقال كما قال الرسول: إلا في نواديها ـ فإن القص الشعبي ـ الحكايات والحواديت والمقامات والليالي والمسامرات والسير ـ أصبح الآن قامة العرب التي يطاولون بها قامة الملاحم والأساطير التي ابتدعتها الحضارات الأخرى، ولذلك يقول د. السيد فضل: "لقد قامت الليالي ـ بوصفها أحد الأنواع السردية في القص الشعبي ـ بالدور نفسه الذي قامت به الملاحم القديمة بالنسبة للأدب الغربي في الحياة العربية" . 

القص المعرفي الخالص للحكي المتولد من القريحة الشعبية في العصور الوسطى
المطابقة بين زمن الحكاية وزمن الخطاب

ورأى الشاهد أن العالم شغف في العصور الوسطى بالحكاية وبالموضوع، بالخارق والمعجز والمستحيل والعجائبي الذي يخالط الواقع. وعلى سبيل المثال كان النص الألفليلي وما زال محور اهتمام عدد كبير من الدارسين والباحثين في العالم العربي وغيره، إذ أنه يمثل القص المعرفي الخالص للحكي المتولد من القريحة الشعبية في العصور الوسطى، وهي العصور التي اعتمدت في نقل معرفتها وحكاياتها الشعبية على أساس النقل الشفاهي، وقد ساعدت هذه الشفاهية على إدخال الكثير من التعديلات على النص الأصلي، الذي ظل يستوعب من خلال العقل الجمعي الكثير من المعارف والعلوم والثقافات المتداخلة مع الثقافة العربية الإسلامية.
وليس هذا قاصرا على النص الألفليلي، إذ إن معظم ـ إن لم يكن كل ـ النصوص السردية العربية تمتاز بأنها نصوص مفتوحة، ثرية، تدعو قارئها إلى الإسهام في إنتاجها والإضافة إلى دلالاتها. إنها نصوص حمالة أوجه، تمتلئ بالثغرات، تأخذ فعلا تأويليا لما لانهاية له من أفعال القراءة، تتشكل منذ لحظتها الأولى من تضافر عجيب بين الراوي والمروي له، تتعدد مغامراتها القصصية وتتنوع وحداتها السردية بشكل دائري ولا نهائي، فيها من قصص الجن والعفاريت والخيالي والعجائبي قدر ما فيها من الواقعي والحقيقي والمعاش، وفيها من قصص الحب والقيم والعواطف قدر ما فيها من قصص الإباحية الشبقية. تمتلئ بقصص الحيوان والطير والنوادر والأمثال والحكم بقدر ما تمتلئ بقصص الخلفاء والملوك والعامة وأصحاب العاهات والطبقات الشعبية. 
إنها نصوص تعادل متعة قراءتها متعة ما أنتجته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجهزة حديثة، مثل التليفزيون والفيديو والكمبيوتر والإنترنت، وغيرها من الأجهزة التي تعتمد على ثقافة التلقي السلبي وتغييب الوعي وإضعاف الحس. إنها المتعة التي لا تعادلها سوى متعة النص نفسه، إنها متعة النص أو لذته ـ بتعبير "رولان بارت" ـ التي لن تغيب أو تنمحي لأنها ببساطة كجبل الجليد الذي لا يكشف من نفسه سوى أقله. 
وتنهض مادة هذا البحث على دراسة كتاب "مائة ليلة وليلة" وكتاب "الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة"، وهما من التراث القصصي الشعبي العربي. وسعى الشاهد للبحث في الموضوع والشكل حيث رأى أن الفصل التعسفي بين الشكل والموضوع من قبيل الشطط والزيف المنهجي، وهذا ما تطمح الدراسة لتجاوزه، فهي لن تنظر للموضوع كمادة مستقلة في مقابل الشكل. بل ستحاول النظر إليهما كوحدة واحدة، إذ هما يكملان بعضهما البعض، لخلق النص الذي هو أعلى من حدود جزئياته، ولذلك ستكون الدراسة نصية تبدأ من الموضوع لتصل إلى الشكل والعكس. تحاول رصد الجدليات المتبادلة بينهما، مثلما تحاول استنطاق البنى السوسيولوجية داخل النص ذاته. 
ولفت الشاهد إلى أن لكتاب مائة ليلة وليلة خصوصية تاريخية، إذ إنه سابق لألف ليلة وليلة من ناحية الظهور، فهو النواة التي تطورت ليبزغ منها النص الكبير، كما أن محدودية لياليه جعلته أكثر تكثيفا واقترابا من روح القص القصير، من قبل أن تبزغ السردية الروائية ـ إن صح التعبير ـ في النص الألفليلي، كما أنه يحمل في طياته رائحة المغرب العربي كمكان صادر عنه الكتاب. وهو بذلك يؤكد على خصوصية الثقافة العربية سواء في المشرق أو المغرب في إنتاج نص الليالي. 
أما كتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، فقد دُونت حكاياته في القرن السابع الهجري كما اعتقد بذلك محقق الكتاب "هانز فير". وعلى الرغم من أن مقدمة الكتاب تنص على احتوائه لاثنتين وأربعين حكاية، غير أن المخطوط المحقق لا يحوى سوى ثماني عشرة حكاية منها، إذ لم يستطع المحقق ـ الألماني ـ العثور على الحكايات الأخرى. وقد نشر الكتاب للمرة الأولى بالعربية سنة 1956.
وأوضح أن للحكايات العجائبية طرائق استهلالية تستقي من زعموا المقفعية شكلها الأكثر تواترا، بالإضافة إلى تنويعاتها المتجددة باستخدام (قال ـ بلغني ـ ذكروا ـ حكى ـ حدثني). وهي جميعا طرائق تحيل على انفتاح النص نحو لا نهائي مجهول تستقي منه مادتها الحكائية. وبذلك يعد الاستهلال فاصلا بين ما كان ماضيا وبعيدا، وبين ما سيكون هنا والآن. وإذا كان هذا هو أحد أشكال التجديد في المستهل الحكائي فإن الباحث سعى إلى الدخول في المتن الحكائي ذاته، وذلك بغية تحديد المستهل الحكائي لفصله عن باقي الحكاية ليتسنى درسه كفعل تمهيدي تجاوزه بروب للدخول المباشر في عمق الحكاية.  

مؤلف الكتاب
د. الشاهد

وقال د. الشاهد إن الراوي يعد المحطة الرئيسة في تشكيل البنية السردية اللسانية، والتي تسعى في إمكانياتها الإرسالية نحو المناقلة أكثر من سعيها لتضمين الأفعال، ولذلك صح أن هذه الحكايات روايات أقوال أكثر منها روايات أفعال. وقد تنوعت أشكال وجود الراوي في هذه المناقلة بين راو غائب يستمد منه الراوي حكاياته، وبين راو خارجي يمسك بقبضة من حديد على الرواية التي يؤطر وجوده وجودها، وبين راو داخلي ينقسم على نفسه تبعا لدرجة مشاركته لفاعل أو مشارك. ويدخل المروي له في الحكاية ليعد شريكا في صنع الحدث وليتجاوز بأدواره المتعددة دور الأذن المصغية فقط لتلقي الحكاية. وإذا كانت جل الدراسات قد تجاوزت المروي له لحساب الراوي، إلا أن الدعوة مفتوحة منذ مقال جيرالد برنس وحتى ما حاولت إثارته من تصنيفات تخضع برمتها للمراجعة وإعادة النظر. 
في مضمون الأفعال الحكائية اعتمد الراوي على تقنية الإطار ليضمن لنفسه توالدا سرديا ممتد المفعول. وقد نوع الراوي في صيغ هذا الإطار حسب درجة علاقته بالحكاية، ولذلك بزغ (إطار الإطار ـ الإطار الرحمي ـ الإطار المشيمي). وقد قام هذا الإطار بوظيفة الأعمدة التحتية، التي تستطيع نتيجة ارتكازها على أرض العجائبي أن تحمل معمارا حكائيا يستطيع التشعب والتفرع ليقبل حكايات تهدف عبر بعد أفقي لكسب مزيد من الوقت يمكّن الراوي وعبر بعد رأسي من إدراج حكايات تعضد من الفكرة الرئيسة التي أراد الراوي من خلالها إحداث تأثير كبير على المروي له.
 وتبع الشاهد في تحليله لمضمون الأفعال السردية المنهج البروبي، وذلك باعتماد الوظائف الواحدة والثلاثين على النص موضوع الدراسة، وخلص إلى صلاحية هذا المنهج للتطبيق على معظم الحكايات العربية ذات البعد العجائبي مع الأخذ بعين الاعتبار قابلية هذا المنهج للتوسع أو الاختزال حسب ما يقتضيه النص المدروس نفسه من خصوصية. 
كما خلص من دراسة الشخصية إلى اهتمام الراوي بشخصية البطل عن غيره من الشخصيات، فهو الحامل للأيديولوجيا الفكرية والسمات الثقافية والشعبية لنموذج البطل الفرد / السوبرمان القادر على تحقيق آمال الحلم الشعبي. وقد اقتفى الراوي أثر البطل منذ لحظة ميلاده التي تشوق الجميع إليها ليولد البطل الذكر وسط جماعة تحيطه بالرعاية في مرحلة الرضاعة، ليشب وقد تعلم من علوم عصره ما يكفي لجعله قادرا على مواجهة الأزمات، التي عليه أن يتخطاها بصفاته الخلقية والخلقية. وتأتي شخصية المساعد لتمثل الساعد الأيمن للبطل أثناء رحلة سيره لتحقيق المجد، وهو يعمل في عكس اتجاه المضاد الذي يحاول بكل ما أوتي من قوة تسكين البطل عند نقطة صراع بدني أو نفسي تقيده عن الانطلاق للوصول للاختيار التمجيدي.