نحن البعيدون عن طريق التنمية

طريق التنمية الذي يمتد من الفاو جنوب العراق إلى الحدود التركية هو حلم عظيم لن يتحقق إلا إذا صحا العراق من كابوسه.

عن طريق التنمية في العراق لا يمكنني الحديث بالتفصيل. أكانت فكرة صينية؟ ذلك ما يُشاع. وتعلمت أن لا أصدق ما يُشاع. ولكن الصينيين لا يغامرون في بلد مثل العراق، هو عبارة عن دولة فاشلة، يمكن أن تفككها الميليشيات وتذهب بها رياح الأحزاب إلى الحرب بناء على حاجة إيران. وإذا كانت الصين صديقة لإيران فذلك ليس معناه أنها ستكون مستعدة لحرق مليارات الدولارات من أجل إسعادها. ولو لم يكن طريق التنمية حاجة إيرانية لما وافقت عليه الحكومة العراقية. ولكن ما من أحد في إمكانه أن يفسر ما نوع الحاجة الإيرانية. لا أحد يثق بإيران إلا أتباعها في العراق واليمن ولبنان. لا أسمح لنفسي بالتكهن بفشل المخطط العراقي لكنني لا أتوقع أنه سينجو من الفساد الذي سيتركه خطا على خريطة لن تغادر موقعها على الطاولة التي سيغطيها الغبار. سيلتحق طريق التنمية بالمشاريع الفاشلة التي سبق أن أعلنت عنها الحكومة العراقية.    

ولكن العراق في أمس الحاجة إلى أن يبحث عن طريق يقوده إلى العالم ويكون بمثابة ثمرة لموقعه الجغرافي نقطة وصل بين قارتين. فبالرغم من أنه يملك ساحلا على الخليج العربي غير أن صغر ذلك الساحل لا يؤهله للوصول إلى المياه الدولية. وكما يشير اسم الطريق فإنه لن يختص بنقل البضائع برا بل من المخطط أن يكون سببا للإنتعاش الاقتصادي في المدن التي يمر بها أو تلك التي ستُنشئ لخدمته. تظل تلك الأفكار أسيرة لرغبة الصين والهند في إيصال بضائعهما إلى العالم من غير المرور بقناة السويس. فليس من المجدي اقتصاديا أن تكون الطريق مقتصرة على نقل بضاعة العراق الوحيدة التي هي النفط.

السؤال المرحلي هو "هل يملك العراق من المال ما يغطي كلفة إنشاء الطريق؟" 17 مليار دولار (منها 6.5 مليار للطريق السريع و10.5 مليار دولار لسكة القطار الكهربائي) هو مبلغ ليس كبيرا بالنسبة لدولة نفطية مثل العراق. ذلك كلام نظري. أما الواقع فيؤكد أن العراق دولة مثقلة بالديون. في عام 2022 بلغت نسبة ديونه 44.9 من الناتج المحلي الإجمالي. والعراق الذي لا يصدر سوى النفط تعيل دولته أكثر من سبعة ملايين من الموظفين الذين لا تفارق انتاجيتهم نقطة الصفر. وهو ما يُسمى بالبطالة المقنعة. كل ذلك ما كان يحدث لولا أن العراق يقف على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم.   

فشل العراق عبر أكثر من عشرين سنة في اجتذاب استثمارات عربية وعالمية حقيقية وليست من النوع الكمالي والمؤقت وغير الثابت. فهل يستطيع أن يغري دولا كبرى في الاستثمار في طريق التنمية المحفوف مستقبله بالمخاطر من كل نوع؟ لقد استعانت شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق بجيوش الشركات الأمنية من أجل حماية أفرادها ومنشآتها من الغارات التي تقوم بها العشائر لأسباب نفعية كما أن غير شركة عالمية سبق لها وأن عانت من حالات اختطاف لكوادرها الذين لم يُطلق سراحهم إلا بعد أن تم دفع فدية كبيرة ومعناة مريرة.

العراق بلد غير آمن. لن تُخدع الدول الكبرى بالاستقرار السياسي الذي يطفو على السطح. معايير الأمان والاستقرار بالنسبة لدول ضليعة في جمع المعلومات الدقيقة تختلف عن معاييرنا ونحن لا نرى من البركان إلا فوهته. العراق هو في حقيقته بلد تسرح وتمرح فيه الميليشيات بسلاحها الفالت وما من واحدة من حكوماته قد سعت حقا إلى وضع حد لنشاط الميليشيات المرتبطة بدولة خارجية. كذبة أن تلك الميليشيات هي جزء من القوات المسلحة العراقية وتأتمر بأوامر القائد العام الذي هو رئيس الحكومة لا تمر على الدول الكبرى الخبيرة بالسرير وما تحته.

يحتاج رئيس الحكومة العراقية الحالي إلى ما يمكن أن يعتبره إنجازا لا على مستوى محلي حسب، بل وأيضا على مستوى عالمي. ولو كان طريق التنمية قابلا للتحقق لكان إنجازا عظيما حقا. ولكنه يكاد أن يكون أشبه بمشروع مترو بغداد الوهمي. دراسات ورقية متقنة ستوضع في الأدراج وعلى الرفوف. ولكثرة تلك الدراسات التي تكتظ بها وزارة التخطيط العراقية لا يجازف المرء حين يعتبر العراق دولة ورقية. وبسبب الفساد فإن كل ذلك الورق قد كلف الدولة العراقية أموالا لا يمكن استرجاعها.

طريق التنمية الذي يمتد من الفاو جنوب العراق إلى الحدود التركية هو حلم عظيم لن يتحقق إلا إذا صحا العراق من كابوسه. وهو أمر صعب.