نخب شبابية عراقية تعيد رسم إستراتيجية المرحلة

ها هم الفاسدون يغرقون بمد من شباب غاضب.

كنا نحن أجيال السبعينات في العراق وحتى في دول عربية، مغرمون باللهاث وراء النظريات الثورية التي تبعث في الشعب روح الثورة وحب الوطن والتضحية من أجله والعمل على رفع شأنه بين الأمم. وجدنا أنفسنا أمام نظريات قومية وماركسية وغربية وافكار إنسانية ودولية مختلفة تتصارع كلها على أرض العراق والمنطقة، وقد إختار الكثيرون منا الفكر القومي العروبي على أنه صاحب رسالة، يمكن ان تنتشل هذا البلد والوطن العربي من براثن الاستعمار ومخلفاته، وتضع حدا لطغيان الجهل والتخلف، وننتقل ببلدنا الى الحالة الأفضل التي يتمناها الإنسان العربي.

ولكن ما خيب ظننا أن الفكر ما ان تم اختباره على أرض الواقع حتى أصطدم بتحديات كبيرة ومواجهات دولية واقليمية ناصبتنا العداء، وشنت ضدنا حملات حروب شعواء، كانت دول الجوار بتحريض من قوى دولية هي من حالت دون تحقيق أماني أجيال ذلك الزمان أن ترى بلدها وهو يتسلق سلالم المجد. كما واجهت أجيال العراق أنذاك أنظمة مارست التسلط والانفرادية، وأرهقت شعبها في شن حروب كبلت البلد وشلت قدراته، بالرغم مما بنته من مرتكزات تنمية وبناء شامخ رصين في السبعينات والثمانينات، كانت مبعث فخر واعتزاز العراقيين، ووجدت فيه بعض الدول الطامعة فرصتها لان تحوله ما بين ليلة وضحاها الى ما يشبه الركام، وأعادتنا فعلا الى عهد القرون الوسطى كما توعدت أنذاك.

كنا نردد مفاهيم الثورة، وقد وجدنا أنفسنا أمام نظريات ثورية متفتحة، ولها إطار نظري جميل يسحر الأفئدة، ويرغمها على التماثل مع أفكارها ورؤاها، فكانت محط اهتمام منقطع النظير، لكن وقع الحروب التي شهدها العراق، هي من خيبت آمال الملايين، في ان يصل العراق الى إحدى القمم العالية التي كان مخططا لأن يصلها في غضون سنوات قلائل.

أما اليوم فما إن نبحث بين مخلفات السياسة وبين ركامها وانقاضها، فلم نجد سوى سلاطين حكم أفسدوا في الارض، وملأوا الدنيا ظلما وجورا.

بحثنا في كل دهاليز السياسة وبين مفردات ركامها، عما آل اليه ساسة العراق من انحطاط وتدهور اخلاقي وقيمي، بعد أعوام 2003 وما بعدها فلم نجد بين جنباتها ما يمكن ان نفسر به سلوك هؤلاء وانغماسهم في الرذيلة حد الانهيار.

لم يترك هؤلاء فاحشة إلا وارتكبوها، ولا رذيلة الا وانغمسوا بين عفونتها، وراحت روائحهم تزكم الانوف، واصبح تاريخهم مثلا سيئا ووضيعا لم تشهد له ساحات الدنيا مثيلا على مر الدهور.

لقد وجد شباب العراق منذ أكثر من عقد من السنين، أنهم بلا وطن، وهم مشردون داخل رقعتهم ووجدوا أنفسهم أنهم يعيشون على ارض بلدهم وهو مسلوب الارادة محطم القوى، يعيش حالات انفلات وتدهور قيمي واخلاقي فاق كل عصور ظلام القرون الوسطى ووحشيتها، في نهب الثروات وتسليم مقدرات الوطن للاغراب والطامعين، ولم يحموا الارض والعرض، وتراجعت قيم الحياة لصالح دسائس الساسة وخداعهم وفسادهم الذي ملأ الارض جورا وظلما وفواحش وموبقات، حتى استحقوا لعنة رب السموات، وهم ملعونون في الدنيا والاخرة ولهم في الاخرة عذاب السعير.

ساسة الزمن الأغبر سلكوا كل أبواب الدعارة السياسية والمجتمعية،وتحولوا من ساسة لخدمة أهداف مواطني البلد الى تجار نخاسة، يبيعون اعراض العراقيات في المزاد العلني.. مرة بإسم الدين ومرة بإسم الطائفة وفي أخرى، تحت مظلة ممن حولوهم الى عبيد أذلاء ورقيق يقدمون الخدمة والولاء لمن تربوا في مدارس العهر، ولقنوهم ان إشاعة الفاحشة هو من يعجل فرج العراقيين ومن يرفع عنهم كرباتهم، ويعيد لهم الوطن الذي إغتصبه من يريد أن يلحقنا بإمبراطويته، كأحد ضياعه التي يحقق عليها أحلامه ومبتغاه في تسليم رقاب العراقيين طعما لارادات دول تضمر لنا الشر والبغضاء.

لكن الشيء اللافت للنظر ويستحق الإشادة أن من عملن بالدعارة لم ينزلن الى مستوى الساسة وحافظ الكثير منهن على "بقايا" خلق وبقايا ضمير، وهن وإن بعن شرفهن في مستنقعات الرذيلة، في سنوات خلت، الا إنهن ما ان صحين حتى إكتشفن خطيئتهن وما اركتبنه من فواحش، حتى تركن هذه المهنة الحقيرة الوضيعة، الا ساسة العراق، فقد راحوا يوغلون بعيدا في مهاوي السقوط الاخلاقي، وتغلبت عليهم العاهرات في الوطنية بعد إن عادت لهن صحوة الضمير، وبعد أن أفقن من غفلتهن ووجدن أن بقائهن في أحضان هؤلاء الساقطين يعد من الكبائر التي لن يرحمهن رب العزة، وكفرن بهؤلاء الساسة وتخلين عنهم، ورحن يدعون الرحمن الرحيم الى التبرؤ منهم، عل رب العزة يتوب عليهن بعد إن وجدن أن ركوب أحضان العار والرذيلة يخالف الشرع والاخلاق، وانه ليس من بقايا الخلق الاستمرار في الإنحدار الاخلاقي الى ما لا نهاية.

ونحمد الله لأننا وجدنا في هذا البلد بعد عقود من السنين منابع شبابية أعادت لنا الأمل بثورة القيم وهم من أعادوا تلقين أجيال الشباب على حب الوطن والتفاني من أجله، وأن من رضع من صدر أمه حليبا طاهرا، لابد وأن يعيش كريم النفس أبيا شهما، لايقبل للضيم أن ينام في فراش أهله وعشيرته وبني جلدته، فهبوا بكل تلك الجموع التي واجهت ما واجهت من صنوف العذاب والقتل والترويع، من ممارسات ساسة سقطت أخلاقهم في وحل الانحدار الاخلاقي وتهاوت قيمهم الوضيعة وتدحرجت، ولكن شباب العراق ورجالاته الأشاوس هم من اعادوا لنا صياغة المرحلة الجديدة التي أشرق ضوءها الساطع في الافاق نورا وفرحا وبشارة خير، أن بين جنبات هذا الشعب وفي رحم أمهاته من يعيد لنا أمجاد القيم العليا، وهم من أعادوا للوطن اعتباره، وأكدوا أن الاوطان عندهم أقرب الى القداسة، ومن لا وطن له ولا كرامة ولا عيش رغيد لايستحق ان يقول عن نفسه أنه عراقي، وهو الذي يغترف من عمق التاريخ مايرفع رؤوس هؤلاء الفتية الميامين الى علياء السماء..وقد صدق فيهم قول الشاعر: ومن تغذ لبان العز في صغر إذا أدير بكأس الذل لم يذق.

لقد صدق فيهم قول رب العزة حقا "إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى" اؤلئك الذين واجهوا صنوف الضيم والقتل والاختطاف والتعذيب والتغييب والترويع بكل أشكاله، وتحملوا مشاق البرد والحر والزمهرير وحرموا من النوم والمأكل الذي يليق بهم، ووتحملوا وطأة بعدهم عن الأهل والاحباب وعن المدارس والجامعات وتخليهم عن كل شيء من أحلامهم الجميلة لصالح اعادة شمس الوطن التي سرقها العملاء والاذناب والصغار في أخلاقهم وفي إرتكاب الفواحش والموبقات، وبعضهم يعد نفسه من كبار القوم، وهو أصغر من ذبابة او حشرة، وتحطمت أصنام الكثيرين منهم بعد إن إنكشفت عوراتهم على الملأ، ولم تعد تسترهم عوراتهم عما ظهر من فواحشهم وما بطن.

شباب متفتحون فكرا ولباقة وبعد نظر واصرارا على الحياة وتقديم الأفضل، تسلحوا بالثقافة والوعي والمبررات المعقولة المتعقلة والمقبولة شعبيا. هم من يعلق عليهم العراقيون الآمال في إعادة الوطن المستلب الارادة والكرامة، وهم من يعيدون اليه شمسه وأقماره وكواكبه، لتنير ليالي الظلمة العراقية التي طال إنتظارها، وهم من نفاخر بهم الدنيا على أنهم الابطال البررة الميامين، وبعضهم صغار في السن، لكن الله وهبهم عقولا راجحة، وبصيرة قل نظيرها، وهم من سيكتبون للعراق عنوان انتصاره وفخره ويرسمون معالم بلد يرتقي الأعالي، وهم لا يملكون الا الولاء للعراق وللعراق وحده، والأكبر من ذلك والأجل قيما وتضحيات أنهم يرفضون أن يكونوا بيدقا بيد أحد، وهم الان يرسمون معالم استراتيجية النهوض الحضاري والقيمي الجديد، وقد اختبرت مواقفهم في ساحات التظاهر والمنازلات مع جبروت السلطة وطغيانها، فكانوا صخورا صلدة تتحكم عليها رؤوس الجبناء ومن باعوا بلدهم في المزاد العلني، ورهنوا إرادته لارادات دول، تريد أن يكون العراقيون لها أتباعا وعبيدا يقدمون لها فروض الطاعة والولاء، وما حسبوا ان أجيال العراق، هم نخيله الشامخ، وشمسه المشرقة وهم من يضعون حدا لكل من طغى وأفسد وتجبر، وقد بان نصرهم المؤزر، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من حلمهم المنشود، بعون الله وهمة أخيار العراق من نخبه الطيية الأصيلة ودعوات العراقيات الصابرات اللواتي أنجبن هؤلاء الفتية الميامين، وهم من يعلق عليهم العراقيون الآمال في أن ترتفع راية العراق شامخة ترفرف في العلياء، تزهو بألوانها الجميلة، مكللة بجلالة رب السموات والارض، وقد تشرفت بحمل راية الله أكبر، وهو الشرف الكبير الذي ما بعده شرف، وهو الوسام الذي يعلقه العراقيون على صدورهم مزهوين بكرم الباري، ولن تضيع راية تشرفت بحمل رايته وهو الجبار المهيمن، وإن الله على نصرهم لقدير.