نصير شورى الإستغراق في اللون للقبض على الذات

نصير شورى من أهم أعلام الفن التشكيلي في سوريا، وله دوره في وضع ركائزه وانطلاقته وتطويره، سعى لأكثر من نصف قرن.
شورى انعطف باتجاه مصر ليشفي غليله هناك وبنهم
زمن النبضات المتسارعة وهي تمضي في احتمالات مبهمة

"إنّ حبّي للطبيعة، كان المشجّع الرئيسي لي للمتابعة، فقد كنّا نقطن في منطقة المهاجرين، وفي منطقة تُحيط بها الحواكير في بيت خشبي قديم، فيه كلّ ما تشتهي، وكنت أنهض صباحًا على ضوء الشمس لأستمتع بالطبيعة الجميلة حولنا". فإذا كانت الطبيعة منذ البدء هي المحرك الأهم لنصير شورى (1920 - 1992 دمشق) والتي سيطرت على تجربته لفترة زمنية ليست قليلة، وإن زاوجها بواقعيته المعهودة فيما بعد، ليعود إلى الطبيعة في سنواته الأخيرة بعد أن خاض غماراً في تكثيف الطاقات اللونية مبرزاً عناصرها الأساسية، مهتماً بحركتها وتفاصيلها، فمن شأنه حينها أن تُضاء مصابيحه كلها موظفاً إياها في المجالات المختلفة مع توجيهها نحو المزيد من الراحة النفسية والمتعة الإنسانية. 
كيف لا تكون لمعطياته الإبداعية التفرد وعلى إنتباه ملحوظ في الزمن الصعب، زمن النبضات المتسارعة وهي تمضي في احتمالات مبهمة، وهو المتأمل أبداً في الطبيعة وفي روح فصولها العشرة، ليشعر بالإنتماء لتفصيلات اللحظة التي تكشف جوهرية الإنسان وما يمتلكه من حس يكبر معه، ويتبلل بدموعه خوفاً من أفق قد لا يأتي، فشورى بدأ بإكتشاف نفسه من خلال الطبيعة، النفس التي ستكشف له الطبيعة بدورها، فهذا الإصرار نحو إثبات الذات هو الذي سيرسم له هويته الفنية، وهو الذي سينزع له الإعترافات الكثيرة على أهميته وأهمية تجربته، فهو المسافر في دواخله بقدر إنفتاحه على جهاتها العشرة مع قدرته العالية في كسر كل الحدود فيما بينها، وهذا يقربه من دائرة لا يخشى من دخولها، فهو الحامل لأسرارها ومفاتيحها، الدائرة / المعبد الذي فيه سيمارس طقوس سفره والعوم فيه مع الكبار، الدائرة / المعبد الذي يتعبد فيه قافلة الكهنة من أصدقائه فاتح المدرس، محمود حماد، ميشيل كرشة، محمود جلال، رشاد قصيباتي، عبدالوهاب أبو السعود ، ....إلخ. 
وفي مقابل ذلك فهو عنيد في صخبه، لا يرهقه الغبار، ولا تضاريس الروح، مسكون بالبلاد وناسها، بالمكان ورائحته، بالذاكرة وألوانها، يضيف لمساته على التراث البصري، بل يواجهها بتداعيات تمردية قد تتطلب بقاء اللون الشرقي لكن بلغته هو، بلغة نصير شورى المنتمي إلى عالم تمنحه الوصول بحداثته في إكتشاف الطبيعة حتى بات من روادها، بحداثته اللونية في التجريد حتى بات الأكثر تفوقاً فيها من أبناء جيله، وهو المالك للقدرة الفائقة في التعامل مع اللون الواحد وتدرجاته، ولا يتطلب ذلك أية مقارنة، فهو الهارب إلى المساحات البيضاء بجرأته المعهودة، وبتطلعاته الغنية والكبيرة بغنى تجربته وحجمها. 

أقول ذلك من باب سفوحه العالية، وأشجاره الباسقة والمثمرة، من باب مهمته الحسية الإنسانية المكثفة بقيم لا تتآكل مهما عبث الزمن بها، من باب قطعه لمسافات غير مبرمجة ساهم بها وبلغته اللونية وبطاقاتها الروحية الهائلة في تشكيل إنسانيته التي لم يحد عنها مهما كانت الأعاصير غادرة، فمساحاته اللونية ليست مجرد بقع لونية - أقصده في تجربته التجريدية - بل يغزو بواباتها معلناً عن فتوحاته، ممارساً فيها طقوسه الداخلية وإكتشافاته، مظهراً إيماءاتها بتركيباتها الجديرة بالإهتمام من خلال تقديماته لأشكال غير محدودة، بحركاته الخاصة وما تحمله من دلالات، وما يلائمها من رموز، والخاضعة للحياة إلى حد الرسوخ، يعرض السكون والثبات، الإنقباض والإنبساط، التوازي والتقابل، الصعود والهبوط ليبقى بعده الخاص بالزمن في حالة نمو وحضور .
في أواخر الثلاثينيات من القرن الفائت حزم شورى حقائبه باتجاه إيطاليا لدراسة الفن، لكن سرعان ما عاد إلى سوريا بسبب إندلاع الحرب العالمية الثانية، لكن همته لدراسة الفن لم تقل، وذاته الباحثة عن زوادة طريقه لم تهدأ، ولهذا انعطف باتجاه مصر ليشفي غليله هناك وبنهم، ليمكث فيها خمس سنوات وهو يقترب من أعماق التشكيلات المهيمنة وقتذاك، يتنقل بين صالاتها ومتاحفها، يلازم فنانيها، يحاول إستكشاف كل ما لديهم بلمساته هو، وبرؤيته هو، فيمسك بالأشياء ويحركها بحركيته هو، يتناولها بفضول وتساؤل، باحثاً عن محركاتها الأساسية بطريقته هو، محاولاً الإرتقاء بها، لا يكتفي بالإستمتاع بالأشياء العادية بل يهتم في غورها بفضول ودهشة، لا يستجيب إلا لتلك المثيرات البصرية، إلا ما كان مصحوباً بإنفعالات تحفزه للإمساك بصوته هو والإنصات إليه إلى آخر غصن فيه وهو يتمايل متشوقاً لما يجري حوله، ليتخرج من جامعاتها سنة 1947، من كلية الفنون الجميلة /قسم التصوير، ويعود من جديد إلى دمشق ليبدأ بطرح موضاعات جديدة بمفاهيم جديدة، ففي الوقت الذي كان مجايليه منشغلين بواقعية تسجيلية، إنشغل هو بالطبيعة، يبحث عن أسرارها ليعلنها على الملأ وعلى مساحاته البيضاء حتى حاز على الريادة فيها، وفي ضوء المتغيرات العديدة التي أنجزها في الحركة التشكيلية السورية اتجه أكثر من جيل لينهل من نهره المتدفق أبداً والعذب جداً دون أن يتباهى بذلك، فأعماله هي التي تتحدث عن نفسها وهي التي تلفت الأنظار من حوله، وهي المتدفقة في نهره الذي عام ويعوم فيه الكثيرون .
بحق يعتبر نصير شورى من أهم أعلام الفن التشكيلي في سوريا، وله دوره في وضع ركائزه وانطلاقته وتطويره، سعى لأكثر من نصف قرن وبقوة العاشق بعشقه إلى تصوير الطبيعة بأشكال متنوعة تخصه هو بعمليات تجعله يمنح الرؤية فعلها للإقتراب من ذاته ومن ذات الأشياء أيضاً، فيعبر عن تلك الذات بتصورات تجذب نظر المتلقي على نحو يقظ حتى تحوز على بعض أفكاره، وإن بشيء من الإختصار، فهذه العملية الإدراكية واللاشعورية في الوقت نفسه، والتي يشترك فيها المتلقي أيضاً، والمتعلقة بتكوين اللحظة وتشكيلها، والتي ترتبط إلى حد بعيد بما يراه شورى من صور بصرية في ضوء المشهد ومشاركته في الكشف عن الطريقة التي بها ستتفاعل الجوانب كلها مع بعضها، وفي الحالات كلها بما فيها حالة الإستغراق في المرآة للقبض على الذات وتعزيزها، ليكون ذلك مدخلاً لإستثارة التجربة بعوالمها المختلفة وعواملها المتماسكة وإخضاعها لخبرته الخاصة مع التوحد مع الذات وإستحضارها بمتخيّلات تعكس فعلي الإنتاج والمشاهدة كمأوى لمعلومات تميل إلى إختيار ما يدفع إحساسنا نحو إستكشافات لا يمكن أن تغادرها المتعة الجمالية .